التوتر والتنافس وغياب القواعد الضابطة.. الاقتصاد العالمي عند المفترق الصعب
تذبذ ب مؤشرات البورصات العالمية، كبعض من نتائج وردود فعل فورية بارزة للعيان، واحتدام التوتر الجيو-سياسي في مناطق بعينها، وما يخلقه من مخاوف احتمال نشوب حروب إقليمية، وما يبديه أيضا التنافس التجاري على حصص السوق العالمية من ارتباك وتجاهل، وأحيانا فوضى في التعامل مع قواعد التجارة العالمية، جميعها تقذف، دون هوادة، بالاقتصاد العالمي عند المفترق الصعب.
هذه المعطيات، وغيرها مما قد تتصدع معه أو تنهار كلية قواعد التجارة العالمية، تضع الاقتصاد العالمي على المحك وتربط بوصلة أمانه وسلاسة تداول بضائعه وتبادل المنافع بين جميع مكوناته برهانات جد معقدة، وتلقي به في قلب معترك متغير المعالم ومفترق شديد الصعوبة تحفه منزلقات جمة الخطورة. فوسط متغيرات إقليمية في بقاع شتى من المعمور، وارتفاع وتيرة تبادل ردود الفعل وبناء مواقف، تكون أحيانا فورية بضغطة زر، للإعلان عن إمكانية شن هجمات، أو لكبح سلاسة المبادلات التجارية بين أهم محركي الاقتصاد العالمي، تترنح دوائر الإنتاج عبر العالم مذهولة أمام معطيات باتت تتوارد عليها بفورية تنزاح كثيرا عما لديها من توقعات, وتوسع من احتمالات مخاطر قد تكون بعيدة عما يمكنها تدبره وحدس تداعياته والتدخل في الوقت المناسب لمعالجته.
إزاء هذا الواقع الذي لا ينفك يتخذ أبعادا متحولة باستمرار، لم يملك رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، جيروم باول، في خطاب حديث له، إلا أن يحذر، في الشق التجاري، من أن التوترات، في هذا المجال، ستؤدي إلى تفاقم التباطؤ الاقتصادي. وأنه لا يوجد لدى البنك المركزي "كتاب قواعد" للتعامل مع التداعيات. وليؤكد أيضا أنه، وإن كان في حكم المحسوم أنه سيتخذ الخطوات الملائمة لضمان استمرار توسع الاقتصاد الأمريكي، فإنه إزاء الحرب التجارية المحتدمة بين بلاده والصين لا يملك "كتيب إرشادات" للتعامل مع المستجد وغير المتوقع من تداعياتها.
وإذا كان هذا أمر كبير المتحكمين في إدارة مسار مالية واقتصاد القطب المحرك للاقتصاد العالمي، فكيف هو أمر باقي اقتصاديات العالم، خاصة تلك التي لا تملك أدوات التأثير أبعد من نطاق حيزها الضيق، ولا مفر لها من التأثر بالتداعيات السلبية للاقتصادات المهيمنة.
ويؤكد المتتبعون أن هذه التغيرات السريعة في صياغة القرارات واتخاذ المواقف تثير بشدة قلق الشركات الأمريكية نفسها، خاصة وأن كثيرا منها يعتمد على الصين للتصنيع او للحصول على بضائع جاهزة، ما جعل أصواتا من قلب الاتحاد الوطني لتجار البيع بالتجزئة الأمريكي تجزم بأنه "من المستحيل على الشركات أن تخطط للمستقبل في مثل هذه البيئة".
وكنتيجة مباشرة، يؤكد محللون اقتصاديون أن التوتر التجاري بين واشنطن، وفي المقدمة بكين، والى جانبها عواصم عالمية أخرى، أدى الى "تباطؤ النمو الأمريكي وأوهن الاقتصاد العالمي". وأن القلق بشأن احتمالات "حصول تدهور خطير تسبب في تراجع البورصات بشكل حاد".
وفي منحنى أعلى لهذا التوتر، كانت دعوة البيت الأبيض للشركات الأمريكية بالبدء فورا في "البحث عن بديل للصين، بما في ذلك إحضار شركاتها إلى الوطن لصنع منتجاتها في الولايات المتحدة"، والتي اعتبرها محللون اقتصاديون خطوة في الطريق نحو "فقد القيم التي تنادي بها منظمة التجارة العالمية"، وعلى راسها أن "يبقى العالم يعمل بكل حرية، وأن تكون هناك فرصة لتحريك الاستثمارات العالمية والتعاون والتكامل في المجالات الإنتاجية".
