بعد دعم بريطانيا، فرنسا، وإسبانيا للحكم الذاتي في الصحراء تبقى ألمانيا أقل وضوحا.. فهل هو حياد دبلوماسي أم تردّد سياسي؟

 بعد دعم بريطانيا، فرنسا، وإسبانيا للحكم الذاتي في الصحراء تبقى ألمانيا أقل وضوحا.. فهل هو حياد دبلوماسي أم تردّد سياسي؟
الصحيفة من برلين - عبد الرحمان عمار
السبت 7 يونيو 2025 - 22:32

في ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة التي يعيشها العالم، تعود قضية الصحراء، لتتصدّر المشهد الدبلوماسي في العلاقات بين أوروبا والمغرب. فقد باتت مبادرة الحكم الذاتي التي قدمها المغرب عام 2007، والتي وصفتها الأمم المتحدة مرارًا بأنها "جدية وذات مصداقية"، تشكل اليوم حجر الزاوية في رؤية الرباط لحل النزاع، وتحظى بدعم متزايد من عدد من القوى الغربية الكبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة، وفرنسا، وإسبانيا، وانضمت إليها مؤخرًا المملكة المتحدة.

لكن هذا الزخم الدبلوماسي لم ينعكس بعد في موقف أوروبي موحد، إذ لا تزال بعض الدول، وعلى رأسها ألمانيا، تُعبّر عن مواقف حذرة وأقل وضوحًا، مما يطرح تساؤلات حول قدرة الاتحاد الأوروبي على بلورة سياسة خارجية متسقة تجاه هذا الملف الشائك.

رغم أن ألمانيا أبدت دعمها لمبادرة الحكم الذاتي المغربية في أكثر من مناسبة، إلا أن هذا الدعم بقي محصورًا في عبارات دبلوماسية فضفاضة لا ترقى إلى المواقف الصريحة التي عبّرت عنها دول أوروبية أخرى. وقد شهدت العلاقات بين الرباط وبرلين توترًا كبيرًا في ربيع عام 2021، على خلفية خلافات سياسية عميقة، قبل أن تُطوى صفحة الأزمة رسميًا بعد انتخاب حكومة المستشار أولاف شولتس، وانعقاد لقاءات رفيعة المستوى بين مسؤولي البلدين في 2022.

زيارة وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك للمغرب في غشت 2022 مثّلت نقطة تحوّل مهمة، حيث أكد البيان المشترك الصادر عقب اللقاء على تطابق وجهات النظر بين البلدين في عدد من القضايا، بما في ذلك قضية الصحراء، إلى جانب ملفات الساحل، وليبيا، ومالي، والشرق الأوسط.

في حين لاقى إعلان لندن دعمها الصريح للمبادرة المغربية ترحيبًا واسعًا في الرباط، قابلته برلين بـ"صمت رسمي" لافت. هذا التجاهل الإعلامي والسياسي في ألمانيا أثار تساؤلات في الأوساط المهتمة بالملف.

ويعزو المحلل السياسي جاد مدني هذا الصمت إلى ثلاثة أسباب رئيسية: أولا، تراجع أولوية الملف الصحراوي داخل أجندة السياسة الخارجية الألمانية، التي باتت تتركز على قضايا أكثر إلحاحًا من منظور برلين، مثل الحرب في أوكرانيا، والتوتر مع روسيا، والعلاقات عبر الأطلسي، بالإضافة إلى النزاعات المشتعلة في الشرق الأوسط. ثانيا، غياب قنوات ضغط داخل البرلمان الألماني (البوندستاغ) تُعنى بملف الصحراء، وهو ما يحدّ من بروز موقف ألماني متماسك أو مبادرات تشريعية ذات تأثير في هذا الاتجاه. ثالثا: تحفّظ ألمانيا الدائم في التعليق على المواقف الأحادية لدول أخرى، وهو ما يفسّر عدم تعليق الخارجية الألمانية على الموقفين الفرنسي والبريطاني، حفاظًا على مسافة دبلوماسية تقليدية من القضايا الخلافية.

