مَركز كارنيغي: الجيش الجزائري يتحكم في تبون وغارق في الفساد ولن يقدم على حرب خارجية
مركز "ماركوم كير كارنيغي للشرق الأوسط"، مؤخرا، تقريرا من عدة محاور حول "سياسات السلطوية في شمال إفريقيا"، والذي يركز على الدور الذي لعبته القوات المسلحة في العملية السياسية طيلة ستين عاما وسيطرتها على مقاليد السلطة في 4 دول عرفت حراكا غير مسبوق خلال الفترة ما بين 2011 و2019، ويتعلق الأمر بمصر وليبيا والسودان والجزائر.
وبخصوص الحالة الجزائرية، أورد التقرير في محور بعنوان "الدور السياسي للقوات المسلحة في الجزائر الجديد" أن قيادة الجيش "ستفقد مصداقيتها كحكم موثوق في إدارة الأزمات السياسية بين الشارع ونخب المدنية الحاكمة، بسبب تعامل المؤسسة العسكرية تجاه الحراك وتعجيلها بقيام انتخابات رئاسية"، كاشفا أوجه تراجع الثقة في هذه المؤسسة التي تتحكم في الرئيس الحالي وفي السياسة الخارجية، بالإضافة إلى غرقها في الفساد.
تبون ضعيف أمام العسكر
ووفق التقرير الذي أعده الأكاديمي الجزائري بلقاسم القطعة، المتخصص في العلوم السياسية والعلاقات الدولية والباحث المساعد في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة، فإن المؤسسة العسكرية الجزائرية "دولة داخل الدولة" وتمثل "امتدادا لجيش التحرير الوطني، الجهاز السياسي لجبهة التحرير الوطني"، الأمر الذي منح النخب العسكرية "شرعية لإدارة البلاد بالتحالف مع نخب مدنية سلطوية مقربة منها، وإقصاء النخب ذات التوجهات الديمقراطية".
ويرى التقرير أن حكم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة عرف بتحقيق "مكاسب كبيرة في صراعهِ مع الجنرالات"، وذلك من خلال استغلال مكانته الدولية لمنع شبح الملاحقات الدولية عن القادة العسكريين المتورطين في الحرب الأهلية في تسعينيات القرن الماضي، والتي شهدت مقتل 200 ألف مدني، والمعروفة بـ"العشرية السوداء"، مبرزا أن بوتفليقة حظي بدعم جهاز المخابرات بقيادة الجنرال توفيق خاصة في الفترة ما بين عامي 1999 و2006، وانتهى هذا الدعم خلال الصراع مع الجنرالات بتثبيت حليف بوتفليقة، أحمد قايد صالح، على رأس أركان الجيش.
لكن بعد الإطاحة ببوتفليقة في 2019 تغيرت موازين القوة لصالح النخب العسكرية المؤثرة من دون منافسين سياسيين أو أمنيين حقيقيين، وفق ما ورد في التقرير، وذلك بعدما خاض الرئيس السابق "معركة شرسة أشبه بتصفية حسابات شخصيَة مع القادة العسكريين"، خالصا إلى أنه "إن وجدت أي رغبة عند الرئيس الحالي عبد المجيد تبون في فرض سيطرته على العسكر فهو لن يجد حليفا قويا في صفوف قوى الأمن إذ قام بوتفليقة بتهميش أجهزة المخابرات، وألحقها خليفته أحمد قايد صالح بصورة غير دستورية بالمؤسسة العسكرية عقب إقالة مدير المخابرات بشير طرطاق في سياق حراك 2019".
وبهذا المعنى، فإن الرئيس الحالي عبد المجيد تبون "غير مجهز للضغطِ على القادة العسكريين، فمن جهة، تلاشت مخاوف الجنرالات من الملاحقات الدولية بفعل المصالحة الوطنية والتغيرات في صفوف كبار الضباط، ومن جهة أخرى يبدو أن الملفات التي ملكها جهاز الاستعلام والأمن، وهي التسمية السابقة للمخابرات الجزائرية، فقدت قدرتها على الضغط وانتزاع تنازلات من النخب العسكرية"، وينبه التقرير أيضا إلى عامل آخر وهو خلو الساحة السياسية من أي شخصية مدنية ذات رأس مال سياسي يستطيع أن ينتشل الرئاسة من الرعاية العسكرية".
