مع فرنسا وأمريكا والخليج وصولا إلى ألمانيا.. هكذا حول المغرب "التصعيد الدبلوماسي" إلى ورقة ضغط في علاقاته الخارجية
في ماي من العام الماضي، عندما اتخذ المغرب قرارا "تصعيديا" بقطع العلاقات الدبلوماسية مع ألمانيا على خلفية العديد من "المؤاخذات" تجاه تعامل حكومة المستشارة السابقة أنجيلا ميركل مع العديد من القضايا التي تضعها المملكة في صدارة اهتماماتها، وتحديدا قضية الصحراء والملف الليبي وسرية المعطيات الأمنية، برزت بعض الأصوات التي كانت تستغرب كيف أن بلدا "من العالم الثالث" يحاول التعامل بمنطق الندية مع "قوة عظمى".
لكن توالي الشهور أكد أن نهج الرباط يؤتي أُكله، لدرجة أن من بين أولى الخطوات التي قامت بها حكومة المستشار الألماني الجديد أولاف شولتز، كانت العمل على تحسين العلاقات مع المغرب بإحداث تغيير جذري في لهجة برلين تجاه قضية الصحراء الذي مر من الحياد التام إلى التنويه بمبادرة الحكم الذاتي، قبل أن يأتي الدور على الرئيس الألماني فالتر شتاينماير، الذي لم يكتفِ بالتأكيد على الموقف الجديد لبلاده تجاه قضية الصحراء وبالتنويه بـ"الإصلاحات الواسعة" التي تشهدها المملكة وكذا بدورها الإقليمي، بل إنه وجه دعوة رسمية للملك محمد السادس لزيارة ألمانيا.
والحال، أن خيار التعامل "الندي" مع العديد من القوى العظمى أو ذات التأثير الإقليمي والدولي الواسع، ليس وليد اليوم، إذ بالتزامن مع الأزمة الدبلوماسية مع ألمانيا كانت الرباط تتعامل بـ"تشدد" مع إسبانيا بعد سماح حكومتها بدخول زعيم جبهة "البوليساريو" الانفصالية سرا إلى أراضها، الأمر المستمر إلى الآن بسبب عدم إعلان مدريد لموقف صريح داعم لخيار الحكم الذاتي في الصحراء، وقبل ذلك كان المغرب يتعامل بالمنطق نفسه مع دول تصنف في خانة حلفائه التقليديين حين رأى أنها "خرجت عن النص".
فرنسا وتلويح غير مسبوق بالقطيعة
قد يصعُب على من يعرف حجم المصالح المتبادلة بين المغرب وفرنسا، خاصة في المجالين السياسي والاقتصادي، أن يتصور أن البلدين الحليفين منذ 1956 يمكن أن يصل الأمر بينهما إلى القطيعة، لكن ذلك ما كان سيحدث بالفعل سنة 2014، حين حاول القضاء الفرنسي ضبط وإحضار المدير العام لمراقبة التراب الوطني، عبد اللطيف الحموشي، في قضية حركها ضده الرياضي زكرياء مومني، حيث توجهت الشرطة الفرنسية إلى مقر السفارة المغربية في باريس محملة بالمذكرة القضائية، وهو ما كان فاتحة أزمة غير مسبوقة.
ولم يتأخر رد الرباط كثيرا، إذ استدعت وزارة الخارجية المغربية السفير الفرنسي للاحتجاج وأصدرت بيانا ينتقد بشدة ما صدر عن السلطات الفرنسية، ويصفه بأنه "خطير وغير مسبوق" وبأنه يمثل "مسطرة فجة منافية لقواعد الدبلوماسية"، لكن ذلك لم يكن سوى تمهيد لما سيأتي فيما بعد، حيث أعلنت وزارة العدل وقف العمل باتفاقية التعاون القضائي بين البلدين، وتلا ذلك قطيعة دبلوماسية غير معلنة ووقف عملي لجميع أشكال التعاون الأمني والاستخباراتي مع باريس، هذه الأخيرة التي سيستدعي وزيرُ داخليتها السابق برنار كازنوف الحموشي مرة أخرى في 2015، وهذه المرة ليس من أجل "مقاضاته" بل لتوشيحه بوسام الاستحقاق، في خطوة مثلت "اعتذارا" ضمنيا للمملكة.
أمريكا.. صدام في زمن أوباما
وحتى مع الولايات المتحدة الأمريكية، البلد الذي يشكل حاليا الحليف الأقوى للمغرب ومزوده الأول بالأسلحة، اختارت الرباط في مرحلة من المراحل لغة "التصعيد"، وتحديدا سنة 2013 حين حمل وصول جون كيري إلى منصب وزير الخارجية في إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، خلفا لهيلاري كلينتون التي كانت توصف بأنها "صديقة المغرب"، تغيرا ملحوظا في لهجة واشنطن تجاه ملف الصحراء، إذ قدَّمت لمجلس الأمن مًسودة مُقترحٍ بتوسيع صلاحيات بعثة "المينورسو" الأممية لتشمل مراقبة حقوق الإنسان في المنطقة، الأمر الذي أعلنت الحكومة المغربية حينها "رفضها القاطع" له.