يؤكد المحامي والباحث عزالدين قريوح في حديث ل"الصحيفة" أن "ألمانيا كانت من أوائل الدول الأوروبية التي رحبت بالمبادرة المغربية بشكل غير مباشر، وذلك منذ نهاية عام 2021". وقد تكرّس هذا الموقف في البيان المشترك الصادر في 28 يونيو 2024، حيث وصفت المبادرة بأنها "مجهود جدي وذي مصداقية وأساس جيد للتوصل إلى حل متوافق عليه".
لكن برلين، كما يرى كثيرون، لم تُترجم هذا الموقف إلى دعم ملموس على المستوى الأوروبي، إذ تظل تعابيرها الدبلوماسية بعيدة عن المواقف الحازمة المطلوبة لتوجيه سياسة الاتحاد الأوروبي نحو موقف موحد.

يرى المحلل جاد مدني أن "المغرب بحاجة إلى استثمار فرص جديدة لتعزيز حضوره السياسي داخل ألمانيا، لا سيما من خلال بناء شبكات مؤسساتية وتفعيل الدبلوماسية الاقتصادية والثقافية". فبعض النواب المؤثرين داخل البوندستاغ أبدوا اهتمامًا فرديًا بالملف، إلا أن غياب تنسيق ممنهج يحول دون تحوله إلى موقف رسمي داعم.

من جهته، يرى المحلل الألماني فرانك تسِل أن في تصريح خاص أن "الحياد الألماني في هذا الملف، رغم شرعيته من زاوية دبلوماسية، قد يُضعف من قدرة برلين على لعب دور ريادي في شمال إفريقيا، خاصة في ظل تصاعد أدوار لاعبين دوليين مثل الصين وروسيا".

في تحليله المنشور في فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ بتاريخ 3 يونيو 2025، يشير الصحفي هانس-كريستيان ريسلر إلى أن "الجزائر تبدو في عزلة متزايدة على الساحة الدولية، في ظل تعميق شراكتها مع موسكو وبكين، اللتين تتعاملان بحذر مع ملف الصحراء". وفي المقابل، "يتقدم المغرب بخطى ثابتة نحو تعميق علاقاته مع الغرب عبر مدخل التعاون الاقتصادي، والتحول الطاقي، ومكافحة التطرف، ما يجعل منه شريكًا موثوقًا لبرلين"، يضيف هانس-كريستيان ريسلر في مقاله.

في هذا السياق، تلعب المشاريع الاقتصادية دورًا محوريًا في إعادة رسم خارطة العلاقات بين المغرب وألمانيا. ففي صيف 2023 أعلن بنك التنمية الألماني (KfW) عن تمويل مشروع استراتيجي لإنتاج الهيدروجين الأخضر في المغرب بقيمة 300 مليون يورو، وذلك في إطار تحول ألمانيا نحو الطاقة المتجددة.

كما تُموَّل مشاريع لتحلية مياه البحر في عدد من المدن المغربية بقيمة تناهز 700 مليون يورو، بدعم من الوكالة الألمانية للتعاون الدولي (GIZ). وتشير مصادر دبلوماسية من برلين إلى أن الحكومة الألمانية لم تعد تمانع استثمار شركات ألمانية في الأقاليم الجنوبية للمملكة، وهو تطوّر مهم يعكس تحوّلًا تدريجيًا في الموقف الرسمي.

رغم غياب انسجام تام داخل الاتحاد الأوروبي حول قضية الصحراء، إلا أن المؤشرات الحالية توحي بحدوث تحوّل تدريجي نحو موقف أكثر تماسكًا. فعدد الدول الأوروبية الداعمة لمخطط الحكم الذاتي آخذ في الازدياد، ما يعزز فرضية بناء إجماع أوروبي في المستقبل القريب.

في هذا السياق، يبقى الموقف الألماني حاسمًا، نظرًا لثقل برلين داخل مؤسسات الاتحاد. ومن هنا، فإن رهان المغرب، وفق خبراء ألمان في الشأن المغاربي، ينبغي أن يستند إلى تكثيف التحركات الدبلوماسية والبرلمانية، وتوسيع رقعة التعاون الاقتصادي، من أجل إقناع صانعي القرار في برلين بأن الانتقال من الحياد إلى الدعم الفعلي يصبّ في مصلحة الاستقرار الإقليمي والتعاون الأوروبي-المغاربي على حد سواء.

تعليقات
جاري تحميل التعليقات

النظام الجزائري.. أسير الشيخوخة وإرث الماضي وأحقاده

حين بث التلفزيون الرسمي الجزائري مشاهد استقبال رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون لنظيره الرواندي بول كغامي، يوم 3 يونيو 2025، كان في حقيقة الأمر، ودون أن يدري، يضع الرَّجُلين في ...