في السياسة.. الجيش خصم وحكم
ويعتبر مركز "كارنيغي" أن المؤسسة العسكرية في الجزائر عادت إلى السياسة "كخصم سياسي وحكم وكصانعة قرار، لكن هذه المرة من دون رئاسة قوية منافسة لها ومن دون جهاز مخابرات قادر على الضغط عليها"، موردا أنها "احتكمت إلى الحركة الشعبية، المعروفة بالحراك، وسلبت شرعيتها من الشارع، وحولت مطلب الشعب بالتغيير، إلى تغيير ضمن نفس النظام ووفق الثقافة السياسية القائمة على سيادة المؤسسة العسكرية على الحكم المدني".
ويتوقع المركز أن المؤسسة العسكرية في الجزائر "ستضغط، على المدى القريب، على تبون للقيام بمزيد من الإصلاحات"، والتي على الأغلب ستقتصر على تجديد المؤسسات التمثيلية وإجراء إصلاحات اجتماعية واقتصادية كافية لتأجيل عودة الجماهير إلى الشارع، وعلى المدى المتوسط، سيكون الجيش "مجبرا" على إيجاد بديل للرئيس تبون الذي "فشل في تقديم نفسهِ كمصلح ذو مصداقية كونه أحد بيروقراطيي نظام بوتفليقة والذي تدرج في سلم الوظائف وصولا إلى منصب رئيس الوزراء".
وتوقع التقرير أن تصبح المؤسسة العسكرية لاحقا "مجبرة على تعيين شخصية أقل معارضة من داخل أو خارج نظام الحكم، وقادرة (الشخصية) على تقديم تنازلات للمؤسسة العسكرية"، خالصة إلى أنه "في أي حال لا يمكن لأي رئيس في الجزائر حتى لو كان منتخبا بطريقة ديمقراطية أن يُحدث تغييرا بارزًا ما لم تتعاون معه النخبة العسكرية، إذ تعتبر المؤسسة العسكرية حاليًا الجهاز الأقوى في الدولة".
تحكم في السياسة الخارجية ولا حرب مع المغرب
أما بخصوص تحكم الجيش في السياسة الخارجية الجزائرية، فيرى التقرير أنه لطالما كان للقادة العسكريين صوت مسموع في صناعة هذا النوع من السياسات وتوجيهها، لكن، مقارنة بفترة حكم بوتفليقة سيكون للمؤسسة العسكرية في الجزائر الجديدة الصوت الأعلى في إدارة الملفات الأمنية والإقليمية والدولية، وذلك بسبب طبع الرئيس تبّون السياسي ومحدودية علاقاته العامة خارجيا.
ويضيف "مستقبلا، ستزداد حدة فرض وجهة نظر المؤسسة العسكرية على توجهات السياسة الخارجية الجزائرية كالحفاظ على العداء الاستراتيجي مع المغرب قائما، والانخراط دبلوماسيا في نزاعات منطقة إفريقيا جنوب الصحراء، والحفاظ على الوضع القائم في العلاقة مع فرنسا، والدفع نحو المزيد من الاعتماد على روسيا كحليف استراتيجِي بحجة التطبيع المغربي- الإسرائيلي".
وعلى الرغم من سماح التعديلات الدستورية لعام 2020 للمؤسسة العسكرية بالقيام بمهام أمنية خارج الحدود الوطنية، فإن التقرير يتوقع أنها "لن تخوض أي حرب كبرى في المنطقة، وذلك لتجنب التورط العسكري المباشر ومعارضة المجتمع الجزائري للقتال خارج الحدود الوطنية"، موردا أنها ستعمل على أداء "مهمات استخباراتية وقتالية محدودة خاصة على الحدود الجنوبية، كمراقبة وملاحقة الجماعات الإرهابية والمهربين والجماعات الإجرامية الدولية، كما ستعمل القيادة العسكرية على التنسيق أكثر مع فرنسا لكونها القوّة الأهّم في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء، وستتحرك بحذر في إطار الاتحّاد الإفريقي"، ما يعني أن الوثيقة استبعدت "الحرب مع المغرب" التي طالما لوح بها قادة الجيش الجزائري.
