ياسين الطالبي
الجمعة 6 يونيو 2025 - 17:54

ابن عربي والعقيدة التي حاولت اعتقال النور

«حين يصبح الله هوية جماعية»

في غفلةٍ من العقول، ووسط ضجيج التجمعات البشرية التي كانت تسعى إلى تنظيم نفسها في شكل دولٍ وهيئاتٍ وفرقٍ ناجيةٍ من الضياع، تحوّل اسم "الله" من نداءٍ سرّيٍ خفيٍّ يتردد في أعماق القلب العاشق، إلى لافتةٍ معلقةٍ فوق كل رأس، ومسطّرةٍ في صكوك الانتماء العقائدي، ومنقوشةٍ على جدران المعبد لا على جدران النفس.

لم يعد الله ـ في التجربة الدينية المؤسّسة ـ ذاك الكائن الذي تُطلب رؤيته بالدموع، وتُذاق حضرته بالصمت، بل أصبح كيانًا مفاهيميًا جاهزًا، محكومًا بأطر اللغة والحدود والفتاوى، تُدار علاقته بالناس كما تُدار العلاقة بين الراعي والرعية، بين الحاكم والمحكوم، بين المؤسسة ومنسوبيها.

لقد تحوّل الله في العقل الجمعي للمجتمعات الدينية إلى سلطة معنوية عليا، لكنها موكلة ـ بطريقة خفية ـ إلى جماعات بشرية تحتكر الحديث باسمه، وتنصّب نفسها ممثلًا حصريًا له، تصدر بطاقات الولاء الإيماني، وتطرد الخارجين من حظيرته إلى دوائر التبديع والتكفير، وتحكم على ما يُقال، لا بميزان الذوق، بل بميزان الجماعة.

هكذا وُلد «إله الجماعة»، ذلك الإله الذي لا يُطلب بالحب بل يُؤطّر بالخوف، ولا يُصل إليه بالعزلة بل يُؤكَّد وجوده بالانتماء، ولا يُسأل عنه بذات الفرد، بل يُعرف عبر ما تقوله الجماعة عنه. هذا الإله لا يطيق الشك، ولا يحتمل التأويل، لأنه خُلق كوظيفة اجتماعية تهدف إلى حفظ النظام أكثر مما تهدف إلى كشف الحقيقة.

وفي مواجهة هذا الانحراف الرهيب، ظهر ابن عربي لا كمنكرٍ للدين، ولا كمتصوّف هارب من الواقع، بل كمرآة حارقة عكست الصورة إلى ما بعد حدودها. لم يأتِ ابن عربي ليهدم، بل ليكشف. لم يكن ثائرًا على الدين، بل كاشفًا لوهنه حين يُفرّغ من ذوقه، ويُختزل في ضبطه. لم يقف ضد الشريعة، بل ذاب فيها حتى تجاوزها إلى روحها، ثم إلى الحقيقة التي كانت دائمًا أعلى من الحرف، وأعمق من الصياغة.

إن ابن عربي، في عمق تجربته، لا يُشكل تهديدًا للعقيدة بوصفها إيمانًا، بل تهديدًا للعقيدة حين تُستعمل كسياجٍ جماعي يضبط النفوس لا ليهديها، بل ليحاصرها، ويُقنّن الطريق إلى الله، ويمنع كل من لا يسلك المسلك الرسمي من رؤية النور. هو عدوٌ طبيعيٌ لكل محاولة لتأميم المعنى، وخصمٌ صامتٌ لكل نظامٍ يحاول أن يحوّل الله من معشوقٍ يتجلّى، إلى فكرة تُسوَّق، أو خطاب يُصادَر، أو إلهٍ يُدافَع عنه بعصا الجماعة لا بدموع العاشق.

وهنا تتشكّل فرضية هذا البحث أننا، عبر تتبع المسار الفكري والعرفاني لابن عربي، سنكشف أن الأزمة ليست بين التصوف والفقه، ولا بين العرفان والشريعة، بل بين «إله يُطلب في الفرد» و*»إله يُفرض في الجماعة»*، بين إيمانٍ يُولد من تجربة، وآخر يُفرض من مؤسسة، بين الله الحيّ الذي يُشهَد بالذوق، والله الصامت الذي يُتداول في كتب العقائد والردود والمناظرات.

سنسأل، لا بنبرة اتهام بل بحنين إلى الأصل:

هل ما يُعبد اليوم هو الله كما عرفه العارفون، أم نسخة مطبوعة باسم الجماعة؟

هل العقيدة نافذة إلى الحقيقة، أم جدارٌ يمنعنا من رؤيتها؟

وهل كان ابن عربي زنديقًا، أم نبيًّا للذوق في زمنٍ احترفت فيه الجماعة احتكار المعنى؟لقد كتب ابن عربي، ولم يشرح نفسه، لأنه أدرك أن النور لا يُقال، بل يُذوق.

«من الشهادة إلى الشَرْط»

في البدء كانت الكلمة، نداءً داخليًا ينبض في عمق الوجود الإنساني، لا تُلقَّن بل تُوقظ. كانت العقيدة وعدًا بالانفتاح، لا وثيقة انضمام. كانت الشهادة حدثًا وجدانيًا أشبه ببرق داخلي يُشعل القلب فتشتعل معه الرؤية، لا معاملة إدارية تُوقَّع أمام موظف سماوي يُصادق على هوية إيمانية. لكن شيئًا فادحًا وقع بعد ذلك: تسرّبت البيروقراطية إلى مملكة الروح، وتم تحويل الشهادة من لحظة إشراق إلى عقد انتماء، ومن علاقة حيّة بالله إلى توقيع جماعي يُستخدم كوسيلة فرز، وفرمان سياسي، ومعيار أمني لحراسة المعنى.

