النظام الجزائري.. أسير الشيخوخة وإرث الماضي وأحقاده
حين بث التلفزيون الرسمي الجزائري مشاهد استقبال رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون لنظيره الرواندي بول كغامي، يوم 3 يونيو 2025، كان في حقيقة الأمر، ودون أن يدري، يضع الرَّجُلين في خانة المقارنة، أحدهما ستيني عاش أهوال الحرب الأهلية الرواندية بين الهوتو والتوتسي ما بين 1990 و1994، التي كان خلالها قائدا ميدانيا، وحمل فيها السلاح ليُقاتل في الجبهات الأمامية، لكنه استطاع توحيد البلاد وطي صفحة الماضي وتوصَّلَ إلى مُصالحات تاريخية مهدت لدولته الصغيرة، التي لا تتعدى مساحتها 26.338 كيلومترا مربعا، إقلاعًا اقتصاديًا يُحتذى به.
أما الثاني، فهو رجل على مشارف الثمانين، غير قادر على العيش خارج صندوق "ثورة التحرير" و"بلد المليون شهيد" و"حرب الرمال" وصرخة الرئيس أحمد بنبلة في الستينات: "حكرونا المغاربة"، ثم عبارات الحسرة على لسان خليفته ورفيق دربه المُنقلِب عليه، هواري بومدين، في السبعينات: "ما عنديش الرجال"، ليقرر إبقاء "العداء للمغرب" عقيدة أبدية، عليها يستند حكمه، وعليها يقوم النظام الذي يحميه ويضمن استمراريته، حتى وهو يرى بلاده الغنية بالنفط والغاز وبثروة بشرية تقارب 45 مليون نسمة، ومساحة مهولة تفوق 2,38 مليون كيلومتر مربع، لدرجة وصفها في الإعلام الرسمي بـ"القارة"، غير قادرةٍ على الخروج من براثن الفقر والهشاشة والفساد، وأكثر ما يخشاه شبابها هو أن تُغلَقَ أمامهم أبوابُ الهجرة إلى فرنسا، التي يتوعدها النشيد الوطني منذ تأسيس الجزائر قبل 63 عاما قائلا: "إنَّ ذا وقتُ الحساب، فاستعدي وخُذي منا الجواب".
وإذا ما أردنا فهم أسباب هذه المفارقات، سيسهل علينا ذلك كثيرا لو ذهبنا إلى الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية الجزائرية، ففي إحدى المنشورات تظهر صورة لمُرافقي الرئيس كاغامي، وكلهم تقريبا ذوو ملامح شابة، تشي بأنهم في الأربعينيات من العمر على أقصى تقدير، ثم تظهر بعد ذلك مباشرة صورة لتبون وهو محاطٌ، يمينا ويسارا، بشِلة من الطاعنين في السن، الذين تفوق أعمارهم، قطعًا، عمر الجمهورية نفسها.
ذاك هو الفرق الجوهري، بين من اختار تجديد هياكل الدولة والاعتماد على عقولٍ شابة تأتي بأفكار جديدة متجاوزةٍ لإرث الماضي وهمومه وأحقاده، وبين نظام اختار الاستمرار في استيراد المسؤولين من الزمن السحيق، حيث لا زالوا يعيشون على "أوهام" خارج السياق، بُنيت في زمن الحرب الباردة وما قبلها، وأصبحت الآن بالية عتيقة مُتجاوزة، لا تصلح إلا للمتاحف.. من أجل أخذ العبرة لا أكثر.
تبون، الرئيس الذي يُفترض أنه أتى حاملا وعدًا بتلبية طموح الحراك الشعبي لسنة 2019، الذي رفع شعار "يتنحاو كاع" (فليتنحوا جميعا)، بات يستحق أن يُوصف بعبارة "جدي تبون" عوض "عمي تبون" المتداولة في الداخل الجزائري، فالرجل، وهو أساسا ابن العهد السابق، سيُكمل 80 عاما في نونبر المقبل، وسيسبقه إلى ذلك شريكه "الفعلي" في السلطة، الفريق أول السعيد شنقريحة، الذي أضاف صِفة الوزير المنتدب لدى وزير الدفاع، في نونبر 2024، إلى صفة رئيس أركان الجيش، ليكون جزءا من الحكومة.
