الأحزاب السياسية وأزمة الحراك المجتمعي
تكفي إطلالة سريعة أقرب إلى خطفة البصر لمعرفة عدد القيادات الشبابية بالأحزاب العربية السياسية الضاربة في الانتشار بعمق الوطن العربي ؛ لتدرك أن الشباب في نظر أباطرة الأحزاب السياسية مجرد حفنة من جماهير كرة القدم ويمكن أن تقام المباراة بدونها ورغم ذلك من متطلبات الشهود الحزبي استقطاب أكبر قدر من الشباب ضمن تلك الأحزاب التي ربما لا أرى لها فائدة سياسية دون أنها مظلة ديموقراطية فحسب.
حتى على مستوى القيادات الحزبية السياسية تجد أن أمانات الشباب بها يديرها رجال تعدوا سن الأربعين ، اللهم إن اعتبرت منظمة الصحة العالمية أن سن الأربعين محض شباب وما قبل هذا العمر هو فترة الصبا والطفولة المتأخرة ، يأتي هذا السياق في ظل اهتمامي بانحسار التواجد السياسي لدى الشباب العربي رغم الدعوات الاستثنائية التي قامت بها بعض البلدان العربية ومنها جمهورية مصر العربية حيث دعا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الشباب أكثر من مرة لضرورة المشاركة السياسية واهتمامه المتميز في تدريب وتأهيل الشباب للقيادة السياسية المستقبلية ، بنفس القدر الذي واكبه اهتمام سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حاكم دبي بتدريب وتأهيل الشباب الإماراتي على القيادة السياسية ، ورغم تلك المحاولتين الصادقتين من وجهة نظري إلا أن الشباب العربي لا يزال يعزف عن المشاركة السياسية ومنهم من نأى بعيدا عن انضمامه لجمهور لا وظيفة له سوى الهتاف لمرشح معين أو الترويج لإنجازات نائب بالبرلمانات العربية الكثيرة جدا .
هذا الانحسار دفعني وربما غيري أيضا للبحث والتفتيش عن خروج الشباب العربي من عادته المستدامة ألا وهي ولع الفرجة إلى الانحسار المفاجئ للمشهد السياسي برمته ، مما جعلني أفكر في السبب من زاويتين مختلفتين ؛ الأولى نفسية أي تتعلق بالتكوين النفسي والمظان الشخصية للشباب العربي ، والثانية هي المنفعة الشخصية للشباب العربي أي قياس العائد المجتمعي والاقتصادي لمشاركة هؤلاء الشباب بعيدا عن الشعارات الوطنية والأفكار الأممية وكل الدعوات القومية التي يروج لها الأحزاب السياسية .
وقبل الخوض في تفسير الانحسار السياسي لمشاركة الشباب اللهم سوى الهتاف الرمزي للمرشحين أو النواب وحصد إنجازاتهم السابقة والراهنة وربما المستقبلية أيضا ، لابد من تكريس يقين الاعتقاد بأن هناك تراجع واضح وصريح لانخراط الشباب في المشهد السياسي بل هم الآن ـ الشباب ـ بصدد تقييم العمل السياسي الحزبي على شبكات التواصل الاجتماعي ، بل يمكن رصد تدني نظرة الشباب العربي للكثير من الأحزاب السياسية والعمل الحزبي بوجه عام وهو مشهد بالغ الأهمية والخطورة على السواء لأن هؤلاء الشباب هم عصب استشراف المستقبل وهذا العزوف يمثل مؤشرا خطيرا لمستقبل ملئ بالمشكلات والأزمات والتحديات التي تتطلب قدرا طويلا من التأهيل والإعداد والتكوين السياسي لهم .