لقد تحوّلت العقيدة، في نسختها الجماعية، إلى جهاز ضبط دقيق لا يهدف إلى حماية الحقيقة بل إلى حماية الجماعة من السؤال. لم تعد وسيلة بحث، بل صارت نتيجةً جاهزةً تسبق أي تجربة، وتعلو على أي تأمل. أصبحت العقيدة بذلك مِسطرةً تقيس بها الجماعة درجة ولائك، لا بوصلتك نحو الله.صارت العقيدة واجبًا مدنيًا لا إشراقًا وجوديًا، تُختبر فيها نواياك لا بمقدار الحنين الذي يسكنك، بل بمقدار انضباطك في ترديد الصيغ المقبولة، ومقدار بعدك عن المفردات المريبة، والعبارات التي قد تُفهم على غير مراد الجماعة.

تحوّلت العقيدة إلى جهاز مراقبة لغوية، وإلى منطق عقابي يتتبع الجملة قبل أن يتتبع الشعور، ويتفنّن في تأويل الشك على أنه بدعة، والتأمل على أنه خروج، والاختلاف على أنه ارتداد.كان يُفترض في العقيدة أن تكون مدخلًا إلى الحقيقة، لكن الجماعة حوّلتها إلى درعٍ يحميها من الحقيقة إن جاءت من خارج السياج. لا تسأل عن التجربة، بل سلّم بالنص، لا تنظر بعينك بل بنظارات الجماعة، لا تجرؤ على أن ترى الله دون إذنٍ مكتوب من الحراس.

في هذا السياق، لم يعد الله غاية، بل صار خلف سياج العقيدة، يُسمح برؤيته كما يُسمح للطفل برؤية النار من خلف زجاجٍ سميك: لا تمسّ، لا تقترب، لا تفكّر، فقط انتمِ.ما جرى في بنية العقيدة الجماعية لم يكن ناتجًا عن نية سوء، بل عن خوفٍ متراكم من الفوضى، والخروج، والاختلاف. ولكن الخوف، حين يتحوّل إلى فلسفة، يُنتج آلهة مشوهة تُعبد لا لأنها تستحق، بل لأنها تضمن الأمان.

وهكذا، صار إله العقيدة الجماعية إلهًا يُخشى أكثر مما يُحب، وتحوّلت العقيدة من زادٍ للطريق إلى سلاحٍ يُرفع على من يسير في طريقٍ مغاير.

الجماعة لا تخشى الكفر بقدر ما تخشى الانفراد. الكافر معروف، يمكن تصنيفه، مواجهته، ردّه. أما من قال: «أنا أبحث عن الله دون أن أحمل خريطة الجماعة» فذاك خطرٌ لا يُحتمل. لأنه يشير، بكينونته الصامتة، إلى أن الطريق لا يُرسم بالحشود، بل يُفتح بكلمة ذوق، وأن الإيمان لا يحتاج إلى هندسة جماعية بقدر ما يحتاج إلى صدق فردي.ولهذا كله، كان لا بد من العقيدة، لا كطريق، بل كشرطٍ مسبقٍ للدخول في الجماعة.

وكان لا بد من الضبط، لا كأداة تربية، بل كجهاز مراقبةٍ على حدود الكلام والمعنى.

وكان لا بد من صياغة الإله نفسه، لا كما هو، بل كما يجب أن يكون في نظر الجماعة:

إلهًا مطبوعًا مسبقًا، مختومًا بختم العقيدة، ومحرّرًا في دوائر الضبط الإيماني العام.وهنا، لا يمكن فهم ابن عربي إلا كمن جاء من خارج هذا السياج كله، لا لينكر الله، بل ليحرّره من إدارة الجماعة، لا ليهدم العقيدة، بل ليعيدها إلى أصلها المفقود: شهادةُ ذوقٍ لا شرطُ انتماء.

«الإيمان الذي لا يُعرّف»

لم يُخلق الذوق ليُصنَّف، تمامًا كما لا تُقاس الرعشة في عروق من شاهد البحر أول مرة بمعايير الجغرافيا، ولا تُحدَّد محبة الأم بحسابات الكيمياء، ولا يُوصف الشوق إلى الله كما يُوصَف لون البشرة أو مكان الولادة. الذوق ليس اعتقادًا يُدرَّس، ولا مقولة تُختبر، ولا ورقة تُملأ عند باب المسجد أو عند أول الطريق، بل هو تلك المساحة الحارقة في أعماق النفس، حيث لا هوية تُقدَّم، ولا انتماء يُشهر، بل مجرد شعور عارٍ بالمطلق، لا يعرف إلا كيف ينفجر إلى الداخل.أما الهوية، فشيء آخر. الهوية تُصاغ من الخارج، تُمنَح أو تُنتزع، تُفرض أو تُعلَن.

هي إجابة جاهزة على سؤال لم يُطرح بعد، بطاقة تضعها الجماعة في جيبك كي تعرفك على الله، وتعرف الله عليك، وتحفظ بها نظامها من غرباء الذوق. الهوية لا تنتظر التجربة، بل تحسمها مسبقًا. تقول لك: «آمن بهذه الكلمات، وستُعفى من عناء الشك، ومن تعب التذوق، ومن خطر الانفراد.» إنها طريق السلامة الجماعية، لكن بثمن باهظ: التخلي عن ذلك الرجفان الخفي الذي يسكنك حين تقترب من المجهول، وتقول في داخلك: «ربّ زدني دهشة».

