إلغاء "عيد الشباب".. هل هو تحول داخل المؤسسة الملكية؟
لم يكن بلاغ وزارة القصور الملكية والتشريفات والأوسمة، المعلن عن إلغاء الاحتفال الرسمي بعيد ميلاد الملك محمد السادس، وبالتالي ذكرى "عيد الشباب" التي كانت تعد "مناسبة وطنية"، ليمر دون أن يتطلب قراءة عميقة في الإشارات المرافقة له، خاصة وأنه يأتي عقب خرجات أخرى للمؤسسة الملكية، تؤكد أن السنوات المقبلة لن تكون كسابقاتها، حيث سيشمل التغيير المنتظر، والمشَدَّد عليه في الخطابات الملكية، الحكومة والإدارات وكذا القصر الملكي.
ملكية جديدة
جاء في بلاغ وزارة القصور الملكية والتشريفات والأسمة، الصادر بتاريخ 13 غشت 2019، أن الملك محمد السادس أصدر "أمره المنيف بأنه سوف لن يقام، ابتداء من هذه السنة، الحفل الرسمي بالقصر الملكي احتفاء بعيد ميلاد جلالته السعيد والذي جرت العادة إقامته يوم 21 غشت من كل سنة"، وهو ما يعني أن الاحتفال بعيد ميلاد عاهل البلاد، الذي اتخذ طابعا رسميا منذ 1956 في سياق تاريخي خاص متسم بالصراع بين الملك الراحل الحسن الثاني والحركة الوطنية، سيُلغى بشكل نهائي لا استثنائي.
ورغم أن الخطوة الأخيرة لم تكن متوقعة، لكن السياق العام الذي جاءت فيه يظهر قيام القصر بعدة خطوات تصب في خانة "التغيير المستقبلي"، ففي 14 يونيو 2019، أعلنت وزارة القصور الملكية والتشريفات والأوسمة أن "الاحتفالات بالذكرى العشرين لهذه السنة ستتم وفق العادات والتقاليد الجاري بها العمل، وذلك على غرار السنوات السابقة، وبناء عليه، فإن مختلف المؤسسات والهيآت والفعاليات الوطنية مدعوة لتخليد هذه المناسبة السعيدة بطريقة عادية، ودون أي مظاهر إضافية أو خاصة"، وجاء ذلك في الوقت الذي كانت فيه العديد من المؤسسات الرسمية تستعد للاحتفال بهذه المناسبة بشكل صاخب.
إشارات من داخل القصر
يرى المفكر والباحث الأكاديمي محمد جبرون أن الخطوة الملكية الأخيرة تحمل إشارة بتخفيف عادات قديمة مستقرة منذ فترة ما بعد الاستقلال، إذ يريد القصر التقليل من أشكال التعاطي مع "الصورة التقليدانية المبالغ فيها للنظام الملكي المغربي"، ويضيف المتحدث أنه لا يمكن الفصل بين إلغاء الاحتفال الرسمي بعيد الشباب وبين عدم المبالغة في مظاهر الاحتفال بالذكرى العشرين لعيد العرش، خاصة وأنهما متقاربان زمنيا.
ويشير جبرون إلى وجود "تحول هادئ وغير راديكالي داخل المؤسسة الملكية، فالعديد من الطقوس لم تعد مناسبة للعصر الحالي، ولا تتماشى والتحولات التي تشهدها المملكة ويشهدها أيضا محيطها الإقليمي والدولي"، خالصا إلى أن الملكية حاليا "تتجه نحو التحديث، فهي تحافظ على بعض التقاليد الدالة على العراقة والقدم، لكنها تحذف المظاهر التي قد تحمل إشارات سلبية في علاقة الملكية بالشعب".
نحو ملكية برلمانية؟
يوما واحدا قبل الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى العشرين لعيد العرش، كان لمستشاري الملكي عمر عزيمان وعبد اللطيف المنوني، خروج إعلامي غير معهود عبر وكالة الأنباء الفرنسية، تحدثا من خلاله بنوع من النقد الذاتي واستشراف المستقبل، عن مرحلة حكم الملك محمد السادس، وحينها لم يخفِ المنوني أن المغرب يسير نحو نظام الملكية البرلمانية.
وقال المنوني "نحن على طريق ملكية برلمانية، لكن بطبيعة الحال ما تزال ثمة ربما بعض المقتضيات التي يلزم تجويدها"، وهو كلام لم يصدر عن شخص يحمل صفة مستشار ملكي وفقط، بل أيضا فقيه في القانون الدستوري له علاقة شخصية بالملك، فهو كان أستاذه في الجامعة، وفيه وضع الثقة لترؤس لجنة صياغة دستور سنة 2011.
ورغم أن جبرون لا يرى أن لهذا التصريح علاقة مباشرة بإلغاء الملك عيد الشباب، كون أن هذا النوع من الملكية قد يتم في ظل مجموعة من العادات الشكلية، إلا أنه يرى أن السياق العام يوحي بأن الملكية في المغرب مستقبلا ستكون "برلمانية" بالفعل، معلقا "نحن ذاهبون إلى هذا النوع من النظام الملكي، ولكن ببطء".
