عبد الحكيم العياط 
الجمعة 6 يونيو 2025 - 16:15

الأزمة العالمية في القطاع الصحي.. هل المغرب في منأى عن الانهيار؟

يُعَدّ النظام الصحي من الركائز الأساسية التي تقوم عليها استدامة المجتمعات البشرية وتقدّمها، إلا أن العالم يشهد اليوم انهيارًا متسارعًا في هذه النظم، نتيجةً لمجموعة من العوامل البنيوية والمترابطة، أبرزها العزوف المتزايد عن المهن الصحية، وشيخوخة القوى العاملة في القطاع، وتفاقم ظاهرة هجرة الأطر الصحية من دول الجنوب نحو الشمال. هذا التدهور يُنذر بأزمة إنسانية عالمية إذا لم تُتخذ تدابير حاسمة وعاجلة على المستويين الوطني والدولي. 

تشير منظمة الصحة العالمية إلى أن العالم سيواجه عجزًا يُقدّر بـ10 ملايين من العاملين الصحيين بحلول عام 2030، خاصة في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط. ويرجع ذلك إلى عدة أسباب متداخلة، أبرزها التراجع الملحوظ في إقبال الشباب على ولوج المهن الصحية بسبب قساوة ظروف العمل، وانخفاض الأجور مقارنة بمستوى التكوين والتضحية المطلوب، بالإضافة إلى الإجهاد النفسي والجسدي الذي يتعرض له المهنيون خاصة في ظل الأزمات مثل جائحة كوفيد-19. 

تُعاني النظم الصحية في العديد من الدول من تركيبة عمرية غير متوازنة داخل القوى العاملة. ففي أوروبا مثلًا، يبلغ متوسط عمر الأطباء 55 عامًا، حيث أن أكثر من 35٪ من الأطباء في دول الاتحاد الأوروبي تجاوزوا هذا العمر. هذا الاتجاه يُهدّد بحدوث فجوة خطيرة في أطر الصحة المؤهلة خلال العقد المقبل، خاصة مع التقاعد الجماعي المتوقع لعدد كبير من الأطباء والممرضين. 

في المغرب، يعاني النظام الصحي من أزمة متعددة الأبعاد تُعبّر عن الاختلالات الهيكلية التي تُثقل كاهل القطاع العمومي، على الرغم من جهود الإصلاح التي باشرتها الدولة خلال السنوات الأخيرة. ويواجه المغرب خصاصًا حادًا في الموارد البشرية، حيث لا يتجاوز عدد الأطباء 0.73 طبيب لكل 1,000 نسمة، وهو أقل من المعدل الموصى به من طرف منظمة الصحة العالمية. أما على مستوى التوزيع الجغرافي، فالتفاوت صارخ بين الوسط الحضري والقروي، إذ إن أكثر من 70٪ من الأطباء يتمركزون في ثلاث مدن كبرى فقط (الرباط، الدار البيضاء، مراكش).

ووفقًا لاحدث الاحصائيات، فإن أكثر من عشرة آلاف طبيب مغربي يشتغلون في الخارج، أغلبهم في فرنسا وبلجيكا، وهي ظاهرة تفاقمت في السنوات الأخيرة بسبب ضعف الأجور، وانعدام التحفيز، وسوء ظروف العمل داخل المؤسسات الصحية العمومية. كما تعاني المستشفيات المغربية من قلة التجهيزات الأساسية، وطول فترات الانتظار، ونقص الأطر التمريضية، في وقت يُقبل فيه المغرب على تنزيل ورش تعميم التغطية الصحية الشاملة، ما يُحتّم مضاعفة جهود التكوين والاستبقاء، وتطوير سياسات ناجعة لرد الاعتبار لمهن الصحة على المدى القريب والمتوسط. 

من جهة أخرى، تعمّق ظاهرة هجرة الأطر الصحية من الدول النامية هذا التفاوت العالمي في التوزيع العادل للموارد الصحية. ففي إفريقيا، يُهاجر نحو 25٪ من خريجي كليات الطب سنويًا نحو أوروبا أو أمريكا الشمالية أو أستراليا، بحثًا عن ظروف عمل أفضل. ووفقًا لتقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD لعام 2022، فإن 27٪ من الأطباء و16٪ من الممرضين العاملين في كندا وُلدوا خارج البلاد، أغلبهم من دول آسيا وإفريقيا. هذا الاستنزاف البشري يُضعف بشكل خطير قدرات الدول المصدّرة لهؤلاء المهنيين على الاستجابة للاحتياجات الصحية لمواطنيها، مما يُفاقم من هشاشة نظمها الصحية. 