الذوق لا يعترف بالهويات، لأنه يعرف أن الله لا يظهر في الصور التي تحفظها الجماعات في متاحف الذاكرة، ولا في العقائد التي تُكرَّر دون حيرة. الله يتجلّى، لا يُعطى، يتنكّر أحيانًا في ثوب الحرف، ويختبئ أحيانًا في صمت المنكسرين، ويشرق في غير المتوقع. الذوق لا يطلب يقينًا مطمئنًا، بل يريد نارًا تأكله ولا تحرقه. الذوق لا يقول: «أنا مؤمن»، بل يقول: «أنا في الطريق، والضوء يزداد كلما مشيت في العتمة».

الهوية تطلب تعريفًا لله، لتجعله مُلكًا مُفهرسًا في كتاب الجماعة. الذوق، على النقيض، يهرب من التعريف لأنه يعلم أن كل من حاول أن يُعرّف الله قد اختزله، ومن اختزل الله فقد عبد صورةً لا حقيقة. الهوية تسألك: «إلى أي جماعة تنتمي؟» أما الذوق فيسألك: «كم مرة ذُبت شوقًا دون أن تُنقَذ؟»بين الذوق والهوية خصومة لا تُحلّ، لأن أحدهما يُنتج المعنى من الداخل، والآخر يفرضه من الخارج. الذوق لا يخضع، بل ينصت. لا يخاف، بل يهيم. لا يسكن في القوالب، بل يخرقها. بينما الهوية تُفضّل الوضوح، الإجابة، الاصطفاف. وفي لحظة حاسمة من تطور الدين، تم ترجيح كفة الهوية، لأن الجماعة لا تقدر أن تُدار بالذوق، ولا السلطة تستطيع أن تُسيّر الناس بالمجاز. فكان لا بد من الهوية كوثيقة استقرار، ولو على حساب التيه الجميل.

ابن عربي لم يكتب كتاب الهوية، بل كتب كتاب الذوق. لم يقل لنا من هو الله، بل قال: تعالوا نذوق حضرته دون وسيط. لم يُقدّم أنفسه كمفسرٍ للعقيدة، بل كمجذوبٍ في الحب، يرى ما لا يُشرح، ويكتب ما لا يُفهم، ويترك للزمن أن يُطهر اللغة من صدأ الهوية.وفي زمنٍ صار فيه الإيمان موضوعًا للتصنيف، والاعتقاد معبرًا للانضمام، لم يعد ثمة مكان لمن يقول: «الله ليس في هويتي، بل في رعشتي».

لكن ابن عربي لم يكن يبحث عن مكان، بل عن اتساع.

لم يكن يريد أن يُعترف به، بل أن يذوب في الحقيقة دون أن يُلتفت إليه.«الوجه الذي أُغلق عليه الباب» الله في بداهته الأولى، ليس فكرة نناقشها، ولا حاكماً نفاوضه، ولا نظريةً نبرهنها، بل هو المُطلق الذي يراوغ كل لغة، ويُبقي القلب في حالة اضطرابٍ محبّ، لا في حالة طمأنينةٍ مصطنعة. ولأن هذا المطلق لا يُقبض عليه، ولا يُؤطر، ولا يُوضع على طاولة الجماعة لتتداول بشأنه، كان لا بدّ – في لحظةٍ ما من خوف الجماعة على ذاتها – أن يُسجن الله باسم «التقديس»، في قفصٍ ذهبيّ، أنيق، مرصوص، لا يُفتح إلا بمفتاح الجماعة، ولا يُنظر إليه إلا من خلال زجاجها المعتم.

هكذا وُلد إله الجماعة: ليس الله كما هو، بل الله كما أرادوه أن يكون ليكون صالحًا للاستخدام الجمعي، مطيعًا للنظام، حاميًا للحدود، مانعًا للانحراف، حاسمًا في القضايا الكبرى، صامتًا في الأمور الصغيرة، غاضبًا إن خرج أحد عن الصف، وراضيًا إذا تكررت الجمل الموروثة بلا ارتباك.

إله الجماعة لا يسكن في الحقول، ولا في غرف المتأملين، ولا في ارتعاشة من وقف وحده أمام الليل وتساءل: "هل أنت هناك؟"، بل يسكن في المعاهد، في محاضر الاجتماعات، في كتب الضبط، في قوائم العقائد الرسمية. هو وجهٌ لا يُرى، بل يُسجَّل، ولا يُذاق، بل يُعلَّق على الجدران.سُجن الله في قوالب اللغة، وأُعلن أن كل ما قيل عنه هو الحق، وكل ما لم يُقل لا يُلزم أحدًا بالتفكير فيه.

لم يكن السجن دائمًا قاسيًا، بل كثيرًا ما جاء مرفقًا بمحبةٍ شعبية، وأناشيد جماعية، وألقاب منمقة، لكنها كلها كانت تدور حول ذات واحدة: ألا يُغادر الله الإطار.

الخطر الأكبر لم يكن أن يتوقف الإنسان عن الإيمان، بل أن يُحبّ الله خارج الصورة الرسمية. ذلك النوع من الحبّ الذي لا تُترجم لغته إلا عبر خفقات لا تُفهم، ومجازات تخيف، ومواقف لا يمكن تدوينها في دفاتر العقيدة، ولا يُنتظر منها أن تخدم الإجماع. لذلك، فإن كل من أحبّ الله دون إذن الجماعة، كان مشروع فتنة، حتى لو صلى وصام وركع وسجد أكثر منهم.لقد صار الله في العقل الجماعي شيئًا يُدافع عنه كما يُدافع الجنود عن الأرض، ويُقاتل من أجله كما يُقاتل السياسي من أجل حدود دولته.