وربما أكون أكثر تشاؤما حينما أقول أنه في راهننا السياسي سنجد ما يشبه بالقطيعة الحزبية لدى الشباب العربي نظرا لغياب البرامج السياسية المعلنة بوضوح لتلك الأحزاب المتهمة على الدوام بأنها تحقق مطامح ذاتوية وأنها تحترف اقتناص الفرص السياسية للصعود البرلماني ربما على حساب خطط التنمية بالبلدان العربية ، ووفقا لأحدث دراسة تناولت العلاقة بين الشباب والأحزاب السياسية والتي أعدها الباحث المغربي عبد القادر بوطالب بعنوان Youth and Politics : The Decline of Party Membership المنشورة بتاريخ آيار 2019 ، فإنها تؤكد انصراف الأحزاب السياسية عن معرفة واهتمام متطلبات الشباب العربي ، بل أؤكد ما أكده الباحث المغربي بأن معظم الأحزاب السياسية العربية لم تكلف نفسها مشقة البحث عن مدى عزوف الشباب عن الاشتراك بتلك الأحزاب ، وربما أرجع ـ أنا ـ السبب أن هناك أكثر من تجربة سياسية حزبية هي التي دفعت الشباب العربي للانسحاب الطبيعي للمشاركة الحزبية ، منها تجربة الحزب الوطني الديموقراطي بمصر والذي ظل يحكم ويسيطر حتى اللحظات الأخيرة لسقوط نظام مبارك السياسي واتهامه المستدام بالتزوير الانتخابي وبأنه حزب رجال الأعمال ، ومن الأسباب أيضا أن تجربة جماعة الإخوان المسلمين الحزبية بمعظم البلدان العربية كانت تجربة سياسية فاشلة تنذر بالفعل بسقوطها الأبدي ، ولاشك أن تنظيم الجماعة الذي تحول من خطابه الديني إلى توجهه السياسي والذي أفرز بعد ذلك تجربة قيام الأحزاب تحت مظلتها هي سبب هذا التقاعس السياسي لدى الشباب ، وخصوصا أن الجماعة بأحزابها التي كانت قائمة انفردت باستقطاب الشباب الذي ينتمي لفكرها دون قبول الاختلاف السياسي للآخر ، فضلا عن أن الشباب العربي الراهن أدرك وفطن أن تلك الأحزاب لم تصنع شيئا واحدا لهم بل في بعض الأحايين تركتهم فريسة لبعض الأجهزة الأمنية ، وشباب العرب اليوم أكثر وعيا بأن سياسات جماعة الإخوان صوب الشباب هي لمجرد الحشد فقط لا الشهود والحضور السياسي.
ولاشك أن الشباب العربي الأكثر وعيا رأى بنفسه قدرة الحكومات العربية لاسيما مصر في التعامل مع الأزمات والتحديات الطارئة منذ بداية العام وكيفية تعاملها بكفاءة واحترافية مع جائحة كورونا على سبيل المثال ، في الوقت نفسه الذي اكتفت فيه الأحزاب السياسية حتى واسعة الانتشار بالمشاركة التي لا يمكن حساب إنجازها بالأرقام ، لذا فثقة الشاب العربي بحكوماته أعلى وأقرب للصدق منها إلى تلك الأحزاب بعيدة الشهود والوجود الحقيقي ، وبالقطعية فأنا أدرك حجم الهجوم الذي يتوارد عبر بريدي الإلكتروني من أجل دعمي للحكومات العربية ومدى قدرتها الآنية على التعامل مع تحديات الحاضر ، لكن على الفور أتبين أن كافة الرسائل يقبع أصحابها خارج حدود وطننا العربي ، بل هم في الأساس من أولئك الحفنة المنحلة سياسيا والمعزولة بحكم الشعوب العربية الوطنية حينما انفجرت في وجه هؤلاء الذين جاهدوا في اختطاف الدول العربية في غفلة من الزمن.
حقيقة أخرى لابد من التنويه عنها ؛ وهي أن اهتمام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ـ على سبيل المثال ،ـ في الاهتمام بالتوعية السياسية للشباب ، وعقد مؤتمرات ولقاءات ومنتديات شبابية مستدامة لزيادة معارفهم السياسية بالأوضاع المحيطة بهم كانت كفيلة بزيادة الوعي السياسي لديهم ، الأمر الذي جعلهم على دراية كافية بالمشهد السياسي من ناحية ، وبوجود دروع ثقافية كفيلة بالحكم على الأحزاب السياسية المنتشرة ومدى قدرتها على التنمية المجتمعية وهل بها برامج وطنية متوافقة مع رؤية الدولة المصرية أم تنتفي هذه الرؤية .
