عبد الحكيم العياط
الخميس 3 يوليوز 2025 - 1:05

التواصل المؤسساتي للمؤسسة الأمنية.. بين ضرورات التحول ومتطلبات الثقة المجتمعية

شهد المغرب خلال العقدين الأخيرين تحولات مؤسساتية عميقة طالت العديد من القطاعات الحيوية، غير أن المؤسسة الأمنية تميزت بإصلاحات نوعية لم تقتصر على تحديث العدة والعتاد أو الرفع من التكوين، بل شملت أيضًا تحديث آليات التواصل مع المواطن ومع الفضاء العمومي ككل. وقد برز جليًا أن المؤسسة الأمنية المغربية، وعلى رأسها المديرية العامة للأمن الوطني، أدركت أن فعالية الأداء الأمني لا تنفصل عن فعالية التواصل المؤسساتي، سواء من حيث التفاعل مع الأحداث أو من حيث بناء صورة إيجابية لدى الرأي العام الوطني والدولي.

في هذا السياق، انتقل خطاب المؤسسة الأمنية من دائرة "الانغلاق والتكتم" التي ميزت مرحلة ما قبل الألفية الجديدة، إلى منطق "الشفافية المقيدة" و"الانفتاح المدروس"، مدفوعًا بوعي متزايد بأهمية كسب ثقة المواطن كشرط ضروري لتحقيق الأمن الشامل. وهنا تبرز خلية التواصل في مختلف ولايات الأمن كإحدى الركائز الأساسية في منظومة الأمن الوطني، حيث أصبح من المألوف أن تبادر المديرية بنشر بلاغات رسمية فور وقوع أحداث أمنية كبرى، معززة بالمعلومات الدقيقة، في محاولة لضبط المعلومة ومحاربة الإشاعة.

تعكس هذه الخطوة وعي المؤسسة الأمنية بأن المعلومة غير المضبوطة قد تتحول إلى تهديد أمني في ذاتها، وهنا يجب على التواصل المؤسساتي أن يحتل موقعًا مركزيًا في السياسات العمومية المرتبطة بالأمن، خاصة في ظل تصاعد التهديدات المرتبطة بالمعلومة المضلِّلة والفضاء الرقمي.

ولم يقتصر التطور على المستوى الكمي أو التقني فحسب، بل شمل أيضًا المضامين، حيث باتت بلاغات الأمن الوطني تتضمن توضيحات قانونية ومعطيات إجرائية تهدف إلى تبديد اللبس، كما يتم اللجوء إلى وسائط متعددة كالصور والفيديوهات التوضيحية، في انسجام مع توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة المتعلقة بالحكامة الأمنية ومبادئ دولية تعتمدها الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان.

من جانب آخر، سجلت تقارير وطنية ودولية تحسنًا في صورة الأمن المغربي، إذ احتل المغرب المركز الـ 79 في تصنيف لمؤشر السلام العالمي “Global Peace Index” لعام 2024، بنقطة إجمالية بلغت 2.054، والذي يصدر عن معهد الاقتصاد والسلام؛ مما منحه تقدما بـ 14 مركزا مقارنة بتصنيف 2023، ليحتل المرتبة السادسة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مستندًا إلى معايير تشمل ثقة المواطنين في الأجهزة الأمنية واستقرار الأوضاع الأمنية الداخلية. كما أوضحت نتائج استطلاع للرأي أنجزه البارومتر العربي، عن مستويات قياسية لثقة المواطنين الكبيرة في المؤسسة الأمنية؛ بعد أن عبر 8 من كل 10 من المواطنين عن ثقتهم في الشرطة المغربية، والذين يمثلون 80 بالمائة من العينة المستجوبة التي شملتها هذه الدراسة. وهو مؤشر دال على فعالية استراتيجيات التواصل التي تنهجها المؤسسة الأمنية مقارنة بمؤسسات أخرى.