صار المقدّس حقلًا من الصراعات، لا فضاءً من النور. كل طائفة تمتلك نسختها من الإله، وتطالب الآخرين باحترامها، لا لأن الله فيها، بل لأنها تمثّل مصالحها في الله.وفي هذه الزاوية المظلمة، بدأ التقديس يُستخدم كأداة قمع. لم يعد يعني التوقير، بل التجميد. لم يعد يعني الانجذاب، بل الصمت الجبان. فكل من تجرأ على السؤال، أو أراد أن يعيد اكتشاف الله في ذاته، كان يُتّهم بأنه يريد زعزعة “ثوابت الأمة”، وكأن الأمة لا تزعزع إلا إن تحرك الله في قلوب أفرادها بعيدًا عن الجماعة.

أما ابن عربي، فلم يسأل الجماعة: أين الله؟ بل دخل وحده إلى الفراغ، إلى المدى الذي لا تحرسه العقائد، ولا تضيئه الفتاوى، إلى ذلك السرّ الذي لا يُشاركه فيه أحد، ولم ينتظر موافقة على رحلته. لم يطلب أن تُفهم عباراته، بل أن تُحترم حريته في أن يذوب في وجهٍ لا يُؤطره أحد. لم يُنكر الله، بل أنكر القفل الذي أُغلق عليه الباب.لم يرفض المقدّس، بل رفض أن يُحوَّل إلى قيدٍ نرتديه في معصم اليد، ونعتقد أننا بذلك امتلكنا الحقّ في إصدار الأحكام، بينما نحن لم نرَ النور يومًا، بل رأينا صورته المحجوبة في مرايا الجماعة.ابن عربي لم يكن خطيرًا لأن فكره عميق، بل لأنه سكن في مكانٍ لا تحبّ الجماعة أن يُسكن فيه أحد: في الهامش الحرّ الذي لا يحرسه أحد.

هناك حيث يتجلّى الله كما يشاء، لا كما يشاؤون.

«السر الذي لا يقال بصوت»

كان يمكن لابن عربي أن يكتفي بالعقيدة السارية في عصره، كما يفعل الصالحون الذين لا يشاغبون حدود الجماعة، ولا يطرقون أبوابًا لا تُفتح إلا على الريح. وكان يمكن له أن يرتّب عباراته لتُرضي الفقهاء، وأن يُخفّف من غموضه حتى يكون مقبولًا في حلقات الوعظ، وأن يُجامل الحس العام للدين في زمنٍ كانت فيه الصيغ أغلى من المعاني. لكنه لم يفعل. لأنه لم يكتب ليُفهم، بل كتب لأنه ذاق. ولم يتكلّم لأنه أراد القول، بل لأن شيئًا ما انشقّ في داخله ولم يجد وسيلة سوى الحبر ليحبسه مؤقتًا.

ابن عربي لم يتلقّ العقيدة كما تُتلقى الأخبار، بل مرّ بها كما يمرّ السائر في ليل طويل، يتعثر تارة، ويغرق تارة، حتى خرج منها إلى ما لا يُقال. لم يكن إلهه موضوعًا للفكر، ولا نتيجة لقياس، بل كان حدثًا داخليًا، واقعة لا تُعاد، نظرة لم يطلبها فجاءته، ووجد نفسه فيها لا لأنه خطّط، بل لأنه فُتح له ما لا يُفتح.

كان إلهه غير قابل للشرح، لا لأنه غامض، بل لأنه فائق، لا لأنه مُبهم، بل لأنه لا يمكن ضغطه في مفردات. لم يكن إلهًا ينتظر التعريف، بل إلهًا يتخفّى في العتمة ليُختبر بالوجد. ولذلك، فإن ابن عربي لم يبدأ من الكلام، بل من الصمت الذي يسبق التجلي، ومن الخوف الذي لا يُقال، ومن الحبّ الذي لا يحتاج إلى دليل.

إله الذوق عند ابن عربي لا يسكن في ما نُصدّق، بل في ما يهزّنا دون سبب، ويقودنا إلى البكاء دون جرح، ويجعلنا نشعر بامتلاءٍ لا نعرف مصدره. هو الحضور الذي لا يُعلن عن نفسه، لكنه يترك أثرًا يشبه من لمس قلبك بغير يد. لا يمكن تسويقه، ولا يمكن استدعاؤه كالأمثلة، لأنه لا يقبل التكرار، ولا يشتغل تحت ضغط المنطق.

إنه الحقيقة التي تمرّ بجانبك في صورة ظلّ، لا تثبت، لكنك لا تعود بعدها كما كنت.ولهذا، فإن ابن عربي لم يُطالب الناس بأن يعتقدوا كما يعتقد، بل أن يرحلوا كما رحل، أن يُهيّئوا أنفسهم لتجربةٍ لا ضمان فيها، وأن يدخلوا إلى الله بلا درع، بلا وساطة، بلا خرائط. لم يكن يرسم طريقًا، بل كان يشير إلى جهة لا تُسمّى. لا يُقدّم وجهة، بل يُوقظ فيك السؤال الذي لا يُغلق.الذين قرؤوه بحثًا عن بناء فكري صُلب، فاتهم أنه لم يكن مهندسًا لعقيدة، بل كائنًا سابحًا في بحرٍ بلا شواطئ، لا يحمل إلا نبضه دليلاً، وصمته لغة، ورجفته إثباتًا. لم يُقدّم لاهوتًا، بل شهقة.

لم يكن يصوغ نظرياته في مكاتب مرتبة، بل كان يكتب من حافة وجد، ومن هاوية لا يراها إلا من فقد توازنه العادي ليتلقى الحقيقة بلا وساطة.

إله ابن عربي لا يتجلّى للمنتظرين، بل للغارقين. لا يظهر في النصوص، بل في اللحظة التي تتفكك فيها النصوص وتصبح عاجزة. هو النور الذي يربك، لا الضوء الذي يُريح. هو الذي يُظهرك ثم يكسرك، ويملؤك ثم يُفرغك، ويجعلك تقول: «أنا في حضرته»، لا لأنك رأيت، بل لأنك اختُطفت.

