بوعزاتي: القطيع الوطني من الأبقار أُجهز عليه خلال الحائجة دون أن تتدخل الحكومة ونسبة نجاح التلقيح الصناعي لم تتعد 30%
في الوقت الذي كان يعول فيه الفلاحون المغاربة، خاصة الصغار والمتوسطون، على مخطط المغرب الأخضر ليكون حائط الصد أمام الأزمات، جاءت جائحة كوفيد 19 لتُعري هشاشة الأرضية التي قامت عليها العديد من الإجراءات، ولتؤكد أن مربي الأبقار تحديدا، سيُتركون في نهاية المطاف وجها لوجه أمام قانون العرض والطلب دون حماية لمنتوجهم ولا للقطيع الوطني.
في هذا الحوار، يكشف وصفي البوعزاتي الطبيب البيطري، والرئيس السابق للهيئة الجهوية للأطباء البياطرة بجهة طنجة تطوان الحسيمة، كيف وصلنا إلى مرحلة العودة إلى استيراد كميات كبيرة من العجول لإنتاج اللحوم، ولجلب الحليب ومشتقاته من الخارج، ولماذا لم يُعط التلقيح الصناعي النتائج المأمولة منه، كما يتحدث عن الخطر الذي يواجه القطيع الوطني من الخرفان.
بعد أن امتد مخطط المغرب الأخضر لعشر سنوات ومرت الآن 15 سنة على إطلاقه، وبعد أن كان تقليص استيراد اللحوم والألبان من بين أهدافه، عاد المغرب مؤخرا للاستيراد من أجل توفير هاتين المادتين في الأسواق، ما الذي حدث بالضبط؟
للحديث عن المشكلة يجب أن نعلم أن هناك 3 فترات رئيسية مرتبطة بمجال تربية الأبقار، فهناك فترة قبل وأثناء وبعد جائحة كوفيد 19، ففي فترة ما قبل الجائحة كانت الأمور مضبوطة، والقطيع الوطني للأبقار كان يناهز 3,2 مليون رأس كما أن نسبة تجدد القطيع الوطني هي 30 في المائة، أي أننا نتحدث في أكثر من مليون زيادة سنويا، كانت تعطينا ما بين 400 و500 ألف رأس معدة للذبح لتغطية حاجيات المغاربة من اللحوم الحمراء، و500 ألف أخرى كانت تُمثل قاعدة للحفاظ على القطيع وتجديده.
وخلال سنوات الجفاف قبل الجائحة، كان الدولة، في شخص وزارة الفلاحة، قد رخصت بالاستيراد لمربي العجول الموجهة للتسمين، عن طريق دفتر تحملات واضح، وبناء على ذلك كانت هناك نسبة ضئيلة من الأبقار المستوردة بهدف توفير اللحوم الحمراء بكميات كبيرة وسعر مناسب.
ثم جاءت مرحلة كوفيد 19 وخلالها شهد القطاع، وخصوصا إنتاج الحليب، أزمة حقيقية، حيث إن الشركات الكبرى التي أنيطت بها مسؤولية شراء الحليب، خصوصا "سنترال دانون" و"كوباك"، وبحكم انخفاض الطلب على الحليب ومشتقاته، امتنعت عن شراء هذه المادة من التعاونيات والفلاحين.
وتجدر الإشارة إلى أن الفيدرالية البيمهنية للحليب والحوامض، والتي يترأسها محمد الولتيتي رئيس كوباك، والتي أُسست بدعم من وزير الفلاحة عزيز أخنوش، بعد أن سحبت وزارته الاعتماد من الفدرالية البيمهنية المغربية للحليب التي كانت تضم المرابين ومنتجي الحليب، وقعت في تضارب المصالح، لأن المُخاطبين بالنسبة للفلاحين أصبحوا هم أصحاب الشركات الذين يحكمهم منطق العرض والطلب.
ما حدث أن الفيدرالية الجديدة امتنعت عن شراء الحليب، ما اضطر المُربين إلى سكبه في مجاري المياه، وبحكم أن الغالبية الساحقة للفلاحين الصغار والمتوسطين أنشؤوا استثماراتهم عن طريق قروض الأبناك ولكون شركات صناعة الحليب ومشتقاته لم تعد تأخذ منهم منتوجهم، عجزوا عن تغطية مديونياتهم المتفاقمة خلال مرحلة الجائحة، ثم أخذوا الأبقار للبيع من أجل أداء ما بذمتهم للأبناك والذين اشتروها هم "الشناقة"، أي أنهم كانوا يوجهونها مباشرة للذبح رغم كونها أبقارا حلوبة، والمُحصلة كانت هي تراجع عدد الأبقار المنتِجة للحليب بشكل كبير، ومنه نصل إلى مرحلة ما بعد كوفيد 19، حيث غياب المنتوج وارتفاع الأثمان والاضطرار إلى الاستيراد.