رغم هذه المكتسبات، لا يزال ورش التواصل الأمني بالمغرب يواجه عددًا من التحديات، من بينها غياب التنسيق التام بين مختلف الأجهزة الأمنية (شرطة، درك، قوات مساعدة، سلطة محلية)، مما يؤدي في بعض الحالات إلى تضارب في الخطاب أو فراغ اتصالي تستغله بعض الجهات المغرضة لبث الشك. كما أن غياب قانون خاص ينظم الحق في الحصول على المعلومات الأمنية في نطاقها العمومي لا يزال يشكل عائقًا أمام التطور الكامل لهذا المجال، خصوصًا في ما يتعلق بالتقارير السنوية أو المؤشرات الميدانية.

كما يسجل المتتبعون استمرار بعض مظاهر التردد في التعاطي مع قضايا ذات حساسية حقوقية أو رمزية اجتماعية، كما حدث في بعض الحالات المتعلقة بادعاءات التعذيب أو الاستعمال المفرط للقوة خلال تفريق احتجاجات، وهي القضايا التي كان من الأجدر التعاطي معها بتواصل استباقي أكثر حيوية ووضوحًا، تجنبًا لملء الفراغ من قبل روايات مضادة غير موثوقة.

في الوقت ذاته، يسجل ملاحظون أن بعض البلاغات الأمنية لا تزال تحمل طابعًا بيروقراطيًا أو لغة رسمية صلبة، لا تخاطب مشاعر الجمهور ولا تنتبه إلى البعد النفسي الاجتماعي في بناء الثقة وهو ما يتطلب إبداع لغوي واتصالي أكبر، واستثمارًا في الخطاب الإنساني الذي يُبرز الأمن كقيمة اجتماعية وليس فقط كجهاز تقني.

في هذا السياق، يمكن الاستئناس بتجارب دولية رائدة كالنموذج الكندي أو السويدي، حيث يتم التعامل مع وحدات الإعلام الأمني كوحدات ذات بعد استراتيجي لا تقتصر مهمتها على ترويج المعلومة، بل تشمل تحليل الرأي العام، وتقييم أثر البلاغات، وصياغة خطاب مؤسساتي يعكس مقاربة شرطة القرب واحترام حقوق الإنسان.

إن نجاح التواصل المؤسساتي للمؤسسة الأمنية بالمغرب لا يمكن فصله عن المسار العام لإصلاح الدولة وتحقيق الانتقال نحو حكامة عمومية حديثة. فالرهان لم يعد فقط على محاصرة الجريمة أو حماية النظام العام، بل أصبح يرتبط أيضًا بتوطيد الأمن الإنساني، وتعزيز ثقة المواطن، وتكريس حضور الدولة بصورتها المؤسساتية لا العنفية. وهو ما يفرض جعل التواصل أداة للتقريب، لا سلاحًا للدفاع، وآلية للفهم لا وسيلة للتبرير.

في الخلاصة، يمكن القول إن المؤسسة الأمنية بالمغرب قطعت شوطًا مهمًا في تحديث بنيتها التواصلية، لكنها مدعوة اليوم إلى الارتقاء أكثر نحو منظومة تواصلية تشاركية، متعددة القنوات، مهنية ومبنية على الثقة المتبادلة. فالتواصل لم يعد ترفًا أو إجراءً بروتوكوليًا، بل أداة استراتيجية لتقوية علاقة الدولة بالمجتمع، وتعزيز صورة الأمن كمرفق عمومي يحمي، يفسر، ويتفاعل، لا فقط يراقب وينفذ. إنها لحظة مفصلية تجعل من التواصل الأمني بوابة جديدة للإصلاح العميق، ومن الرأي العام شريكًا لا متهمًا.

الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة

"بغيتلك الحبس"!

في 30 مارس 2015، شارك مصطفى الرميد، في لقاء بالرباط نظمه مركز "مالكوم كير كارنيغي للشرق الأوسط"، حول إصلاح منظومة العدالة في العالم العربي، والذي استحضر تجارب المغرب وتونس ومصر ...