وإذ نراه في كتاباته يتحدث عن الأسماء، والصفات، والحقائق، والأعيان، فلا ينبغي أن نُخدع بالتنظيم الظاهري. لأنه لا يشرح، بل ينقل أثرًا لا يُشرح. لا يُعلّم، بل يُنقِل حالة. هو ليس معلمًا بل شاهدًا، لا مرشدًا بل مسافرًا نادانا من قمةٍ لا نعرف كيف صعدها، وترك لنا أن نجرب إن استطعنا.ولأنه كان كذلك، لم يكن إلهه ملكًا لأحد. لا للمذاهب، لا للفرق، لا للفلاسفة، لا للصوفية. كان إلهًا لا يُحب التجمهر، ولا يُرضى بأن يُعرض في المعارض الفكرية. كان إلهًا يختار متى يظهر، ومتى يغيب، ومتى يُهلك من لم يتهيّأ له من فرط النور، لا من فرط الظلمة.ابن عربي إذًا لم يكتب عن الله، بل كتب بوجود الله فيه. لم يصنع لاهوتًا، بل حمل أثر الاحتراق. ولهذا لا يُقرأ، بل يُشهَد.

ومن لم يشهد، فليدعُ الله أن يُذوّقه، لا أن يُفهمه.

«حين يخاف العقل من ما لا يشبهه»

ثمة لحظة لا يُعلن عنها، ولكنها تُحسّ، تُدرك، تُرتعش لها الأعصاب ولا تُدرَك بالعقل المجرد، لحظة يُخاطبك فيها الله من حيث لا تدري، في غير صورة، في غير عبارة، في غير توقّع، لحظة تشعر فيها أن الكون انحنى ليهمس فيك، لا ليُشرح لك. هناك، حيث لا عقل يُمسك، ولا شرح يُستقر، ولا يقين يُباع، ثمّة شيء يتسرّب، لا يُحدّ، ولا يُمتلك، شيء لا يمكن وضعه في جملة، ولا في باب فقهي، ولا حتى في رؤيا مكتملة. شيء اسمه الذوق.وفي هذا الموضع، يحدث ما لم تحتمله الجماعة يومًا.

أن يظهر في الإنسان شيءٌ لا يشبه معاييرها. أن يذوق ما لم تُفصّل له لغة، ويهيم فيما لا تُجيده المدارس.

أن يشعر بالله لا كفكرة مريحة، بل كزلزال داخلي لا يُبقي شيئًا على حاله.لكن الجماعة تخاف. لا لأنها شرّيرة، بل لأنها من طبيعتها أن تبحث عن النظام، وأن ترتّب الفوضى، وأن تُحكِم الأشكال. كل ما لا يُقاس، لا يُحسب، لا يُصنَّف، يصبح خطرًا على بقائها. فكيف لو كان هذا اللاموصوف هو الله ذاته، يتجلّى في فرد لا يحمل توقيعها؟إن الذوق يُربك. لأنه يُنتِج حضورًا داخليًا لا يحتاج إلى شرعية. فالعاشق لا ينتظر ترخيصًا ليحبّ، ولا يسأل: "هل يجوز لي أن أذوب؟" بل يذوب.

هناك يكمن الرعب بالنسبة للجماعة: أن يوجد من يعبد الله دون أن يحتاجها، دون أن ينتظر توجيهًا، دون أن يمرّ عبر معبر التفتيش الجماعي، دون أن يعرض تجربته على العقل الجمعي ليتأكد من خلوها من الشبهة.الذوق لا يُفسَّر. لا لأنه غامض، بل لأنه يسبق اللغة. لا يمكن شرحه كما لا يمكن شرح بكاءٍ بلا سبب، أو رعشة تأتي من آيةٍ لا يعرف غيرك لمَ كانت قاسية إلى هذا الحد. هو شهقة لا يُفهم مصدرها، وهو سرّ، لا لأنه محجوب، بل لأنه مفرط في القرب.لهذا، فإن ابن عربي قال — بلا تصريح — ما لا تُحب الجماعة أن يُقال:

إن الله لا يُمكن الوصول إليه بالعقل، لأن العقل في نهاية الأمر آلة فرز، لا آلة عشق. هو يُقنّن، يُرتب، يُحلل، لكنه لا يُذوّق.

الله لا يُدخل العقل، بل يخترقه من حيث لا يحتسب. لا يُقنعك، بل يُربكك حتى ترى.

لا يُشرح، بل يعرّي. لا يُبرهن عليه، بل يقتحمك، كما يقتحم الوميض عينيك دون أن تطلبه.فليدعُ الله أن يُذوّقه، لا أن يُفهمه — ليست دعوة إلى التخلّي عن العقل، بل إلى إدراك أنه لا يكفي. أن ما يمكن للعقل أن يفعله هو أن يهيّئ، أن يطهّر الطريق، أن يُهدّئ الضجيج، أما الدخول، فله طقوس أخرى: انكسار، فراغ، وجمرة لا تنطفئ.

الذوق هو اعتراف ضمني بأن الله ليس موضوعًا يمكن الإمساك به، بل هو عابرٌ في القلب، يقيم إذا وجد الصدق، لا الحصافة. لا يحتاج إلى الدليل، بل إلى التجرّد. لا يُطلب بالحجّة، بل بالاستسلام.