ويُلاحظ أن بعض البلدان، مثل المملكة المتحدة، أصبحت تعتمد بشكل كبير على استقدام العاملين الصحيين من الخارج لسد الخصاص المزمن، حيث أشار تقرير هيئة الخدمات الصحية الوطنية  NHS إلى أن أكثر من 35٪ من الأطباء و28٪ من الممرضين العاملين في إنجلترا يحملون جنسية غير بريطانية، مع اعتماد كبير على الهند ونيجيريا والفلبين. وتزداد المفارقة حدة حين نعلم أن بعض هؤلاء الأطباء والممرضين يتم استقدامهم من بلدان تعاني أصلًا من خصاص حاد في كوادرها الصحية. وقد أثار هذا الأمر نقاش أخلاقي دولي حول ما يُعرف بـ"الاستنزاف المنظم للكفاءات"، الذي قد يُعدّ شكلًا جديدًا من أشكال التبعية البنيوية. 

ولا يقتصر التراجع على البلدان النامية، إذ تُواجه دول مثل فرنسا وكندا نقصًا حادًا في عدد الأطباء العامين، وارتفاعًا في فترات الانتظار داخل المستشفيات. ففي كندا، أظهر تقرير صادر عن الجمعية الطبية الكندية في 2023 أن 6.5 مليون مواطن لا يتوفرون على طبيب أسرة، وهو رقم غير مسبوق في بلد متقدّم. وفي فرنسا، تفاقمت ظاهرة "المناطق الطبية البيضاء"Zones blanches   وهي مناطق لا يتوفر فيها أي طبيب عام، مما يدفع بعض المرضى إلى التنقل لمسافات طويلة من أجل تلقي أبسط أشكال الرعاية الصحية. 

أمام هذا الوضع المتأزم، تدعو الهيئات الدولية إلى بلورة سياسات شاملة تهدف إلى تحفيز الشباب على الانخراط في المهن الصحية، وتحسين ظروف العمل والأجور، وتعزيز أنظمة التكوين، مع تبنّي آليات دولية لضبط وتنظيم هجرة الكفاءات الصحية بما يحفظ توازن النظم الصحية في البلدان النامية. وتقترح بعض المبادرات الأممية اعتماد آليات تعويض مالي من الدول المستقبِلة إلى الدول المُصدِّرة للكوادر، كما تدعو إلى تعزيز سياسات التكوين المستدام والمُراعي للخصوصيات المحلية. كذلك هناك توجه نحو تطوير مهن الدعم الصحي مثل تقنيي الصحة والمساعدين الطبيين، لتخفيف العبء عن الأطباء والممرضين، ولخلق بيئة عمل أكثر تكاملًا وفعالية. 

إن تفكك النظم الصحية لا يُهدّد فقط الأمن الصحي للدول، بل يُقوّض كذلك الاستقرار الاجتماعي ويزيد من الفوارق الطبقية. وبالتالي، فإن معالجة هذه الأزمة تتطلب إرادة سياسية قوية، وتعاونًا دوليًا عادلًا، ورؤية استراتيجية بعيدة المدى تُعيد للقطاع الصحي جاذبيته ومكانته المركزية في سلم الأولويات. إن الوقت لم يعد يسمح بالحلول الترقيعية، بل يستوجب سياسات مبتكرة وعادلة تستند إلى مبادئ التضامن العالمي وحق الجميع في الرعاية الصحية الكريمة. 

الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة

النظام الجزائري.. أسير الشيخوخة وإرث الماضي وأحقاده

حين بث التلفزيون الرسمي الجزائري مشاهد استقبال رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون لنظيره الرواندي بول كغامي، يوم 3 يونيو 2025، كان في حقيقة الأمر، ودون أن يدري، يضع الرَّجُلين في ...