وخصوصا أنه قبل ثورة الثلاثين من يونيو تحديدا وليست انتفاضة يناير التي لا أظن أنها نجحت أو أثمرت عن واقع إيجابي بدليل وصول جماعة الإخوان إلى الحكم في مصر ومن قبلها في تونس ، كانت الأحزاب السياسية باستطاعتها استقطاب الشباب في الريف والقرى والأماكن النائية بحجة ذاتية أن شباب هذه المناطق لا يمتلكون الثقافة السياسية الحزبية التي تجعلهم يناقشون ويتحاججون مع الفكرة والرأي ، لكن بعد ثورة الثلاثين من يونيو في مصر اختلف الوضع ، فاتجهت سياسات الدولة المصرية إلى تعميق الوعي السياسي لدى الشباب في المدن والقرى على السواء بل وبنفس القدر من الاهتمام ، وهو ما يمكن رصده في اهتمام الدولة المصرية لتنمية الوعي السياسي وإعداد القادة بكافة الجامعات المصرية طوال العام الجامعي ، مما ساعد على تكوين خلفية سياسية قوية لدى شباب الريف والقرى في عدم الانصياع الملق لدعوات الأحزاب من أجل وصول مرشحها إلى المجلس النيابية ، رغم أننا لا نستطيع أن ننكر وجود بعض العائلات التي تستغل الأحزاب لتعزيز مواقفهم السياسية للوصول إل المجالس النيابية من خلال تأييد الشباب الريفي لهم .
لكن وتأكيدا لما سبق فإن بعض الحكومات العربية وفي مقدمتها مصر والإمارات العربية المتحدة أخذت على عاتقها مهمة التثقيف السياسي لدى شبابها وأصبح الخطاب السياسي الرسمي أكثر توجيها صوب الشباب . وهذا التوجه نحو الشباب والحرص على تطوير وعيهم السياسي هو ما أبعدهم كثيرا عن نزوات وأطماع بل ومحاولات أعداء الوطن من ناحية والمنتهزين من ناحية أخرى لاستغلالهم من أجل الاحتجاج أو الحشد أو العصيان الجماعي أو التظاهر في وجه الدولة.
وعودة إلى أسباب العزوف السياسي لدى الشباب ، تجعلنا نشير على عجل إلى مصطلح الرهاب لأن هذا المصطلح السيكولوجي هو الدافع الرئيس لانحسار المشاركة السياسية لدى الشباب في الوطن العربي ، والذي يعني في موقع ويكيبديا أنه مرض نفسي يعرف بأنه خوف متواصل من مواقف أو نشاطات معينة عند حدوثها أو مجرد التفكير فيها أو أجسام معينة أو أشخاص عند رؤيتها أو التفكير فيها. هذا الخوف الشديد والمتواصل يجعل الشخص المصاب عادة يعيش في ضيق وضجر لمعرفة بهذا النقص. ويكون المريض غالباً مدركاً تماماً بأن الخوف الذي يصيبه غير منطقي ولكنه لا يستطيع التخلص منه بدون الخضوع للعلاج النفسي لدى طبيب متخصص. وما يعنينا هنا هو الرهاب الاجتماعي الذي يعني الخوف من أفراد المجتمع أو بعض المواقف التي يمكن أن يتعرض لها الشخص والتي من الممكن أن تكون محرجة مثل الأكل في الشارع، أو بصيغة أخرى أن يخاف المريض من أن يظهر دون المستوى الاجتماعي أو الفكري أو أن يشعر بالإحراج في المواقف الاجتماعية، التغلب على الرهاب الاجتماعي يكون غالباً صعب جداً من دون جلسات العلاج.
ويعني الرهاب الاجتماعي أيضا شعور التوتر أو عدم الارتياح في موقف اجتماعي معين ، هو أحد أكثر الاضطرابات النفسية شيوعًا يتحاشى فيه المرء التواجد في محيط اجتماعي لأن إحاطته بالناس تسبب له قلقا من نوع ما لا يمكنه فيه السيطرة على أنفاسه وضربات قلبه إلا بالانسحاب من المشاركة المجتمعية .