لهذا، فإن كل محاولات الجماعة لتقنينه، للقبض عليه، لوزنه، تنتهي إلى لا شيء.فكيف تقيس مَن لا حدّ له؟

وكيف تضمن مَن لا يسكن في إطار؟

وكيف تصوغ إلهًا من نور، ثم تطلب منه أن يلتزم حدود الإدراك البشري؟ابن عربي لم يقل: "أنا أعلم الله"، بل لعله تمنى أن يذوق أكثر. لم يبنِ نسقًا مغلقًا، بل شرّع النوافذ في كل الجدران، وكتب لأن الذوق إذا لم يُكتب قد يُدمِّر صاحبه. لم ينظر إلى الله كفكرةٍ تُقاس بذكاء الإنسان، بل كفيضٍ لا يحتمله إلا من خفّت عن قلبه كل المسميات.

الجماعة تريد عقلًا متفقًا.

وابن عربي جلب ذوقًا منفلتًا.

فهل كان التكفير إلا نتيجة سوء الفهم لما لا يُراد له أن يُفهَم أصلاً؟

وهل كان الشك فيه إلا علامة على أن الذوق، حين يُولد في إنسان، يُشبه المعجزة: يُرى، يُلمس، ولا يُفسَّر؟

«عندما لا تُفتح الأبواب بمفاتيح العقل»

العقل، بما هو عليه، آلةٌ نبيلة، دقيقة، محايدة، تبحث عن المعنى في انتظام الأشياء، وتتقصى الروابط بين الأسباب والمسببات، وتفتّش في الكون كما يفتش عالم الآثار عن آثار القدم الأولى. إنه النور المنضبط، المنتبه، الذي لا يخطو خطوةً دون أن يتحقق من الأرض تحتها، ولا يقبل وجهًا إلا إذا تأكد من أن خلفه جبهة منطقية متماسكة. ولكنه، في علاقته بالله، لا يكون تلميذًا متقدّمًا كما يتوهم البعض، بل غريبًا على المقر، خارجًا على النص، زائرًا لا يُسمح له بالجلوس في حضرة لا تعترف بغير الذوبان.

ذلك أن الله، في جوهر حضوره، لا يتجلى من خلال ما يُفهم، بل من خلال ما يُزلزل، لا يتقدم نحو العقل كقضية، بل يتخلّله كزلزال، لا يدقّ أبواب البرهان ليستأذن بالدخول، بل يقتحم نوافذ الإدراك من حيث لا يُحتسب، لا لأن الله يُحب الغموض، بل لأنه أكبر من كل نظام إدراكي، ولا يدخل من أبوابٍ لم يُنشئها هو.

العقل يطلب صورة، والله لا يتشكل.

العقل يطلب برهانًا، والله يسبق البراهين جميعها.

العقل يقسّم: هذا حقّ، وهذا باطل؛ أما الله، فهو النقطة التي تتجاوز الثنائية، لا لأنها تُنكرها، بل لأنها تبتلعها في نورٍ لا يُحدّ.العقل، بحكم تكوينه، يرتّب، ينسّق، يُقيّد. إنه لا يعرف أن يرى إلا عبر معيار، ولا أن يفهم إلا عبر صيغة. وإذا ما قدّمنا له الحقيقة في صورةٍ غير قابلة للتبويب، فإنه يرتبك، لا لأنه ضعيف، بل لأنه لم يُخلق لهذا النوع من المواجهة. فالله، في حضوره الأقصى، ليس مفهومًا يُربط بشبكة المفاهيم، بل هو الذي يُسقط الشبكة كلها حين يمرّ.

لذلك، فإن محاولة معرفة الله بالعقل تُشبه محاولة التقاط النار بكفٍّ مبللة.

ليس لأن النار تكره اليد، بل لأن طبيعتها لا تقبل اللمس. والعقل، مهما سمت قدرته، يبقى نظامًا منضبطًا لا يتعامل إلا مع المحدود. فإذا ما عُرض عليه المطلق، لا يستطيع أن ينكره، لكنه لا يستطيع أن يحيط به، فينتهي به الأمر إلى الانكماش، إلى إعادة ترجمة النور إلى شيء يشبهه، إلى تبسيط المهابة في قوالب مريحة. وهنا يكمن الخطر، لا في العجز عن المعرفة، بل في إعادة تشكيل المطلق بما يناسب قدرة العقل على الفهم، لا بحقيقته كما هو.

إن الله لا يُقاس. والعقل لا يستطيع أن يُحبّ دون قيد، ولا أن يشهد دون تحليل، ولا أن ينحني أمام المجهول إلا إذا أُكره على ذلك. لذلك فإن أعظم ما يمكن للعقل أن يفعله في حضرة الله هو أن يعترف بعجزه، لا أن يتظاهر بأنه سيد الساحة.

العقل، في صميمه، أداة فحص؛ والله، في جوهره، فيضٌ لا يُفحَص، بل يُسلم له.

وإذا ظنّ الإنسان أنه بعقله يصل إلى الله، فليتأمل كم مرة وصل إلى حدود الإدراك ولم يعرف كيف يتجاوزها، وكم مرة أحسّ بشيء يتفجّر فيه لم تستطع الجملة أن تحيطه، ولا الفكرة أن تحتويه.

والحقّ، أن كل من ظنّ أن العقل كافٍ لمعرفة الله، فقد نسي أن العقل، حتى وهو يتحدث عن الروح، لا يمكنه أن يذوقها. ونسي أن العقل، حين يصل إلى ذروته، يظل يبحث عن ترتيب، بينما الله يتجلّى كما يشاء، لا كما يُرتب له أن يتجلّى.

وهكذا، لا يُرفض العقل، بل يُردّ إلى حجمه. لا يُلغى، بل يُعرّى. فهو سراج مفيد في الطريق، لكن إذا ما حسب نفسه هو المقصد، أطفأ النور الحقيقي دون أن يدري.

والله، إذ يفتح الأبواب، لا يبحث عن عقلٍ قادر على البرهنة، بل عن قلبٍ تهيّأ لأن ينفجر فيه المعنى دون حاجة إلى صياغة.