لكن المملكة ذهبت أبعد من ذلك، حين قررت لأول مرة إلغاء مناورات "الأسد الإفريقي" الأكبر في إفريقيا والتي اعتادت احتضانها سنويا، لى الرغم من أن الجيش الأمريكي كان قد بدأ بالفعل في حشد جنوده المشاركين في تلك التدريبات الميدانية والذي وصل عددهم إلى 1400 عنصر إلى جانب مئات من الجنود القادمين من عشرين بلدا من حلفاء واشنطن العسكريين، وهو قرار "تصعيدي" لم تكسب به الرباط تراجع أمريكا عن مقترحها فقط، بل أيضا علاقات أقوى على المستوى العسكري، إلى درجة أن مناورات سنة 2021 جرت لأول مرة في منطقة المحبس بالصحراء.
السعودية والإمارات.. لا إكراه في "العداء"
وفي الخليج، حمل وصول محمد بن سلمان إلى منصب ولي العهد في الرياض، وتحالفه القوي مع محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي، نهجا جديدا في السياسة الخارجية للبلدين لم يكن يخلو من عنف مادي أو معنوي، وبلغ الأمر ذروته في يونيو من سنة 2017 حين قرر السعودية والإمارات قطع العلاقات الدبلوماسية مع قطر وإغلاق الحدود البرية والجوية معها، الأمر الذي سايرتهما فيها العديد من الدول الحليفة لهما مثل البحرين ومصر والأردن، وكانتا تتوقعان من المغرب القيام بالأمر نفسه، لكن المفاجأة هي أن المملكة أعلنت الحياد وعرضت الوساطة لحل الأزمة.
وأمام الرفض السعودي والإماراتي للمقترح المغربي، قررت الرباط القيام بخطوات بدت وكأنها تحدٍ لحليفيها الخليجيين التاريخيين ردا على محاولتهما "فرض" خيارهما "العدائي" تجاه قطر عليها، كانت أبرزها زيارة الملك محمد السادس إلى الدوحة ولقاء أميرها تميم بن حمد، لتنطلق بعدها أزمة دبلوماسية غير مسبوقة لم تبدأ في الخفوت إلا مع بداية سنة 2021 حين زار محمد بن زايد الملك محمد السادس في الرباط، وبعدها بنحو عام انتهت الأزمة الخليجية بمصالحة بين الدول المعنية، التي عادت مرة أخرى لتوحيد مواقفها تجاه قضايا المغرب، لدرجة إعلان ممثليها في مجلس الأمن سنة 2021 مساندتهم العلنية للحكم الذاتي في الصحراء.
إيران.. حرب دبلوماسية مع خصم بعيد
ظلت العلاقات المغربية الإيرانية تتراوح بين الصدام والهدوء منذ ثورة آية الله الخميني سنة 1979، وكان الصدام الدبلوماسية حاضرا بين الفينة والأخرى، على غرار ما حدث سنة 2009 حين قررت الرباط قطع علاقاتها مع إيران بسبب "تهديدات مسؤولين إيرانيين للبحرين"، وأيضا بسبب دعمها لجبهة "البوليساريو" الانفصالية ونشر المذهب الشيعي في الملكة، أو كما وصفته الحكومة المغربية حينها "استهداف الأمن الروحي للمغاربة"، لكن قطيعة سنة 2018 والمستمرة إلى الآن هي الأكثر حدة ووضوحا.
وفي الوقت الذي تحتفظ فيه معظم الدول العربية والإسلامية البعيدة عن الطوق جغرافيا إيران بشعرة معاوية على الأقل في علاقاتها الدبلوماسية مع هذه الأخيرة، اختارت الرباط منذ أكثر من 3 سنوات ونصف الدخول في صراع مُعلن مع طهران منذ أن طلبت من سفيرها مُغادرة البلاد، وهي الخطوة التي استندت إلى عمل استخباراتي طويل كشف نتائجه وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، والذي خلص إلى أن الإيرانيين وحزب الله اللبناني الموالي لهم، يدربون ويسلحون عناصر "البوليساريو" في مخطط كان حلقة الوصل فيه الملحق الثقافي لسفارة إيران بالجزائر، لتبدأ الحرب الدبلوماسية المفتوحة التي لا يبدو أي مجال للتقارب بعدها إلى غاية اليوم.