سوق الغذاء تحت قبضة القِلَّة.. مجلس المنافسة: 70% من رقم المعاملات بيد علامتين و50% من المساحات التجارية محصورة في الرباط والدار البيضاء
حذّر مجلس المنافسة، من اختلالات عميقة في سوق توزيع المواد الغذائية بالمغرب جعلت تركز نصف المساحات التجارية الكبرى والمتوسطة في الرباط والدار البيضاء، واستحواذ علامتان تجاريتان فقط على حوالي 70% من رقم المعاملات، في سوق تعيش وضعية "احتكار قلة"، ما يكشف تفاوتا مجاليا صارخا، وصعوبات كبيرة أمام دخول منافسين جدد بسبب حواجز استثمارية تصل إلى 100 مليون درهم، بشكل يُفرغ مبدأ المنافسة من معناه ويطرح تساؤلات حول عدالة الولوج وتوازن السوق.
جاء ذلك، في رأي لمجلس المنافسة حمل عنوان "وضعية المنافسة على مستوى مسالك توزيع المواد الغذائية"، وأماط اللثام عن معطيات دقيقة تكشف جوانب مقلقة في واقع توزيع المواد الغذائية بالمغرب، خصوصا في ما يتعلق بقطاع المساحات التجارية الكبرى والمتوسطة، الذي يُمثل القلب النابض لما يُعرف بالتوزيع العصري، حيث أبرز درجة التركيز الجغرافي والتجاري التي تُهدد مبدأ تكافؤ الفرص، وتطرح تساؤلات مشروعة حول عدالة الولوج إلى الخدمات، والمنافسة الحقيقية بين الفاعلين.
وفي مقدمة المؤشرات التي توقف عندها التقرير، أبرز التمركز الجغرافي الكبير لنقاط البيع، حيث تستحوذ مدينتا الدار البيضاء والرباط وحدهما على 46% من مجموع نقاط التوزيع، و50% من المساحة التجارية الإجمالية على الصعيد الوطني، هذا التركيز لا يعني فقط هيمنة عمرانية على السوق، بل يُنتج فوارق مجالية صارخة، تحرم سكان المناطق القروية والهامشية من الولوج إلى الخدمات والمنتجات بنفس الجودة والأسعار، ما يُعمق فجوة الإنصاف الترابي في أحد أكثر القطاعات حيوية وتأثيرًا على معيش الناس اليومي.
الاختلالات لا تقف عند الحدود الجغرافية، بل تمتد إلى مستوى البنية التنافسية للقطاع نفسه، حيث يسجل مجلس المنافسة درجة عالية من التركيز على مستوى العلامات التجارية، إذ تستحوذ علامتان تجاريتان فقط على ما بين 60% و70% من رقم المعاملات، فيما تمتلك أربع مجموعات كبرى نحو 95% من السوق، ما يُترجم إلى وضعية احتكارية أو ما يُعرف اقتصاديا بـ"احتكار القلة".
وعلى الرغم من دخول بعض المنافسين الجدد، إلا أن المجلس يؤكد أن موازين القوى لم تتغير، بسبب ضعف قدرتهم التنافسية أمام الفاعلين المهيمنين، الذين يتمتعون بامتيازات في التموقع، والتمويل، والعلاقات التجارية.
هذا، ويُرجع التقرير هذه الهيمنة المستمرة إلى وجود حواجز بنيوية أمام دخول فاعلين جدد إلى السوق، أبرزها الارتفاع الكبير في كلفة الاستثمار، إذ تصل الكلفة التقديرية لإنشاء سوق تجاري كبير إلى 100 مليون درهم، بينما تتطلب أسواق القرب استثمارات تناهز مليوني درهم، دون احتساب كلفة العقار التي تُعد مرتفعة وشحيحة، خاصة في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية أو المواقع التجارية الحيوية.
كما تواجه المشاريع الجديدة تحديات لوجستيكية وإجرائية متعددة، تشمل صعوبة الوصول إلى شبكات التوريد، ومحدودية القدرة على التفاوض مع الموردين الذين يمنحون الفاعلين الكبار شروطًا تجارية تفضيلية، تضع الوافدين الجدد في موقع ضعف مزمن، يُفرغ المنافسة من مضمونها الحقيقي، ويُكرّس استمرارية المنظومة المغلقة.
بالمقابل، فإن مجلس المنافسة ومن موقعه الرقابي، لم يغفل عن الإشارة إلى أن هذه البنية المركزة لا تقتصر على المغرب فقط، بل توجد في أسواق دولية متقدمة، ففي فرنسا، تستحوذ ثلاث شركات فقط على حوالي 62% من السوق، فيما تمتلك ست شركات مجتمعة 85% من الحصة السوقية، أما في إسبانيا، فيُسيطر ثلاثة فاعلين على نحو 50% من السوق، ما يعكس طابعا عالميا لهذا النوع من التمركز، لكنه لا يُبرر استمرار غياب الآليات التصحيحية الضرورية، ولا يُلغي مسؤولية الفاعلين المحليين في ضمان منافسة سليمة ومنصفة.
الأرقام، التي قدمها المجلس لم تكتف بالكشف عن واقع السوق، بل وجهت بشكل غير مباشر، رسالة إنذار للسلطات العمومية والمؤسسات المعنية بتقنين المنافسة وتشجيع الاستثمار العادل،ذلك أن احتكار القلة، إذا تُرك بدون مراقبة أو تدخل، يُفرز مع الوقت بيئة تجارية غير متوازنة، تضعف فيها قدرة المستهلك على الاختيار، وتتقلص فيها فرص ولوج مقاولات جديدة، ما يؤدي إلى تآكل التنافسية الشاملة، وارتفاع الأسعار، وتآكل القدرة الشرائية، خاصة في فئات واسعة من المجتمع الهش أو المحروم من الولوج إلى هذه الفضاءات التجارية المنظمة.
وفي ضوء هذه المعطيات، تصبح مسألة مراجعة النموذج التوزيعي الوطني أكثر من ضرورة، وتبرز الحاجة إلى سياسات عمومية تُراعي الإنصاف المجالي، وتكسر منطق الاحتكار المقنع، وتُعزز البيئة الاستثمارية لفاعلين جدد، بما يُعيد الاعتبار لمبدأ حرية المنافسة ويضمن حق المواطن، في القرية كما في المدينة، في خدمات تجارية لائقة، وبأسعار منصفة، وبشروط تليق بمكانته كمستهلك لا مجرد رقم في حسابات التوسع التجاري.
تعليقات
بإمكانكم تغيير ترتيب الآراء حسب الاختيارات أسفله :