عُسر "الديمقراطية" عربيًّا
"العربيّ يُعجب بماضيه وأسلافه، وهو في أشدّ الغفلة عن حاضره ومستقبله". هذا ما كتبه جمال الدين الأفغاني قبل قرن ونيّف من الزمان، فماذا يمكن أن نقول الآن والعديد من البلدان العربيّة تواجه تحدّيات مختلفة تعيق انتقالها إلى فضاء المشروعيّة القانونيّة والدستوريّة ومناخ الشرعيّة السياسيّة المقترنة برضا الناس والمنجز التنموي الذي يلبّي حاجاتهم الأساسيّة الماديّة والروحيّة.
خلال العقد الماضي شهدت العديد من البلدان العربيّة أحداثًا كبرى وضعت نُظمها السياسيّة في موقف حرِج للغاية، فترنّح بعضها بين التشبّث بالبقاء وبين الانتقال والتغيير، خصوصًا وأنّه لم يكن هناك حامل اجتماعي جاهز ولا وجود لبرنامج سياسي متّفق عليه للتطبيق لمرحلة الانتقال، وكلّ ما حصل هو إنهاء شكل من الاستبداد، لكن ثمّة أنواع جديدة منه بدأت تتصادم مع تطلّعات الناس للتغيير الجذري، فالثورة ليست شعارات وأحلامًا ورديّة وتمنيّات، وإنّما هي "حفرٌ في العُمق وليس نقرًا في السطح" على حدّ تعبير المفكّر السوري ياسين الحافظ.
مع بدايات ما يُسمّى بـ"الربيع العربي" تدفّقت بعض المصطلحات إلى ساحة العمل السياسي مثل "التحوّل الديمقراطي" و"مرحلة الانتقال إلى الديمقراطية"، و"التغيير الديمقراطي" لدرجة فاض بها المشهد حدّ الطَّوَفان، وعلى الرغم من أنها لا تزال متداولة وسارية، إلّا أنّ بريقها بدأ يخفت بالتدرّج، فصخرة الواقع كانت صلِدة جدًّا، فليس مجرّد الإطاحة بالأنظمة الفرديّة أو التسلّطيّة أو الاستبدادية سيفتح الباب أوتوماتيكيًّا أمام التطوّر الديمقراطي، فثمّة عقبات وعراقيل جمّة حالت وتحول دون إنجاز أو استكمال عملية التغيير المنشودة؛ منها أنّ القوى المخلوعة ما تزال قويّة ومؤثّرة لدرجة يمكنها إعاقة عمليّة التغيير؛ كما أنّ المحيط الذي يتم التحرّك فيه لم يكن مؤهّلًا لاستيعاب عمليّة التغيير، داخليًّا أو خارجيًّا، إقليميًّا ودوليًّا، بسبب استقطابات دينيّة وصراعات طائفيّة ومذهبيّة وإثنيّة، فضلًا عن علاقات عشائريّة وعادات وتقاليد ثقيلة وبالية تحول دون ذلك، وبعد ذلك فالانتقال الديمقراطي يحتاج إلى بيئة ديمقراطية وتُربة خصبة لبذر بذورها، ووعي ديمقراطي وثقافة أوّلية ديمقراطية، وهذا يحتاج الى إعادة النظر بأنظمة التعليم والمناهج الدراسيّة، للقضاء على الأُميّة والتخلّف، وهو غير المناخ والبيئة التي شهدت تحوّلًا سريعًا نحو الديمقراطية كما حصل في أوروبا الشرقية.
وهكذا ظلّت صورة الديمقراطيّة ضبابيّة، لا سيّما حين يتمّ اختزالها بإجراء الانتخابات أو بعض هوامش حرّية التعبير أو غيرها، حتى أنّ القوى الراغبة في التغيير واجهت خلافات حادّة عند أوّل منعطف يصادفها، يتعلّق بعضها بالدستور وصياغاته، ولا سيّما علاقة الدِّين بالدولة، حيث لعبت حركات الإسلام السياسي دورًا مؤثّرًا في فرض رؤيتها المحافظة بخصوص عدد من القضايا منها قضايا الحرّيات وحقوق المرأة والموقف من التنّوع والتعدّديّة الثقافيّة الدّينيّة والإثنيّة وغيرها.
ولأنّ حركة الاحتجاج مفاجئة وعفويّة، ولم تتوفّر لها مستلزمات التغيير، فقد تصدّر المشهد على نحو سريع تيّار الإسلام السياسي الوحيد الذي كان الأكثر تنظيمًا وحضورًا، وتمكّن بشعارات عامّة وعاطفيّة وشعبويّة التأثير على صناديق الاقتراع والإمساك بالسلطة، كما حدث في تونس ومِصر وقبل ذلك في العراق بعد الاحتلال، وفاز في انتخابات المغرب وحاز على مواقع في الكويت، إضافة إلى الأردن، كما حاول أن يلعب دورًا مؤثّرًا في سوريا وليبيا واليمن إثر اندلاع حركات الاحتجاج والانقسامات الداخليّة.
لعلّ مستقبل التغيير الديمقراطي عربيًّا مرهون بمدى التمكّن من حل إشكاليّة الدولة والثقافة والوعي، إضافة إلى توازن القوى، وإذا كان روّاد النهضة العربيّة الأولى (أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين) أبدوا إعجابًا لِما حصل في الغرب من تطوّر في نظام الحكم وفلسفة القانون، فإنّهم أقدموا على ذلك من مقاربة إسلامية في الغالب، الأمر الذي يقتضي مقاربته من زاوية مدنيّة راهنيّة.
يقول محمد عبده "حين ذهبت إلى الغرب وجدتُ إسلامًا ولم أرَ مسلمين، ولمّا عدت إلى الشرق وجدت مسلمين ولم أجد إسلامًا". كتب ذلك في العام 1881، وقبله عاش في باريس رفاعة الطهطاوي أربع سنوات من العام 1826 - 1830 وكان شيخًا أزهريّا، فأدهشه ما رآه من تطوّر في فرنسا عزاه إلى نظامها السياسي والقانوني المنفتح على الحرّيات وموقع المرأة، إضافةً إلى نظام التعليم والتثقف بالعلوم، فدعا إلى إصلاح المعاهد الدينيّة على طريقة هوبز الذي كان قد قال: "أيّ إصلاح مفتاحه بإصلاح الفكر الديني"، وحذا حذوهما أحمد أمين وعلي عبد الرازق وطه حسين وخير الدين التونسي وعبد القادر الجزائري وعبد الحميد بن باديس ومحمد حسين النائيني.
الديمقراطيّة نتاج تطوّر تاريخي طويل الأمد، فما زالت بلادنا العربيّة تعاني من صدمة الاستعمار وتأثيراتها مستمرّة في الوعي والثقافة، وما نحتاج إليه هو تهيئة البيئة المناسبة والبُنية التحتيّة من دستور وقوانين وقضاء وتعليم وفاعلين سياسيّين ومجتمع مدني في إطار مواطنة متكافئة تقوم على قاعدة الحرّية وأساسها المساواة والعدالة والشراكة، ومثل هذا يحتاج إلى تراكم تدرّجي طويل الأمد، وليس مجرّد تغيير نظام بنظام، لأنَّ طريق الديمقراطية لا يأتي دفعة واحدة، بل هو شائكٌ وتدرّجيُّ وعسير.