حتى الوزير الأول، نذير العرباوي، الذي يقود ثاني حكومة في عهد تبون، فهو رجل يُقارب سنهُ 76 عاما، أما وزير الدولة المكلف بالخارجية أحمد عطاف، فسيحتفل، إن مد الله في عمره، بعيد ميلاده الـ 72 في يوليوز المقبل، وهو السن نفسه الذي بلغه وزير الداخلي إبراهيم مراد، في حين أن رئيس مجلس الأمة، المنتهيةِ ولايته مؤخرا، صلاح قوجيل، أتم 94 عاما في يناير الماضي، ورغم ذلك فإنه لم يغادر منصبه إلا قبل أسبوعين بعد أن رفضت المحكمة الدستورية تمديد عهدته.
لكن، لماذا كل هذا التنقيب في تواريخ ميلاد صناع القرار في الجزائر؟
في الحقيقة، الأمر لا يتعلق بالسن وحده، فالرئيس الأمريكي دونالد ترامب مثلا، الذي سيُكمل بعد أيام 79 عاما، مُحاطٌ بجيش من المسؤولين الشباب الذين وُزعوا على العديد من مواقع المسؤولية، مثل نائب الرئيس جي دي فانس، ووزير الخارجية ماركو روبيو، ووزير الدفاع بيتر هيغسيث، والمدعية العامة بام بوندي، وحتى المُغادر مؤخرا للبيت الأبيض، العبقري غريب الأطوار إيلون ماسك، هؤلاء كلهم لهم دور في صناعة أفكار جديدة.. قابلة للنقاش وللأخذ والرد، نعم، لكنها لا تستند مثلا إلى ترسبات الحرب العالمية الثانية، أو إرث الصراع مع الاتحاد السوفياتي.
في الجزائر، الأمر مختلف تماما، حيث لا يزال الجميع تقريبا ينتظر فرصة "الانتقام" من المغرب، ويكاد جميع مسؤولي الصف الأول في الدولة يُجمعون على ضرورة اقتطاع الصحراء من تراب المملكة قبل أن يوضعوا في قبورهم، لذلك لم يكن من الغريب أن يبدأ وزير الخارجية السابق، رمطان العمامرة، تلاوته لـ"مسببات" قطع العلاقات الدبلوماسية مع الجار الغربي سنة 2021، بهزيمة حرب الرمال سنة 1963، قبل أن يمر إلى ضم الصحراء سنة 1975.
الثابت الآن أن العالم أصبح يعي أن التاريخ لن ينتظر الجزائر، وأن الأولوية للمَصالح، وأن المبدأ الأكثر استدامة هو مبدأ "رابح – رابح"، وأن "البراغماتية" و"الحكمة" تتفقان على ضرورة طي صفحات الماضي والشروع في بداية جديدة، لذلك يبدو قصر المرادية عاجزًا عن فعل أي شيء ملموس، سوى سحب السفراء أو اللجوء إلى دبلوماسية "ردود الفعل"، وهو يرى المياه تجري أوديةً من تحته بخصوص قضية الصحراء، بعدما انتبهت دول عديدة إلى أن المضي مع المغرب في مسار "المصلحة، هنا والآن"، تقتضي أولا الخروج من منطقة الراحة بخصوص هذا الملف الذي عمَّرَ لخمسين عاما.
ومنذ 2007، قرر المغرب عدم الانتظار، ووضع مقترح الحكم الذاتي في الصحراء تحت سيادة المملكة على طاولة الأمم المتحدة، على شكل وثيقة مُركزة قابلة للنقاش والتفاوض، داخل إطارها لا خارجه، ولا داخل أي إطار آخر، كان اسمه "استفتاء" أو "تقسيما"، أو غيرهما، ومع توالي السنوات لم يعُد للرباط وقتٌ آخر تضيعه في مرحلة "الجمود"، لذلك أعلن عاهلها في 2022 أن "ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات"، مضيفا، في خطاب ثورة الملك والشعب "ننتظر من بعض الدول، من شركاء المغرب التقليديين والجدد، التي تتبنى مواقف غير واضحة، بخصوص مغربية الصحراء، أن توضح مواقفها، وتراجع مضمونها بشكل لا يقبل التأويل".