تقول الحكومة إن السبب الرئيس في الأزمة هي عوامل أخرى، مثل الجفاف، في حين أن المخطط الأخضر كان ناجحا، هل هذا الأمر دقيق؟
لنتذكر أولا أنها ليست المرة الأولى التي يعيش فيها المغرب وضعية الجفاف أو ارتفاع الأسعار، لكن المعطى الحقيقي هو أن الدولة لم تتدخل في حينه لتفرض على الأبناك إعادة جدولة ديون الفلاحين وتأخير الأداءات خلال مرحلة الجائحة، ونتيجة لذلك، وبسبب لجوء المربين لبيع أبقارهم كان هناك تأثير مباشر وهو الانخفاض المهول في عدد القطيع الوطني، ثم بصفة غير مباشرة التأثير على إنتاج اللحوم.
إذن الأمر يتعلق بإشكالية الحكامة الغائبة، حيث كانت الحكومة تركز حينها على الإعداد للانتخابات ولم تتدخل لإنقاذ الفلاحين الصغار والمتوسطين، والمفروض أن الأرقام كانت لديها وتعرف حجم المشكلة.. نحن أمام حكومة تدبر الأمور بردود الأفعال وليس بالتخطيط الاستباقي.
من الأمور التي أتى بها مخطط المغرب الأخضر، التلقيح الصناعي للأبقار، بالإضافة إلى منح دعم لمربي الماشية عند ولادة العجول، لاذا لم ينجح هذا الأمر في تفادي الخصاص؟
الحقيقة هو أنه التلقيح الصناعي خلال فترة كوفيد 19 لم يتوقف، عكس ما صرح به وزير الفلاحة، وأنا هنا لا أُكذب تصريحاته، لكنني أتحدث بناء على ما عاينت، المشكلة هي أننا ذبحنا البقر الذي سنقوم بتلقيحه اصطناعيا، ولنتذكر أننا في فترة الجائحة كنا نأكل اللحم بما بين 25 و50 درهم، أي بأقل من تكلفة الإنتاج، وها نحن الآن نؤدي ضريبة ذلك، كان لا بد حينها أن تتحرك الدولة وجمعيات حماية المستهلك لإعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي.
من جهة أخرى، وبكل أمانة، تدبير ملف التلقيح الصناعي حين سُلم للمنظمات البيمهنية، دونما إشراك الأطباء البياطرة المتوفرين على المعرفة العلمية والإحاطات الشاملة بالقطاع، وطرق إنتاجه والقدرة على المزج بين ما هو صحي وإنتاجي حُكِم عليه بالنتائج الضعيفة.
فالجمعيات البيمهنية كانت تفرض أن يتم التلقيح الصناعي عن طريق مُلقح صناعي معتمد من طرفها، والأمر يتعلق بتقنيين أو بأشخاص خضعوا لتكوين لبضعة أيام، رغم أن الأطباء البياطرة يزاولون هذا الأمر بكفاءة واحترافية وبطرق علمية، لكن مع اختلاف جوهري هو أنه في حال لجأ الفلاح لطبيب بيطري فسيُحرم من دعم الدولة الذي كان يُقدر في مرحلة أولى بـ5000 درهم بالنسبة للأبقار المنتِجة للحليب، ثم في مرحلة ثانية بـ4000 درهم للأبقار المخصصة لإنتاج اللحم.
وأدى ذلك إلى استبعاد مهنيي قطاع الصحة البيطرية والأطباء البياطرة الخواص، فكانت النتيجة هي النسبة الضعيفة في نجاح التلقيح الاصطناعي والتي لا تتجاوز في أحسن الأحوال 30 في المائة، في حين تصل هذه النسبة في دول أخرى إلى حوالي 70 في المائة.