إلا أن الكاتب والمفكر السياسي عبد الصمد بلكبير، يرى في الخطوة الملكية الأخيرة نوعا من التحول الفعلي في النظام الملكي، فالملك "يريد التخلص من التقاليد الثقيلة التي تحيط بهذه المؤسسة، وهي التقاليد التي كانت تُصعب الأمور في هذا البلد، كون أن الكثيرين كانوا يستفيدون منها لتحقيق منافعهم الذاتية".
ويسترسل بلكبير مفسرا "كان أي انتقاد لتلك التقاليد يستنفر محيطات الملك، وأقصد جهات في الداخلية والجيش وأصحاب الأموال، الذين كانت حفيظتهم تثور كونهم كانوا يختبؤون وراءها لحماية مصالحهم، لذلك يقفون في صدارة المدافعين على بقائها". بلكبير الذي قال إنه "من الناس الذين فرحوا بالخطوة الملكية واعتبروها مؤشرا إيجابيا جدا"، ربط الأمر بالعديد من "الإشارات الأخرى، مثل احتفال الملك بعيد العرش خارج مدينة الرباط، وتوكيل ولي العهد بالقيام بمجموعة من المهام نيابة عنه، ثم غياب الاحتفالات المبالغ فيها بالذكرى العشرين لعيد العرش"، متوقعا "أننا ابتداء من الدخول السياسي المقبل قد نرى ملكية جديدة في المغرب".
"ثورة بيضاء"
ويبدو أن العشرين سنة الماضية مكنت الملك محمد السادس من إعادة تقييم العديد من اختيارات المؤسسة الملكية، وهذا ما يشير إليه بوضوح عبد الصمد بلكبير، إذ إنه "صار يأخذ الأمور بجدية أكثر من السابق، بعدما اكتشف أنه خدع من الناحيتين السياسية والإديولوجية"، يقول المتحدث. ويرتكز الكاتب والمفكر اليساري على قراءته السيميائية الخاصة لوجه وحركات الملك، إلى جانب مجموعة من الإشارات السياسية الأخيرة، ليخلص إلى أن تركيزه صار أكبر على العديد من الأمور الرئيسية داخل الدولة، مثل الدعوة لتعديل حكومي عبر الاعتماد على ذوي الكفاءة، لكن التغيير الأكبر حسب المتحدث "هو ذاك المتوقع على مساوى الإدارات، فهناك يوجد المخزن الحقيقي".
ويضيف بلكبير أن الملك يتوفر على معلومات حول واقع البلد أكثر من أي شخص آخر، و"يبدو أن ما وصل إليه جعله يفقد الثقة في أشخاص من محيطه، وينتبه إلى أن المرحلة الحالية مشابهة لزمن السكتة القلبية سنة 1996، الذي استدعى من الملك الراحل الحسن الثاني تغييرا دستوريا وسياسيا جذريا"، موردا أن "الملك محمد السادس لم يركب رأسه، فهو يشاهد أن العالم حولنا يتغير وأن الثورات وصلت للجزائر وتونس، لذلك اختار القيام بثورة بيضاء من داخل القصر والدولة".
ملكيون أكثر من الملك
أعادت الخطوات الأخيرة للمؤسسة الملكية، المبادرة لإحداث قطيعة مع العديد من العادات والتقاليد التي كان المتخيل العام للمغاربة يحيطها بنوع من "التقديس"، طرح سؤال حول إمكانية مجاراة العديد من المؤسسات لـ"موجة التحديث الجديدة".
ويبدو هذا السؤال منطقيا حين معاينة "مقاومة" بعض الجهات لقرار ملكي بتبسيط احتفالات الذكرى العشرين لعيد العرش، ففي جماعة الرباط مثلا فجر فريق فيدرالية اليسار الديمقراطي مفاجأة من العيار الثقيل، حين كشفت أن المجلس الجماعي الذي يقوده حزب العدالة والتنمية، سحب 4 ملايين درهم من الدفعات المخصصة لقطاع الصحة من أجل إقامة مهرجان بمناسبة عيد العرش العشرين.
وفي هذا السياق، يقول أستاذ القانون العام بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالرباط، العباس الوردي، إن البلاغ الأخير لوزارة القصور الملكية دليل على أن الملك "يريد تدشين عهد جديد قائم على عقلنة تدبير الموارد والنفقات"، بالإضافة إلى كونه "درسا في الحوكمة للسلطة التنفيذية ولعموم المواطنين".
ويرى الأستاذ بجامعة محمد الخامس بالسويسي أن "الملكية المواطنة صارت تُفَعَّل، وأن مبدأ دولة الحق والقانون يجب أن يكون هو السائد، فعيد ميلاد الملك صار شأنا خاصا به وبالعائلة الملكية"، مضيفا أن الملك "أصبح يبعث إشارات مباشرة لشعبه مفادها أنه يلتفت لأموره دون حاجة لوساطة".
ودعا الوردي الحكومة والسلطة التشريعية وكل مؤسسات الدولة إلى استخلاص الدروس من هذه الخطوة ومن خطاب العرش الأخير، "إذ إن الأولوية يجب أن تكون لبناء دولة المؤسسات الحديثة المتزنة القائمة على الكفاءة والاستحقاق، وإلى تحمل كل جهة لمسؤولياتها في القيام بتدبير استراتيجي معقلن بعيدا عن المغالاة".