"ألمانيا بلد منغلق"

 "ألمانيا بلد منغلق"
حسام شاكر
الجمعة 23 غشت 2019 - 9:56

إنها مصارحة موجعة، واعتبرها معلِّقون إهانة عالية المستوى لألمانيا، جاء فيها أنها بلد منغلق ولا يحتمل أصواتاً مغايرة للخط السائد، وأنّ مرافقها الثقافية تمارس قيوداً ناعمة على حرية التعبير تحرياً لبعض المصالح.
جاء ذلك ضمن مقابلة مع الفنان الصيني الشهير عالمياً آي ويوي أعلن فيها أنه يعتزم مغادرة ألمانيا رغم إقراره بأنه عاش حياة مريحة فيها.

إنه الفنان الناقد آي ويوي، المولود في بكين عام 1957، الذي نسجت سيرته تجربة استثنائية تنوّعت فيها اهتماماته عبر الفن التشكيلي والنحت والتصوير والتصميم وإخراج الأفلام، وهو يُعدّ ضمن أبرز فناني العالم حالياً.

تميّز آي ويوي بضخامة أعماله الفنية التي تطلّب إنجازها جهوداً مضنية منه ومن مساعديه وهم بالعشرات، ولا تستوعب أعماله سوى قاعات عرض ضخمة نسبياً، حتى أنّ مشغله الفني تحت الأرض في برلين يمتدّ على أربعة آلاف متر مربع، علاوة على استمرار مساعديه في العمل من مشغله في الصين.

احتاج معرض "بذور دوار الشمس" (2010) مثلاً قاعات عرض تستوعب مائة مليون قطعة من الحبوب المشكّلة يدوياً من الخزف الصيني على هيئة البذور التي اشتهرت بها الصين، وهي تبدو متماثلة في تكوّمها لكنّ لكل منها تفرّدها لدى التدقيق في التفاصيل، بما يحرِّض على التأمّل النقدي في مفهوم الأنسنة الضائع في الصناعة الكمية الصينية التي تغرق العالم.

ينتمي ويوي إلى أسرة قدّمت وجوهاً فنية وأدبية معروفة، وقد درس إخراج الأفلام في الصين، ثم قضى في نيويورك اثنتي عشرة سنة درس خلالها التصميم وعاد إلى الصين بعد أن ألمّ المرض بوالده سنة 1993، وفيها استأنف نشاطه الفني والثقافي الذي واجه العراقيل.

سلّطت المتاعب التي واجهها من السلطات الصينية الأضواء عليه في الخارج وعزّزت صدارته العالمية. أطلق توقيفه في الصين لعشرة أسابيع سنة 2011 تضامناً واسعاً معه عبر أوروبا والعالم، ورحّبت به أكاديمية الفنون وجامعة الفنون في برلين أستاذاً فيهما إنْ وافق على ذلك.

لكنّ بكين منعته من السفر بعد إطلاق سراحه، وما إن تمكّن من استرجاع جواز سفره حتى غادر البلاد عام 2015 نحو ألمانيا التي صارت منفاه الاختياري حيث يعيش مع زوجه وابنه، دون أن ينقطع عن زيارة الصين أحياناً حيث استمرّ مشغله الفني هناك يعمل من خلال مساعديه.

في المقابلة المنشورة في الثامن من أغسطس/ آب أفصح ويوي عن ملاحظات تسلِّط الأضواء على جوانب غير مرئية من واقع حرية التعبير والعمل الفني والإعلامي في البيئات الأوروبية عموماً وألمانيا خصوصاً.

أعلن ويوي عن قراره مغادرة ألمانيا بعد أن ضاق ذرعاً بمتاعب واجهها في الجمهورية الاتحادية، والأمر عنده يبدأ مع ما عدّها تفرقة متكررة واجهها في الحياة اليومية، خاصة في سيارات الأجرة. لعلّ ما هو أهمّ هنا، أنه تحدّث عن استبعاد أفلام له ولصينيين ناقدين من مهرجانات ثقافية بلا مبررات موضوعية، تحت تأثير مصالح اقتصادية في الصين حسب استنتاجه، وهو ما يتعلّق خصوصاً بمهرجان "برينالي" للأفلام في برلين، وهو نقد سبق أن وجهه علناً في فبراير/ شباط الماضي.

أفصح الفنان في المقابلة التي نشرتها صحيفة "دي فيلت" البرلينية عن إحساسه بالإقصاء في الوسط الثقافي الألماني إلى درجة وصف بها ألمانيا بأنها مجتمع منغلق.

ويا له من حكم موجع بالنسبة لبلد استثمر طويلاً في التبرّؤ من وصمة ماضيه. إنها مصارحة ذات وطأة من شخصية فنية ذات وزن عالمي، وما يزيد من قيمتها أن تَصدُر من ويوي الذي فارق الصين تحديداً للظفر بحريّته، لينتهي به الحال إلى التذمّر من الانغلاق الثقافي والقيود الناعمة في ألمانيا.

لكنّ المكاشفة فُهِمت في أوساط ألمانية على أنها "تصفية حساب"، و"إهانة"، ونكران للجميل، حتى أنّ صحيفة "دي فيلت" التي أنجزت المقابلة نشرت تعليقاً ساخراً يشجِّعه على المغادرة ليكتشف الانفتاح على أصوله في بلدان أخرى وكيف يتصرّف سائقو سيارات الأجرة هناك.

