ما تخشاه إسبانيا من شراكة المغرب وبريطانيا.. تقارب سياسي واستفادةً اقتصادية متبادلة على حساب مصالحها
في الثامن من دجنبر الجاري، طار وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقية والمغاربة المقيمين في الخارج، ناصر بوريطة، إلى لندن مباشرة من بودابيست، حيث كان مُجتمعا مع وزراء خارجية مجموعة "فيسغراد" المجر وبولندا والتشيك وسلوفاكيا، ليلتقي الوزيرة البريطانية للشؤون الخارجية والكومنولث والتنمية، ليز تروس، ووزير الدولة المكلف بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا بمكتب الشؤون الخارجية والكومنولث والتنمية الدولية في المملكة المتحدة، جيمس كليفرلي.
جرى ذلك في الوقت الذي تعيش فيه العلاقات بين المغرب وإسبانيا حلقة جديدة من حلقات الأزمة التي لا تبدو نهايتها وشيكة، كان عنوانها المزارع السمكية القريبة من الجزر الجعفرية، وحملت الرحلة تأكيدا جديدا على أن الرباط لم تعد "متشبثة" بعلاقاتها مع شركائها التقليديين بأي ثمن، وبأنها بدأت تولي وجهها نحو عواصم جديدة ترى فيها مجالا أرحب لسياسة "رابح – رابح" التي بدأت تنهجها، حتى وإن كانت "لا تريح" مدريد.
هذا التوجه أكده بوريطة في حديث مع القناة المجرية "هير تي في"، حين أوضح أنه "في الوقت الحاضر لم يعد الجوار عنصرا مهما، فما يهم هو ثقة الشريك ومصداقيته"، وكان الأمر يعني بشكل مباشر الإسبان الذين وجدوا أنفسهم لأول مرة خارج قائمة الشركاء "المقربين" من المغرب الذي بدأ يرمي نظره إلى بريطانيا، البلد الأبعد عنه جغرافيا، الأقرب منه في المواقف السياسية والمشاريع الاقتصادية المستقبلية، وأيضا بـ"مسمار جحا" الذي دقه في خاصرة شبه الجزيرة الإيبيرية، جبل طارق.
الفلاحة الإسبانية تترقب الأخطر
ولم تعد الرباط ولندن تخفيان اعتمادهما على بعضهما البعض في الكثير من المجالات، حتى إنهما استبقا خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "البريكست" باتفاقية ثنائية أثبتت جدواها سريعا، إذ في مارس الماضي كشفت أرقام المؤسسة البريطانية للإيرادات والجمارك، أنه خلال أول شهر من سنة 2021 أصبح المغرب ثاني أكبر مُصدر للخضر والفواكه إلى أسواق المملكة المتحدة بعدما انتقل إجمالي صادراته من 20.236 طنا في يناير 2020 إلى 30.648 طنا في يناير 2021.
ويعني هذا الرقم أن المغرب رفع إجمالي صادراته بـ51 في المائة، متفوقا في الترتيب على هولندا، التي تراجعت صادراتها الفلاحية نحو الأسواق البريطانية بـ26 في المائة، ومطاردا إسبانيا التي سجلت تراجعا بـ10 في المائة.
وبدا القلق الإسباني من أن تؤدي الشراكة الجديدة المغربية الإسبانية إلى توجيه ضربة قوية للفلاحة الإسبانية، واضحا من خلال تصريح لرجل الأعمال أنطونيو لويس مارتين، صاحب شركة "فروتاس كوري" التي تُعد مُصدرا رئيسيا للفواكه الحمراء إلى بريطانيا، فهذا الأخير صدمه ارتفاع الواردات المغربية من الفراولة في بـ459 في المائة، ليقول لصحيفة "إل إسبانيول" في مارس الماضي إنه بات يخشى أن "تُقاطع لندن منتجات ويلبا".
البحر يُقرِّب المسافات
وكان العام الأول من "البريكست" كافيا لتتأكد المملكتان المتحدة والمغربية من جدوى اتفاقية الشراكة الشاملة التي وقعها الطرفان في أكتوبر من سنة 2019، إذ في 30 شتنبر الماضي كشفت السفارة البريطانية في الرباط أن التجارة البحرية بين البلدين شهدت منذ يناير نموا كبيرا، وارتفعت الصادرات الغذائية بما يقارب 40 في المائة، الأمر الذي دفعها للحديث عن أن البلدين سيُطلقان خطا بحريا مباشرا بين ميناء طنجة المتوسطي وميناء بول جنوب الجزيرة البريطانية، بالموازاة مع إطلاق رحلات بحرية للمسافرين.