«حين تصير الحقيقة أسيرة نُطقها»

ثمّة شيء خفيّ لا يُقال عادةً حين تُناقش العقائد، وهو أن العقيدة، في لحظتها الأولى، لم تكن بنيانًا منطقيًا مشيّدًا لردّ الكفر، ولا جدارًا سميكًا لحراسة المعنى، بل كانت اهتزازًا باطنيًا لم يُصغ بعد إلى لسانٍ نهائي. لقد كانت في البدء شهقة، ثم صارت جملة، ثم تحوّلت الجملة إلى نص، ثم نُسج حول النص سياج، حتى أصبح الأصل غير مرئيّ تحت كثافة الحراسة التي جاءت بحسن نيّة لكنها تجاوزت مقاصدها.

ولعلّ السؤال الأعمق لا ينبغي أن يكون: هل يمكن تحرير العقيدة؟ بل: هل العقيدة تحتاج أصلاً إلى أن تُحرَّر؟ أم أننا نحن من حولناها إلى شيء مسجون، مقيّد، لا يتحرّك إلا بأمر، ولا يُحكى عنه إلا ضمن قوالب أُغلقت قبل أن تُفتح القلوب؟ هل نحن من صنعنا وهم التقييد، ثم بكينا بعد ذلك لأن النصوص لم تعد تتنفّس معنا؟.

إن العقيدة، في جوهرها، لم تُخلَق لتكون مطرقة على رأس المختلف، ولا بوّابة اجتياز نحو الفردوس الاجتماعي، بل كانت تفاعلًا كيميائيًا داخليًا بين الكائن ونقطةٍ ما لا مرئية في الكون، اشتعالًا صامتًا لا يقبل أن يُنقل، بل فقط أن يُشهَد. لكنها، حين دخلت في حسابات الضبط، وفي علاقات القوّة، وفي جغرافيا الجماعات، بدأت تتحوّل إلى نظام صيانةٍ لا روح فيه، يُفحص فيه كل لفظ ويُراقب فيه كل منحًى من الخيال، وكأنها مشروع سياسي لا تحتمل التساؤل.

فهل نحرّر العقيدة من هذه البنية؟ أم نحرّر أنفسنا من العقيدة؟

أم أننا بحاجة إلى تحرير ثالث، أكثر رهافة، يُنقِّي العقيدة من غبار الإداريين، دون أن يُقصي جوهرها الذي ما زال يحتفظ بوميض البدء؟التحرير هنا ليس تمرّدًا على الأصل، بل عودة إليه من غير الطرق المعبّدة. ليس إنكارًا، بل عشقًا يُجبرنا على انتزاع المعشوق من بين الأيدي الخشنة التي قبضت عليه باسم الحماية.

التحرير لا يعني الإنكار، بل يعني أن نعيد للعقيدة حقّها في التدفّق، في الإنشاد، في التجلّي، في أن تكون مسرحًا للوجد لا فقط منصةً للبرهنة.أن نحرّر العقيدة، يعني أن نعيدها إلى حالتها الشفافة، قبل أن تتكسّر على عتبات المذاهب، قبل أن تُستخدم كسلاحٍ في معارك لا علاقة لها بالبحث عن الله. أن نحرّرها، هو أن نزيل عنها جدران «ما يجب أن يُقال»، ونتركها تمشي كما تمشي القصيدة، حافيةً، مرتعشة، غير ملزمةٍ بأن تُرضي أحدًا.

لكن التحرير لا يتم من خلال العبث، بل من خلال الحنان الفلسفيّ الذي لا يخاف من الذوبان في النصوص حتى تنكشف طبقاتها، لا بإزالتها، بل بالمرور من خلالها.

أن تُحرِّر العقيدة، هو أن تُنقذها من استخدامها كخاتم سلطوي، وأن تُرجعها إلى فضائها الأصلي: لقاءٌ بين كائنٍ يرتجف، وسرّ لا يُملك.

وما لم نستطع أن نعيد العقيدة إلى هذا الهامش الواسع، فسنظل ندور حولها كما يدور الحُرّ حول زنزانة لا يستطيع كسرها، لا لأنها مصنوعة من حديد، بل لأننا نحن من نسينا كيف نرى الأبواب حين لا تُغلق بالكلمات، بل تُغلق بالخوف.التحرير لا يبدأ من الكتب، بل من الإنسان.

من ذلك الذي يقرّر، ولو مرة، أن يؤمن دون أن يُقدّم إيمانه للمراجعة، دون أن يُقيس صدقه بمقاييس الجماعة، ودون أن يخشى أن تكون العقيدة، كما بدأها الله، محبةً ناطقة قبل أن تُحوّلها الأقوال إلى مواد جامدة.

«حين لا يحتمل الزمان صورته الحقيقية»

في كل زمن تُولد مرآة. ليست من زجاج، بل من روح. لا تعكس الملامح، بل تكشف ما لم يكن في الحسبان. مرآة لا تقول: «هذا أنت»، بل تتركك تتعرّى أمامك، دون مكياج المفاهيم، دون ترسّبات العادة، دون أن تدلك على الطريق، بل بأن تجعلك ترى أنك لم تكن تعرفه أصلًا. وفي كل زمن، تُكسر هذه المرآة. لا لأنها تشوّه الصورة، بل لأنها تُظهر الوجه كما هو، دون تحويرٍ، دون مراوغة، دون تزيينٍ للهوية ولا تكثيفٍ للانتماء.