وبعد الاعتراف الأمريكي في أواخر سنة 2020، أتى الدعم الألماني للمقترح المغربي في 2021، ثم إقرار إسبانيا، المستعمر السابق، في 2022 أن الحكم الذاتي في الصحراء تحت السيادة المغربية، هو الأساس "الأكثر جدية وواقعية ومصداقية" لحل النزاع، قبل أن يعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 2024 أن بلاده تعتبر أن "حاضر ومستقبل الصحراء يندرجان ضمن السيادة المغربية"، وقبل هذه الدول وبعدها، كانت العديد من بلدان العالم، من المنطقة العربية وإفريقيا والاتحاد الأوروبي وأمريكا اللاتينية والكاريبي.. تحسم موقفها من الملف بدعم الطرح المغربي بدرجات متفاوتة، وصلت حد افتتاح قنصليات في العيون والداخلة، قبل أن تنضم المملكة المتحدة إلى الركب، داعية بصراحة إلى "استغلال الفرصة الحالية" لطي الملف نهائيا.
المؤكد أن هذا المسار، الذي تواجهه الجارة الشرقية بـ"الإنكار المُزمن"، ليس وليد الصدفة، ولم تستند نتائجه إلى سواد عيون المغاربة، بل تحكمه لغة المصالح المشتركة، التي يعرضها بلدٌ يعج بالفرص الجديدة أو التي لم تستكشف بعد، وربما كان على الجزائر أن تعي أن منطلقاتها العتيقة باتت على الهامش، حين أعلنت غانا، ثم كينيا، نفاذ رصيد "دعم الجزائر لاستقلالهما"، ومكنتا المغرب من تحقيق اختراق استراتيجي في إفريقيا الأنغلوفونية، الأقرب عادةً لمحور الجزائر الثلاثي مع جنوب إفريقيا ونيجيريا، الذي بات هو أيضا مُجمدا بعدما التفتت أبوجا إلى مشاريعها المستقبلية المشتركة مع المغرب.
كان على تبون وشنقريحة، وقد مدّ الله في حياتهما إلى مرحلة تُسمى "أرذل العمر" أن ينتبها إلى كلام وزير الخارجية الإسباني خوسي مانويل ألباريس، في حوار إذاعي شهر أبريل الماضي، حين قال إن هناك من يرغب في إبقاء مشكلة الصحراء مستمرة لـ50 عاما أخرى، مبرزا أن بلاده ليست مستعدة لذلك، فإن كان هذا الكلام المباشر والواضح صعبا على استيعابهما، فليُنصتا على الأقل لكلام وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي، الذي أعلن أن بلاده اختارت دعم الأساس "الأكثر براغماتية وقابلية للتطبيق"، مضيفا "مع اقتراب مرور خمسين سنة على هذا النزاع، وبفضل التزام دولي متجدد، تتاح أمامنا فرصة للمضي قدما في هذا الملف".
والمؤكد أن هذه "الفرصة" متاحة الآن للجميع، وللمفارقة، فإن أول بلد مدعو للاستفادة منها هي الجزائر، ليس فقط من خلال بناء فضاء مغاربي إقليمي تكامُلي اقتصاديا ومُستقر سياسيا وقوي أمنيا وعسكريا، بل كذلك سيكون للحل المُستقبلي انعكاس مباشر على مصالح البلاد أيضا، فالعاهل المغربي الذي سبق أن وجه للمسؤولين الجزائريين كلاما مباشرا في العديد من خُطبه، انطلاقا من سياسة "اليد الممدودة"، أعلن أيضا أن الوصول إلى المحيط الأطلسي ممكن، لكن فقط تحت سيادة المملكة.
في خطابه بمناسبة الذكرى التاسعة والأربعين للمسيرة الخضراء، في 6 نونبر 2024، قال الملك محمد السادس "هناك من يستغل قضية الصحراء، للحصول على منفذ على المحيط الأطلسي، لهؤلاء نقول: نحن لا نرفض ذلك، والمغرب كما يعرف الجميع، اقترح مبادرة دولية، لتسهيل ولوج دول الساحل للمحيط الأطلسي، في إطار الشراكة والتعاون، وتحقيق التقدم المشترك، لكل شعوب المنطقة"، قبل أن يضيف أن "الشراكات والالتزامات القانونية للمغرب، لن تكون أبدا على حساب وحدته الترابية، وسيادته الوطنية".
وهي رسالة فهمتها مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وحتى موريتانيا، بل فهمتها معظم دول العالم، لكن الجمود الفكري، والرؤية الاستراتيجية العتيقة، وعيش "القادة" على عُقد الماضي، عواملُ جعلت استيعاب الجزائر معطلا، وقد يضل كذلك إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
تعليقات
بإمكانكم تغيير ترتيب الآراء حسب الاختيارات أسفله :