جيش غارق في الفساد
ومن الأمور المثيرة التي تطرق إليها التقرير علاقة الجيش الجزائري بمنظومة الفساد، إذ توقع أن تعمل المؤسسة العسكرية على "حماية الفساد" عن طريق المعركة التي يخوضها النظام الحاكم ضده، بما معناه أن التركيز في هذا الإطار سيكون على الفساد الاقتصادي والحصول على مكاسب مالية وامتيازات اقتصادية خارج الإطار القانوني الذي ينظم معاشات وامتيازات العسكريين.
ويضيف التقرير "في سياق اقتصادِي ريعي، ومع غياب اقتصاد عسكري ضخم ومعقد يجد القادة العسكريون طرقا أخرى للحصول على منافع موازية، في البدء تشكل بيروقراطية الدولة المدنية مصدرا للامتيازات والمداخيل، وعلى المستوى الوطني تتفاوض النخبة العسكرية مع الوزراء والمدراء العامين لإفادة مشاريعهم العقارية والحصول على تسهيلات اقتصادية وجبائية وتخفيف القيود البيروقراطية، كما تسهم الشركات العائلية في حصول النخبة العسكرية على مناقصات وصفقات وطنية مع وزارة الدفاع الوطني، ومع باقي الوزارات".
أما على المستوى الجهوي، فتتشكل شبكة مصالح مكونة من العسكريين ذوي النفوذ والمحافظين، يلعب فيها القادة العسكريون على المستوى الجهوي من جهة، والنخب المدنية التقليدية للنظام الحاكم، المنتمين إلى الحزب الحاكم غالبا، دورا محوريا من جهة أخرى، وأخيرا، على المستوى المحلي تتشكل شبكات مصلحة وفساد بين رؤساء البلديات والأمناء العامين للبلديات وقيادات عسكرية دنيا كقيادات الدرك الوطني، حسب الوثيقة.
وتستفيد القيادات العسكرية الجزائرية من الحدود أيضا لتحقيق مصالحها غير المشروعة، إذ يورد التقرير أنه "خارج بيروقراطية الدولة الرسمية، تجد المؤسسة العسكرية ضالتها في الاقتصاد الموازِي الذي تعد المناطق الحدودية بيئة خصبة له، على طول الحدود مع تونس وليبيا شرقا، ومع المغرب وموريتانيا غربا، ومع مالي والنيجر جنوبا، مبرزا أن عمليات التهريب تشمل طيفا واسعا من النشاطات والسلع، بدءا بالمواد الغذائية وصولًا إلى البنزين والمخدرات والذهب.
وفي الداخل الجزائري الذي لا تصل إليه قوّات الشرطة التابعة لوزارة الداخلية ينفرد قادة المناطق العسكريين ومن ينوب عنهم بخلق شبكات فساد مع المهربين تتخذ شكلين رئيسين، هما التعاون مع المهربين لتسهيل عبورهم مقابل عمولات، والاستحواذ على المواد المُصادرَة من طرف المؤسسة العسكرية وتحويلها إلى ملكيات شخصية يتحاصصها ذوي النفوذ في مناطق التهريب، وفق ما جاء في تقرير "كارنيغي".
وتخلص الوثيقة نفسها إلى أنه "في الوقت الذي يعتقد البعض أن مهندسِي "الجزائر الجديدة"، سيقضون على الفساد، يبدو أن الأصح هو أنهم يعملون على تحديد جيل معيّن من الفاسدين وإزالته لصالح صعود جيل جديد من الفاسدين يتخفّى وراء شرعية الحراك الشعبي الذي شهد مطالبات من قبل المتظاهرين بالقضاء على من وصفوهم بالعصابة".
تعليقات
بإمكانكم تغيير ترتيب الآراء حسب الاختيارات أسفله :