بعد سقطته السيادية.. بنموسى يواجه امتحانَ الولاء ودعواتِ الاستقالة.. وسفيرة فرنسا تتجاهله
لم يكن أشد المتشائمين من المتابعين لعمل لجنة النموذج التنموي الجديد، يتوقع أن يغفل رئيسها التوجيه الملكي الصادر في خطاب الذكرى الـ66 لثورة الملك والشعب والذي لم يمر الحولُ عليه بعد، حين شدد الملك محمد السادس على أن التوصيات التي ستخرج بها اللجنة يجب أن تصب في خانة إنتاج "نموذج تنموي مغربي - مغربي خالص"، وهو الأمر الذي لا يبدو منسجما و"ورطةَ" شكيب بنموسى مع سفيرة فرنسا في الرباط، الدولة التي يدين لها أيضا بـ"الولاء" بحكم حمله لجنسيتها.
ففي 20 غشت 2019 أعلن الملك حرصه على "جعل المواطن المغربي في صلب عملية التنمية، والغاية الأساسية منها"، واصفا عمل اللجنة الخاصة، التي سيرأسها بُعيد ذلك بنموسى، بـ"الموضوع المصيري"، غير أن ما تم الإعلان عنه أمس لا ينسجم مع الخطاب الملكي، إذ عمليا أضحت فرنسا تعرف أشياء عن النموذج التنموي المغربي لا يعرفها المغاربة أنفسهم، الشيء الذي دفع الكثيرين إلى التساؤل حول ما إذا كان بنموسى يعتبر نفسه "فرنسيا بالدرجة الأولى قبل أن يكون مغربيا".
سقطة سيادية
ولم تكن السفيرة "هيلين لوغال" هي المسؤولة السامية الأجنبية الوحيدة التي التقاها بنموسى في إطار تعريفه بعمل لجنة النموذج التنموي، فقبل ذلك أعلنت السفارة الأمريكية أن ديفيد فيتشر، الذي بدأ عمله بالمملكة في يناير من هذا العام، تحدث بدوره مع بنموسى حول الموضوع وأعلن التزام بلاده بدعم المغرب في مجالات التنمية الاقتصادية وتشغيل الشباب والتعليم، وهو الخطاب الذي يُبرز الفرق بين لقاء بنموسى بسفيرة فرنسا ولقائه بباقي المسؤولين الأجانب.
فتغريدة لوغال رأى فيها الكثير من المتتبعين استمرارا لخطاب "التعالي" الموجهة للمغرب، والذي أغضب الرباط من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون نفسه في مارس الماضي، عندما تحدث إلى سلُطاتها بلغة "الأوامر" لإجلاء الفرنسيين العالقين على الأراضي المغربية بسبب إغلاق الحدود، وهو ما تطلب ردا من رسميا عبر وزارة السياحة مفاده أن المملكة "لا تتصرف قط بناء على أي إملاء أو أمر غير لائق من سلطات أجنبية".
لكن بنموسى، الرجل الذي كان وزيرا للداخلية ثم رئيسا للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، لم ينتبه إلى إمكانية وقوعه في هذا الفخ وهو يتلقى "طلبا" من لوغال، كما أعلنت عن ذلك اللجنة رسميا، لعرض "تقرير مرحلي" حول عمل هذه الأخيرة، ناشرة ذلك عبر حسابها الشخصي في "تويتر" دون أي تحفظ، على الرغم من أن الأمر يهم ورشا سياديا يعني المغاربة فقط، وفق ما يُفهم من التوجيهات الملكية.
سؤال الولاء
وطرحت الطريقة التي تعاملت بها السفيرة مع هذا الموضوع الكثير من علامات الاستفهام حول مدى استقلالية عمل اللجنة المكلفة بصياغة النموذج التنموي عن أي تأثيرات خارجية، بل مضى كثيرون إلى التساؤل حول "ولاءات" بنموسى نفسه، ليس فقط لكونه سفيرا للمغرب لدى باريس منذ ما يناهز 7 سنوات ونصف، ولكن أيضا بالنظر لحمله الجنسية الفرنسية، ما يعني أنه عمليا مواطن فرنسي.
ولم يفلح بنموسى في تطويق الأزمة من خلال توضيحه الذي نشره بعد ساعات من تغريدة لوغال، فهو لم يوضح الجوانب التي تمحور حولها النقاش ولا نفى تقديم "تقرير مرحلي" عن عمل اللجنة التي يرأسها، بل إن هذه الخطوة زادت من حدة الانتقادات الموجه له، حتى إن بعض المعلقين سألوه ما إذا كان سبق له، بصفته سفيرا للمغرب، أن استدعى مسؤولا فرنسيا من أجل مناقشة موضوع يهم الفرنسيين.