وفي مشهد قريب، تدخل مع فاتح شتنبر الجاري حيز التنفيذ زيادة الرسوم الجمركية العقابية التي فرضها البيت الأبيض على بضائع صينية بقيمة 300 مليار دولار؛ كانت محددة بـ 10 بالمئة لتنتقل الى 15 بالمئة. في رد على زيادة الصين لرسوم جديدة على بضائع أمريكية بقيمة 75 مليار دولار سنويا، والتي كانت في الأصل رد فعل عقابي على زيادة واشنطن رسوما على بضائعها في الأول من غشت الماضي.
ومع حلول أكتوبر المقبل، من المتوقع أن يصبح ساريا اعتماد 30 بدلا من 25 بالمئة كرسوم على بضائع صينية بقيمة 250 مليار دولار، بينما تشمل الرسوم العقابية الصينية نحو خمسة آلاف سلعة أمريكية. يرى المتتبعون أنها "مؤقتة وتأتي لتتزامن مع الرسوم الأمريكية الجديدة التي من المقرر أن تبدأ على دفعتين في الأول من شتنبر الجاري وفي 15 دجنبر المقبل".
وتبدو، برأي المحللين، معركة تبادل الزيادات العقابية في الرسوم الجمركية بين العملاقين لعبة قد لا تنتهي، بالرغم من الطمأنة التي بعث بها الرئيس ترامب، خلال مشاركته في اجتماع مجموعة السبع الأخيرة في بياريتس الفرنسية (ما بين 24 و26 غشت الماضي)، حين أعلن أن المفاوضات مع بكين ستستأنف "قريبا جدا"، وأنه لا مفر من التوصل إلى اتفاق بين الجانبين.
وربما كان من إيجابيات اجتماع مجموعة السبع أنه سلط الضوء على مخاطر الانزلاق الى تبادل العقوبات بين الفاعلين الاقتصاديين الكبار في العالم. وشرع في محاولات لتلطيف الأجواء، بغرض الوصول إلى صيغ تنازلات أو مبادرات لإبداء حسن النية، من قبيل؛ إعلان الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون، عقب اتفاق وصفه ب"الجيد" مع نظيره الأمريكي، عن إلغاء الضريبة التي كانت فرضتها باريس على عمالقة الانترنت "غافا" (حروف ترمز بالترتيب إلى: غوغل وأمازون وفيسبوك وآبل الأمريكية).
وكان الرئيس ترامب لوح، قبيل مَقدمه الى بياريس، بفرض ضرائب على النبيذ الفرنسي، ردا على الضريبة الفرنسية المفروضة على الشركات الرقمية.
وبإزاء هذا المشهد، تتفاعل قضايا لا تقل في تأثير تطوراتها على مصير الخرائط الاقتصادية والسياسية للعالم، منها الشد والجذب بخصوص الملف النووي الإيراني وتداعيات تطوره على أمن منطقة إنتاج رئيسية في تزويد العالم بغالبية ما يحتاجه من موارد الطاقة. وأيضا تأثيره على سلامة الملاحة في مضيق هرمز، حيث تمر معظم الإمدادات العالمية من النفط والغاز.
وفي المحصلة، يبقى لهذا الملف، في اتساع ارتداداته، تأثير محوري أيضا على سوق النفط العالمي. ما يجعل، بحسب المتتبعين، التوقعات الخاصة بأسعار الذهب الأسود وأيضا حجم الإيرادات منه "أمرا محفوفا بالغموض والمخاطر".
ففي الوقت الذي ترسل فيه السوق إشارات باحتمال ارتفاع أسعار النفط، ت ث ب ت الأسعار عند مستوى بات يزعج الاقتصادات التي تعتمد مداخيلها أساسا على الموارد الطاقية، لتنضاف الى تخوفات من حصول ركود اقتصادي عام. بدأت بعض مؤشرات الاستغاثة من تأثيراته بلجوء المركزي الأمريكي وأبناك مركزية لبلدان أخرى في تخفيض سعر الفائدة الرئيسي، وأيضا في البحث عن إقرار تدابير تحفيزية، كل بحسب ما يوائمه.
وفي تفاصيل هذا المشهد؛ تتحدث الأرقام عن تراجع في إنتاج النفط بسبب التزام أوبك بخفض صادراتها، وحرمان إيران من تسويق نحو مليوني برميل يوميا تنفيذا لعقوبات أمريكية، مع تراجع صادرات فنزويلا بحوالي المليون برميل، بينما يفيد واقع الحال بتوافد إمدادات على السوق من خارج (أوبك). متوقع أن تزيد بحوالي 1.8 مليون برميل يوميا، وألا تجد طلبا متزايدا يواكب حجمها.
وفي واجهة المشهد، وعلى نحو تشاؤمي، تذهب كثير من التوقعات الى أن الاقتصاد العالمي ميال الى منحدر التباطؤ، إن لم يكن صوب منزلق الكساد، وأنه يكابد في مفترقه الصعب الحالي من أجل إيجاد مخارج ملائمة وبأقل الخسائر الممكنة.