من الأمور المطروحة للنقاش أيضا، هو أن مخطط المغرب الأخضر، فيما يخص العدالة المجالية، أغفل الكثير من المناطق التي كان بإمكانها سد جزء من الخصاص في إنتاج اللحوم والحليب، هل هذا الأمر صحيح؟
نعم بالتأكيد، والحديث هنا عن مناطق الشمال بصفة عامة، التي كانت استفادتها ضئيلة من التحفيزات المُخصصة للفلاحين مربي المواشي، خاصة المناطق الجبلية، وكمثال على ذلك نتحدث عن إقليم شفشاون الذي يتوفر على قطيع كبير من الأبقار المنتجة للحليب، بما يقارب 25 ألف رأس، ولم تستفد من الدعم الموجه لهذا القطاع بخصوص التلقيح الصناعي، وهو ما أدى إلى عدم وجود أي تعاونية لإنتاج الحليب على سبيل المثال، فالفلاحون في إقليم شفشاون كان بإمكانهم سد خصاص كبير على مستوى الحليب والأجبان ومشتقات الألبان.
بالنظر إلى الخصاص الموجود حاليا في الأسواق، اضطرت الدولة لاستيراد الأبقار من الخارج، فما حقيقة لجوئها إلى استيراد الجاموس؟
أولا نشير إلى أن المستهلك المغربي متطلِّب بطبيعته، سواء من حيث الجودة أو الشكل، بطريقة غير موجودة حتى في دول الجوار، وطبعا الأبقار التي تم استيرادها لم يسبق للمغاربة أن رأوها في بلدهم، لذلك لم يستطيعوا أن يتأقلموا مع هذا الأمر.
والحقيقة أن ما قامت به الدولة هي إجراءات جديدة هدفها دعم سلاسل الإمداد للحوم الحمراء، وهو أمر حميد إلا أنه متأخر، كما كان يمكن أن تسبقهُ إجراءات أخرى كان بمقدورها أن تُعفينا من الوصول إلى هذه المرحلة، مثل دعم العلف وتأجيل أداء مستحقات الأبناك إلى ما بعد الأزمة بالنسبة صغار ومتوسطي الفلاحين، وكان على الحكومة أن تعفي مبكرا واردات العجول الموجهة للتسمين من الرسوم الجمركية ومن الضريبة على القيمة المضافة، ولو تم هذا القرار قبل 8 أو 10 أشهر وَلَكُنَّا الآن أمام إنتاج محلي من العجول، لكن حاليا عوض أن نأتي بعجول للتسمين تأتي بها الذبح المباشر، ما يعني خرق دورة الإنتاج.
أما بخصوص نوعية العجول، فقد كنا نستورد اللحوم المجمدة قبل عقود، لكن لم تجد إقبالا في الأسواق، لهذا تفادت الحكومة تكرار الأمر، ولجأت إلى الإعفاء من الرسوم الجمركية لجلب الأبقار الحية، والهدف هو رفع العرض، وتمكين المواطن المغربي من شراء اللحوم الحمراء بثمن مناسب يتماشى وقدرته الشرائية المتواضعة، مع العلم أنه مباشرة بعد صدور مرسوم الإعفاء في 26 يناير 2023 بادر مجموعة من مستوردي الأبقار إلى استيراد أكثر من 5000 عجل موجهة للذبح من أوروبا إلا أنها لم تفِ بالغرض، لكون ثمن كيلوغرام اللحم بقي بعيدا عن متناول المستهلك المغربي، ولهذا السبب تم الترخيص لاستيراد العجول من البرازيل والأوروغواي، بينما استحال ذلك من الأرجنتين التي تمنع تصدير العجول الحية.
والفرق بين العجل البرازيلي والأوروبي يكمن في الثمن، لأن البرازيل أكبر مُنتج للحوم الحمراء في العالم، وتملك 160 مليون رأس، وهي أيضا أكبر مُصدر للحوم والأبقار في العالم، كما أن فلاحيها يعتمدون على الرعي عوض التسمين بمعنى أن المنتوج طبيعي وتم اختيار تلك النوعية لأنها تعطي اللحم بوفرة، وهي أبقار مهجنة وليست جواميس تسمى " نيلوري"، وتعطي لحوما قليلة الدهون، لذلك قد يبرز فرق في المذاق مع الأبقار الأخرى الخاضعة للتسمين.