وأعادت واقعة بنموسى ولوغال إلى الأذهان مصير أحمد الخريف، كاتب الدولة الأسبق في الخارجية، الذي جاءه إعفاء من منصبه أواخر سنة 2008 عبر مكالمة هاتفية بينما كان يحضر جلسة لمجلس المستشارين، قبل أن ينشر الديوان الملكي رسميا خبر إعفائه بسبب ورود اسمه ضمن قائمة لمجموعة من المواطنين المغاربة المزدادين في الأقاليم الجنوبية الذين طلبوا الحصول على الجنسية الإسبانية.
بنموسى "المتشبث" بفرنسيته
وقضية حمل المسؤولين المغاربة لجنسيات مزدوجة أضحت منذ ذلك التاريخ قضيةً شديدة الحساسية، بسبب "التناقض" الظاهر في تدبير مصالح بلدين، والتي قد تتضارب في الكثير من الأحيان، وهو الأمر الذي جربه بنموسى نفسه في 2014، عندما وجه القضاء الفرنسي استدعاءً لعبد اللطيف الحموشي المدير العام لمديرية مراقبة التراب الوطني، في قضي اتهامه بـ"تعذيب" رياضي مغربي، ثم عندما اقتحم عسكري مغربي سابق غرفة الجنرال عبد العزيز بناني المفتش العام للقوات المسلحة الملكية، في إحدى مستشفيات باريس تاركا له رسالة وصفه فيها بـ"المجرم".
وعندها كان رد الفعل الرسمي للمغرب قويا، حيث أعلن وزير العدل والحريات وقتها، مصطفى الرميد، تجميد اتفاقية التعاون القضائي والأمني مع باريس، ثم جرى استدعاء السفير الفرنسي بالرباط من طرف محمد ياسين المنصوري المدير العام للدراسات والمستندات، لإبلاغه "استياء المملكة" مما جرى، ووسط كل ذلك كان صوت بنموسى خافتا، ما جعل الكثير من القراءات تربط الأمر بالتبعات القانونية التي تفرضها جنسيته الفرنسية.
وكانت هذه الوضعية قد فجرت موضوعا شائكا في السنة نفسها، عندما راسل البرلماني بمجلس النواب عن حزب الاتحاد الدستوري، عادل ياسر، رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران حول حصول أعضاء في الحكومة ومسؤولين بارزين على الجنسيات الفرنسية والبريطانية والكندية، متسائلا حول "حجم تأثير وضعية هؤلاء المسؤولين على مواقفهم عند تنازع المصالح بين المغرب وبين الدول التي يحملون جنسيتها"، غير أن كل ذلك لم يدفع بنموسى للتخلي عن جنسيته الثانية، عكس ما فعله فاضل بنيعيش في العام نفسه، والذي تخلى عن جنسيته الإسبانية التي اكتسبها من والدته بعد تعيينه سفيرا للرباط في مدريد.
لوغال تتجاهل الأزمة
لكن وسط كل هذه "الفوضى" التي ورط بنموسى فيها نفسه بعد يوم واحد فقط من موافقة الملك على تمديد عمل اللجنة التي يرأسها لمدة 6 أشهر، يفرض سؤال واحد نفسه بإلحاح: هل السفيرة الفرنسية "ساذجة" لدرجة تجعلها لا تقدر حجم الأزمة التي قد تتسبب فيها تغريدتها؟
بالرجوع لتاريخ الدبلوماسية الفرنسية لا يبدو أن للأمر علاقة بـ"السذاجة"، فلوغال المزدادة في 21 أبريل 1967، وخريجة معهد الدراسات السياسية في باريس، جاءت إلى الرباط من سفارة بلدها في إسرائيل التي قضت بها 3 سنوات، وهي إحدى كرات النار التي تتطلب حنكة كبيرة للتعامل معها، كما أنها تجر خلفها تاريخا دبلوماسيا طويلا منذ الثمانينات، أوصلها لمنصب مستشارة الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند لشؤون إفريقيا خلال الفترة ما بين 2012 و2016.
وما يزيد الأمر غرابة هو التجاهل الذي تعاملت به السفيرة مع "العاصفة" التي تسببت فيها تدوينتها، إذ لم يصدر عنها أي توضيح أو تصويب بعد أكثر من 24 ساعة على الواقعة، وهي المعروفة بتفاعلها الكبير عبر منصات التواصل الاجتماعي وخاصة "تويتر"، تاركة بنموسى يواجه لوحده العاصفة التي تطورت إلى قضية رأي عام ساعد على انتشارها وسمٌ يدعوه إلى الاستقالة.