ولا يُشكل هذا الأمر خبرا مريحا للإسبان، الذين لا زالوا يعتقدون أن وقف المغرب لرحلاته البحرية معهم له دوافع سياسية، انطلاقا من الخسائر الاقتصادية الكبيرة التي تكبدوها بسبب ذلك، الأمر الذي أكده مثلا خيرالدو لاندالوثي، رئيس هيئة ميناء الجزيرة الخضراء أواخر يوليوز الماضي، الذي قال إن إبعاد موانئ إسبانيا عن عملية "مرحبا" كلفت الميناء خسائر كبيرة، لكن بالنسبة للإسبان هذا الخط البحري يعني أيضا منافسة اقتصادية أخرى، تتمحور هذه المرة حول السياح البريطانيين الذين قد يولون الوجهة نحو المغرب بعدما لم يعودوا مواطنين من الاتحاد الأوروبي.
لكن "الشراكة البحرية" المغربية الإسبانية قد تتطور إلى ما هو أكثر إزعاجا للإسبان، فطموح الربط القاري الذي تأخر لعقود بين طنجة وطريفة، أضحى ممكنا أكثر مع بريطانيا عن طريق منطقة جبل طارق، الأمر الذي تحدثت عنه تقارير إسبانية وبريطانية هذه السنة، مبرزة أن حكومة بوريس جونسون تضع هذا المشروع ضمن خططها في إطار سعيها لإيجاد شركاء تجاريين جدد في شمال إفريقيا، ولو تم هذا الأمر فسيجعلها ذلك البلد الأوروبي الوحيد المرتبط برا بالقارة الإفريقية، وهي ميزة كانت إسبانيا تسعى لاحتكارها.
مدريد "تفقد" الصحراء
وتدريجيا، أصبح الإسبان يقتنعون بأن المغرب صار يستخدم الأوراق الاقتصادية من أجل جني مكاسب سياسية، وهو أمر لا تخفيه الرباط التي لا ترى أنه من المنطقي أن تظفر بعض الدول بـ"ميزات" اقتصادية على غرار إسبانيا التي أصبحت الشريك التجاري الأول للمغرب، في الوقت الذي تتخذ فيه مواقف تضر بمصالح المملكة، وتحديدا في قضية الصحراء، الأمر الذي بلغ أقصى درجة من الوضوح حين أعلن الملك محمد السادس في خطاب المسيرة الخضراء يوم 6 نونبر الماضي أن "أصحاب المواقف الغامضة والمزدوجة لن يقوم المغرب معهم بأي خطوة اقتصادية وتجارية لا تشمل الصحراء المغربية".
وكانت بريطانيا، التي تحررت من الالتزامات الأوروبية في سياستها الخارجية، قد انتبهت باكرا إلى ذلك، لهذا رفعت أي تحفظ عن الصادرات المغربية القادمة من الصحراء، بل وتستعد لربط أمنها الطاقي بالمغرب من خلال مشروع أطول ربط بحري كهربائي على مسافة 3800 كيلومتر في العالم الذي تبلغ قيمته 22 مليار دولار، والذي سيُزود 7 ملايين منزل بالكهرباء النظيفة التي تُوفرها مزارع الطاقة الريحية والشمسية المغربية بما فيها الموجودة في الأقاليم الجنوبية.
وفي غضون ذلك، لا تزال إسبانيا عاجزة عن إيجاد التوازن اللازم بين خطابها السياسي بخصوص قضية الصحراء، وبين استفادتها الاقتصادية من منتجات الفلاحة والصيد البحري التي يُتيحها لها المغرب في هذه المنطقة، وهو أمر سبق أن نبهتها له صحيفة ABC في فبراير الماضي التي رأت في مسارعة العديد من الدول إلى الاستفادة من الإمكانيات الاقتصادية المستقبلية للصحراء تحت السيادة المغربية، ضياعا لفرص مدريد في المنطقة.