هذا يعني أن المشكلة ليست في نوعية الأبقار المستوردة، وإنما في ما كان يجب على الحكومة فعله قبل ذلك، هل هذا دقيق؟
هذا صحيح، ولطمأنة المستهلك المغربي لا بد من الإشارة إلى أن دفتر التحملات المعتمد من طرف السلطات المغربية في شخص المكتب الوطني للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية "أونسا"، صارم جدا ولم تُسجل أي تلاعبات بخصوص ذلك، ولا يمكن أن يتم خرقه لأنه يقوم على اتفاقية صحية بين البلدين، على المستوى الرسمي، أي أننا نتحدث عن ضمانات من دولة إلى دولة وليس بين الموردين، وتتضمن مجموع الشروط الصحية اللازم توفرها من أجل تمكين الموردين من استيراد العجول من البرازيل بما يضمن سلامتها وخلوها من الأمراض المعدية.
ودفتر التحملات ينص على أن فترة الحجر الصحي تقام بالبلد المُصدر، ما يعني أنها خضعت لهذا الإجراء قبل مغادرتها الموانئ البرازيلية، وحين وصولها للموانئ المغربية جرى التأكد من سلامة الوثائق المرفقة بكل عجل على حدة، ثم نُقلت العجول إلى المجازر، حيث أُخذ عينات من دمها قصد التحليل والتأكد من خلوها من الأمراض، وأما بخصوص ما أشيع عن إصابتها بجنون البقر فأستطيع التأكيد، كمتخصص ومتابع للملف، أن الأمر غير صحيح، حيث شكت السلطات البرازيلية في عجل واحد في البداية، ثم تأكد لها أنه سليم من مرض جنون البقر.
وحتى تزيد مصالح "أونسا" البطرية في طمأنة المستهلك المغربي عليها أن تقوم بإجراءات أخرى مثل فحص بقايا بعض المواد الكميائية، وخصوصا هرمونات النمو وبعض المضادات الحيوية وبقايا مضدات الطفيليات.
في ظل هذه الأزمات المتلاحقة، كيف تتوقع أن يكون الوضع في عيد الأضحى الذي لم ييع يفصلنا عليه الكثير من الوقت؟
إذا عدنا إلى مبررات الحكومة بخصوص النزيف الذي شهده القطيع الوطني من الأبقار، المرتبطة بجائحة كوفيد 19 والجفاف وتبعات الحرب الروسية والأوكرانية التي أدت إلى ارتفاع أسعار المواد الأولوية، وبالتالي التأثير سلبا على سعر الأعلاف، نجد أنها لم تتحرك بصفة قبلية لتدارك الكارثة ولم تلجأ إلى أي إجراءات احترازية، والنتيجة نعاينها حاليا.
هذه الأسباب التي تسوقها الوزارة الوصية، تنسحب أيضا على قطيع الغنم والمعز، وأيضا لم نعاين أي إجراءات احترازية لحمايته، إذ لا بد من تغيير المنهجية في التعامل مع هذا الملف، وعلينا أن نستحضر أن المغاربة يستهلكون ما يناهز 5 ملايين رأس من الأغنام والماعز خلال عيد الأضحى، والأرقام الميدانية تؤكد أن عدد الأغنام الموجهة للذبح خلال العيد المقبل لن تكون كافية للاستجابة لحاجيات المستهلكين.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الولادات الأولى هذه السنة كانت في شهر شتنبر، أي عند شهر يونيو، الموافق لعيد الأضحى، سيكون الخروف قد أكمل 9 أشهر، أما الولادات الثانية فلن تفي بالغرض، لذلك لدي مخاوف كبيرة من السماح بذبح إناث الخرفان الولودة ما سيؤثر سلبا على منظومة تجديد القطيع والإجهاز المخزون الاستراتيجي للقطيع الوطني.
الحقيقة أن التعامل مع هذا الملف أمر صعب في ظل الظروف الراهنة، وأيضا بسبب ما يعنيه عيد الأضحى بالنسبة للمواطنين المغاربة الذين يلجؤون للاستدانة من أجل اقتناء خروف العيد، وهذه المناسبة تخلق دورة اقتصادية متكاملة توفر مداخيل مهمة لجميع المتدخلين فيها، لكن الحكومة أمام امتحان صعب غير مسموح لها بالفشل فيه مثلما حدث مع قطيع الأبقار، ويجب أن يكون هناك قرار استثنائي بإلغاء النحر هذه السنة حتى لا نُجهز على قطيعنا الوطني ونخلق أزمة أخرى ونضطر مجددا للاستيراد من الخارج لسنوات.