وهذا ما لم تنتبه له الأحزاب السياسية التي تدعي أنها تمتلك جماهيرية الشارع العربي ، لكنها في حقيقة الأمر في أقصى بل أقسى حالات الجهل بالشباب ، لأنها لم تعي قدرة الدولة المصرية وبالطبع بعض الحكومات العربية الواعية كدولة الإمارات وتونس والمغرب أن الجهود السياسية لزيادة وعي الشباب سياسيا أتت بالإيجاب والنفع ، لكن في نفس الوقت بات لدى الشباب نوع من الرهبة في الاشتراك الحزبي أي الانضمام إلى فصيل حزبي له توجهات معينة وأيديولوجيات بعينها سواء كانت تلك التوجهات مدنية أو دينية أو حتى اقتصادية استثمارية ، لاسيما وأن التجارب الحزبية السابقة أثبتت أنها لم تسع إلى لتحقيق مصالح مؤسسيها فقط دون الاكتراث بأحلام وطموحات الحشد الشبابي الذي لا يستخدم فقط إلا في أوقات الانتخابات البرلمانية .
وهذا يرجعنا مرة أخرى للدراسة التي أعدها عبد القادر بوطالب 2019 حيث أشارت إلى وجود حالة من الخوف والرهبة والقلق والحذر أيضا من الشباب تجاه الاشتراك في الأحزاب السياسية بالوطن العربي ، مما جعل هؤلاء الشباب يستحضرون كافة التجارب الحزبية السابقة والتي أدت بهم إلى تقرير حقيقة أن الانضمام لكيان حزبي بعينه هو إعادة صياغة لثقافة السمع والطاعة في المنشط والمكره التي اعتاد عليها تنظيم حسن البنا منذ تكوينه في عشرينيات القرن الماضي.
وأسوأ ما يعاني منه الأحزاب العربية السياسية فقدان الذاكرة نحو الآخر لاسيما الشباب ، فتلك الأحزاب تظن أن شباب اليوم هو نفسه شباب الأمس البعيد الذي كان يصلح للتجميع والحشد لتحقيق مصالح الحزب ، لكن في ظل اهتمام بعض الدول العربية ومنها مصر بتكوين ثقافة سياسية لدى شبابها من أجل الالتحام بقضايا الوطن ، استحال الأمر صعبا لدى تلك الأحزاب في استقطاب الشباب وانصياعهم لثقافة السمع والطاعة ، هذا ما جعل مواقف الشباب واضحا من الأحزاب السياسية تتجه نحو مزيد من السلبية في الاشتراك بتلك الأحزاب ، وتتميز بالقوة والجرأة في رفض الانصياع لأوامر ونواهي الأحزاب .
وتجدر الإشارة إلى الدراسة المتميزة التي أشرنا لها سالفا حيث أكدت بالأرقام والشواهد والإحداثيات ظاهرة انحسار انتماء الشباب إلى الأحزاب السياسية في الوطن العربي ، في الوقت نفسه الذي نرى فيه هذا الشباب أكثر استجابة لحكومات بلدانهم في أية توجهات سياسية ، ولاختزال المشهد يمكنني القول بإن الشباب المصري أكثر استجابة لكافة الخطابات السياسية والدعوات التي تتمثل في المبادرات الشبابية التي تطلقها الدولة المصرية ، فخلاف ندرة استجابتهم السياسية لدعوات الأحزاب السياسية ، وخصوصا أنهم رأوا رئيس الجمهورية المصري عبد الفتاح السيسي أكثر اقترابا من الشباب وقضاياهم وأفكارهم في شتى المناسبات ، في ذات المرحلة الزمنية التي نجد فيها انعدام الثقة وغياب الصدقية نحو كافة الكيانات الحزبية .
وأنا أعتقد في ختام السطور أن المشكلة الرئيسة والأزمة القائمة التي لا علاج لها لدى كافة الأحزاب العربية الكثيرة بصورة تدعو للملل ، أنها لا تخرج عن فكرة الاستنساخ الثنائي لما سبق ؛ أحزاب لا يمكنها الفكاك من المظلة السياسية والتنظيمية للحزب الوطني المنحل في مصر ، أو جماعة الإخوان المسلمين بكياناتها الحزبية التي تم حلها أيضا ، حينما تدرك تلك الأحزاب مشكلة استنساخها من الماضي فإنها ستنجح حقا في استقطاب الشباب العربي للانضمام حينما تثبت صدقها ومصداقيتها.
*أُسْتَاذُ المَنَاهِجِ وطَرَائِق تَدْرِيْسِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ - كلية التربية ـ جامعة المنيا
تعليقات
بإمكانكم تغيير ترتيب الآراء حسب الاختيارات أسفله :