كان ابن عربي من هذا النوع من المرايا: ليس مرشدًا، ولا مفكّرًا، ولا فقيهًا، ولا نبيًّا، بل مجالُ انكشافٍ انفتحت فيه الحقيقة على نفسها دون استئذان الزمان. لم يكن يتكلّم، بل كان يُترجِم اهتزازًا داخليًا حدث في جهة لا اسم لها. ولم يكن يكتب ليقنع، بل ليمرّر ما لا يُحتمل، لمن قد يتحمّله ذات يوم، بعد أن تُصاب الأزمنة بالضجر من تكرار نفسها.لكنه، كما هو الحال دائمًا، كُسر. لا لأن خطأً في عبارته يستوجب المحو، بل لأن صدقه كان أعلى من قدرة السامع على التلقّي.

كُسر لأنه لم يضع فلترًا بينه وبين ما رأى، ولم يُهذّب انفعاله ليسير على خطى الخائفين.

كُسر لأنه تجرّأ أن يقول: «لقد ذقتُ، فامنحوني حقّ الشهادة».

ولأن العالم لا يحتمل الشهود الذين لا يطلبون موافقة، كان لا بد أن يُلقى في زاوية، يُحاط بالريبة، وتُقرأ عباراته كما تُقرأ شيفرة تهديد.لكنه لم ينكسر من الداخل، بل ظلّ مرآة قائمة في صمته، تحافظ على بريقها لا لأنها تلمع، بل لأنها لا تكذب.

ولذلك، فإن كل من وقف أمامه، ولم يرَ شيئًا، فلأنه لم يُجرّد نفسه من توقعاته.

ومن رآه هرطقة، فلأنه لم يتعلم بعد أن النور لا يُوزّع بالقوالب.لقد كان ابن عربي امتحانًا لا للعقل، ولا للإيمان، بل للزمن نفسه.

هل يستطيع الزمان أن يحتمل إنسانًا لم يسعَ إلى السلطة؟

هل يستطيع المجتمع أن يمنح حقّ الكلام لمن لم يطلب الإجماع؟

هل تستطيع العقيدة أن ترى من يعشق الله خارج حدودها دون أن تستدعي أدواتها الدفاعية؟أغلب الظن: لا.ولهذا كُسرت المرآة، لا لأنها معيبة، بل لأن فيها شيءٌ لا يُطاق:

انكشاف الذات البشرية أمام الله دون حجاب الجماعة، ودون وساطة اللغة، ودون محاولة التجمّل.

وهذا ما يُرعب الزمن.فالزمن لا يُحب أن يرى حقيقته.

ولا الجماعة تُحب أن يُقال لها إنها نسخة من خوفٍ قديمٍ جُعل له ملامح قداسة.

ولا العقل يُحب أن يُقال له: "أنت لا تكفي".

ولكن المرآة، حتى وهي مكسورة، لا تفقد قدرتها على العكس.

تكفي شظية واحدة لتفضح ألف قناع.

ليس الله هو من يُخشى، بل ما يكشفه الله حين يتجلّى. فليس في الحقيقة ما يقتل، إلا إن اصطدمت بنفوسٍ لم تتهيّأ لها، أو بعقولٍ تحوّلت من أداة تأمّل إلى محكمة تنصّب نفسها وصيًّا على ما يجوز ظهوره من المطلق، وما ينبغي دفنه من الشهود. إن الخوف كل الخوف، لا يكمن في الزندقة، بل في تلك اللحظة التي تظهر فيها الحقيقة فجأة في وجه إنسان لم يدرب نفسه على الاحتمال. وهنا، لا يكون الرد إنكارًا فلسفيًا، ولا تأويلًا عقلانيًا، بل هجاءً وجوديًا لكل ما لا يدخل بيت الطاعة المفهومي.

لقد ظنّوا أن ابن عربي خطرٌ لأن عبارته مستغلقة، أو لأن تأويله للوجود يخرج عن أعراف الكلام، أو لأن قاموسه يفوق الطاقة التداولية للعامة، والحقيقة، أنهم خافوه لا لأنه غريب، بل لأنه أشار إلى ما يعرفونه وخافوا أن يروه.

خافوا أن يكون ما قاله هو ما تمنّوا يومًا أن يقال، لكنهم خذلوه حين تكلّم لأنهم ما زالوا يفاوضون الله بالعقائد، بينما هو أراد أن يدخل على الله كما يدخل العاشق على محبوبه: لا بإذن، بل برعشة.كل نظامٍ يُجبر الله أن يدخل من بابه، لا يستحق أن يُحفظ.

وكل عقيدةٍ تشترط على الحقيقة أن تظهر وفق جدول مفاهيمها، لا تستحق أن تُصغى إليها.

وكل جماعةٍ تجعل من التجلي خطرًا لأنّه لا يحمل توقيعها، تخون الله قبل أن تخون الإنسان.فمن قال إن الله خاضع لما نفهم؟.

ومن تجرّأ أن يعتقد أنه يمكن احتواء ما لا حدّ له في كتاب، أو تعريف، أو رؤيةٍ جماعية تُدار بلغة التصنيف؟إننا لا نكفر بالحق، بل نكفر بما يكشفه الحق فينا حين يُعرّينا.

نكفر حين نُفاجأ أننا لا نحب الله كما نزعم، بل نحب الصورة التي رسمناها عنه.

نكفر حين نُدرك أن النور، في حقيقته، لا يُريح، بل يُمزق كل فكرة خاطئة بنيناها عن الطمأنينة.

وهذا ما فعله ابن عربي: لم يُنكر شيئًا، بل فتح الباب على وسعه ليقول: من لا يحتمل النور، لا يحق له أن يتحدث عن الله.

الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة

النظام الجزائري.. أسير الشيخوخة وإرث الماضي وأحقاده

حين بث التلفزيون الرسمي الجزائري مشاهد استقبال رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون لنظيره الرواندي بول كغامي، يوم 3 يونيو 2025، كان في حقيقة الأمر، ودون أن يدري، يضع الرَّجُلين في ...