قال آي ويوي مثلاً إنّ "ألمانيا ليست مجتمعاً منفتحاً"، وإنّ "هذا البلد لا يحتاجني، لأنه يتمركّز حول ذاته".

كما وصف الفنان ألمانيا بأنها "مجتمع يرغب بأن يكون منفتحاً لكنّه يحمي ذاته في المقام الأوّل. الثقافة الألمانية قوية إلى حد أنها لا تقبل في الحقيقة أفكاراً وحججاً أخرى. نادراً ما يوجد فضاء لنقاشات عامة مفتوحة، نادراً ما يوجد احترام لأصوات مغايرة" للاتجاه السائد.

يبدو أنّ تصريحات الفنان العالمي قوبلت بانزعاج في أوساط ثقافية وإعلامية محلية، ودفعت صحف ألمانية بعناوين وتعليقات لاذعة تستعجل مغادرته البلاد. إن تمّ التسليم بما باح به آي ويوي، فإنها تفرض تساؤلات وجيهة عن متضررين آخرين محتملين من تحيّزات سلبية في الحياة الثقافية ممّن لم يُلتفت إليهم أساساً. أو أنّ الأمر يتعلّق بتمنُّع المشهد الثقافي الألماني عن استيعاب خبرات وافدة إليه أو الاعتراف بها كما ينبغي.

لامَس ويوي قضية فائقة الحساسية، تتمثّل في تأثيرات أنظمة الدعم والرعاية المكرّسة للمرافق والفعاليات الفنية والثقافية، فقد تُستغلّ الرعايات باباً لتدخّلات ناعمة في المضامين وإن جاءت مستترة ومتذاكية.

قد تستشعر شركة ما أنّ مصالحها قد تتضرّر إنْ تمسّكت برعاية مهرجان ثقافي يستضيف ناقداً لسياسات معيّنة. وإن جرّب آي ويوي وجهاً مخصوصاً من نفوذ الصين الناعم خارج حدودها؛ فما يكون الحال مع نفوذ دول وأنظمة أخرى لم يختبر هذا الفنان اشتغالها؟

ليس آي ويوي من أولئك الفنانين الذين يدركون عالمهم من منظور سائد في بيئتهم، فهو يرى الواقع من مناظير عالمية متعددة، ولا يُعفي سياسات الديمقراطيات الغربية من التمحيص الناقد. عبّر آي ويوي عن أفق عالمي منفتح على قضايا عدة، وفي يونيو/ حزيران 2018 وقّع على عريضة جماعية تحذِّر من "جريمة حرب" يعتزم الاحتلال الإسرائيلي اقترافها في قرية الخان الأحمر البدوية شرق القدس بهدمها وتشريد سكانها.

كما كرّس آي ويوي عدداً من أعماله لمآسي المبحرين إلى أوروبا طلباً للجوء، ومنها قارب ضخم يحتوي ثلاثمائة إنسان متماثل غير معرّف الوجه، وهو عمل شكّل مادّته من مطاط استخلصه من قوارب الغارقين. وفي فيلم "تدفّق إنساني" (2017) ارتحل ويوي مع اللاجئين وطالبي اللجوء وكشف عن أحوالهم في أربعين مخيماً تتقاسمها عشرون بلداً، منها بلدان عربية.

لا يرى ويوي فارقاً بين الاشتغال الفني والنشاط السياسي، لكنّ بعض طرائقه في الاعتراض اختارت أساليب صادمة، فبعد إطلاق سراحه سنة 2011 مثلاً تجرّد من ملابسه بالكامل وأطلق موجة "تضامنية" معه انخرط فيها بعض الصينيين بأسلوب التعري الكامل، فاتهمته السلطات بعد هذه المشاهد الفاضحة بالترويج للإباحية.

جرّب ويوي شيئاً من ذلك في أوروبا بمعرض صور التقطها قبالة معالم شهيرة تعبِّر عن السلطات الرسمية والهيئات العامّة والكنائس اعتراضاً على أدوارها ومواقفها، بإظهار حركة مُهينة تُستعمل فيها أصابع اليد.

يختتم ويوي تجربته الواقعية في المنفى الألماني بمكاشفة موجعة، اعتبر بينيديكت نيفّ في صحيفة "نويه تسورخر تسايتونغ" السويسرية أنها "فنّ الإهانة العالي"، لكنّ ما قاله يستحق مراجعات صريحة وإن لم تكن ألمانيا مستعّدة لخوضها.

المصدر: TRT عربي

إهانة موسمية

المغرب ليس بلدا خاليًا من الأعطاب، ومن يدعي ذلك فهو ليس مُخطئا فحسب، بل يساهم، من حيث لا يدري في تأخر عملية الإصلاح، وبالتالي يضر البلد أكثر مما ينفعه، ولا ...

استطلاع رأي

مع تصاعد التوتر بين المغرب والجزائر وتكثيف الجيش الجزائري لمناوراته العسكرية قرب الحدود المغربية بالذخيرة الحيّة وتقوية الجيش المغربي لترسانته من الأسلحة.. في ظل أجواء "الحرب الباردة" هذه بين البلدين كيف سينتهي في اعتقادك هذا الخلاف؟

Loading...