إسبانيا.. جارتنا القريبة العاجزة عن رؤيتنا جيدا!

 إسبانيا.. جارتنا القريبة العاجزة عن رؤيتنا جيدا!
الصحيفة – افتتاحية
الأحد 30 يناير 2022 - 20:17

لا تزال العديد من الدول تستصعب فهم رغبة المغرب في أن يُصبح قوة إقليمية في إفريقيا والمنطقة العربية، سياسيا واقتصاديا، ويزيد الأمر تعقيدا بالنسبة لها عندما يتعلق الأمر بالمنافسة على لعب أدوار حاسمة في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط، ومن بين أبرز تلك الدول إسبانيا، البلد الذي لا زال غير مقتنع بأن الرباط التي أضحت تحرك دبلوماسيتها بمُحَرِّكَيْ "الثقة والمصلحة"، جاد في خوض معارك غير مسبوقة مع دول اعتادت أن تُعامل المملكة معاملة الأستاذ لتلميذ مطيع.

في 20 غشت 2021، وفي خطابه بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب، وجه الملك محمد السادس رسالة بهذا المعنى للدول الكبرى التي كان المغرب قد دخل معها في قطيعة دبلوماسية، وتحديدا ألمانيا وإسبانيا، حيث قال إن قادة بعض البلدان "لا يريدون أن يفهموا أن قواعد التعامل تغيرت، وأن دولنا قادرة على تدبير أمورها، واستثمار مواردها وطاقاتها، لصالح شعوبنا"، وبعدها استطاعت برلين التقاط الرسالة جيدا وهي التي كان مسار المصالحة معها يبدو أكثر تعقيدا، لكن الإسبان عجزوا عن ذلك.

يقول مثل بليغ: "حين أشير إلى السماء ينظر الحكيم إلى القمر وينظر الأحمق إلى أُصبعي"، وهو مثل قد يلخص تدبير برلين ومدريد لأزمتين متقاربتين زمنيا وفي المُسببات، لأن الألمان علموا أن المغرب لم يعد يقبل أن يتحمل وحده التكلفة الثقيلة لـ46 عاما من الصراع في قضية الصحراء بينما الآخرون يتفرجون ويكتفون بإمساك العصا من المنتصف رغم أن لديهم العديد من المصالح المشتركة مع المملكة، أما الإسبان فتجاهلوا الرسالة الأولى من الخطاب وفضلوا التركيز على الرسالة الودية من الملك لرئيس الحكومة الإسباني بخصوص "تدشين مرحلة جديدة وغير مسبوقة في العلاقة بين البلدين على أساس الثقة والشفافية والاحترام المتبادل والوفاء بالالتزامات".

ومن يطالع وسائل الإعلام الإسبانية حينها وتصريحات وزير الخارجية خوسي مانويل ألباريس المصبوغة باللون الوردي، يتأكد جيدا من ذلك، إذ أضحت تتحدث عن الأزمة التي تلت التسلُّل الفضائحي لزعيم جبهة "البوليساريو" الانفصالية إلى إسبانيا، الذي تُتابع بشأنه قضائيا وزيرة الخارجية السابقة أرانتشا غونزاليس لايا، وكأنها (الأزمة) قد أصبحت من الماضي.. هكذا بكل بساطة، وكأن المشاكل الدبلوماسية قد تُحل بالأمنيات وحدها أو بالتجاوب مع بادرة حسن نية ببعض الكلام المعسول.

إن مشكلة الإسبان هي أنهم غير قادرين على الاقتناع بأن بلاد "الموروس"، التي كانوا ولا زالوا يرونها أرض الفقر والفساد والقمع والتخلف والفشل والتبعية، قد تغيرت بسرعة، وأصبحت تجيد كثيرا، بلا مبالغة، لعب أوراق الدبلوماسية والتحدث بلغة المصالح، وهذا ما يُبعد سانشيز وحكومته عن قراءة الأزمة بشكل صحيح وعن الوصول إلى حلول مُجدية، والاكتفاء بالأساليب القديمة التي أثبتت التجربة أنها لم تُفِد دولا أقرب إلى المغرب من إسبانيا، مثل فرنسا والسعودية والإمارات.

لا زالت إسبانيا تعتقد أن بعض الكلام المنمق والمتفائل الصادر عن وزير الخارجية يكفي لطي صفحة الخلاف، وإن لم ينفع ذلك، فقد ينفع كلامٌ  وديٌ صادر عن الملك فيليبي السادس في إنهاء المشكلة، لكنها تغفل عن أن الأمر لا يتعلق بخلاف ولا بمشكلة، بل بأزمة تريد الرباط إنهاءها جذريا بدفع الإسبان إلى إعلان موقف صريح يدعم مبادرة الحكم الذاتي في الصحراء كأساس للحل النهائي، تماما كما فعلت ألمانيا بمجرد وصول الاشتراكيين الاجتماعيين، أصدقاء الحزب العمالي الإسباني وأقرباءه الإديولوجيين، إلى الحكم. 

والحقيقة هي أن ارتباط قضية الصحراء بأي مُصالَحَةٍ وبأي مَصْلَحَةٍ لم يعد أمرا خافيا إلا على الإسبان، الذين يحاولون، عبر وسائل إعلامهم، إخفاء الشمس بالغربال، حين قللوا مثلا من أهمية الموقف الألماني الجديد من مقترح الحكم الذاتي، أو حتى حين توقعوا أن يتراجع الرئيس الأمريكي جو بايدن عن الاعتراف بالسيادة المغربية على المنطقة قبل عام من ونيف من الآن، دون أن يحصل شيء من ذلك على أرض الواقع.. إنها حالة متقدمة من "الإنكار" الذي لا طائل منه، كل ما تفعله هي تعقيد الأمر أكثر.

والمؤكد أن حالة "الشلل الدماغي" التي تعاني منه الدبلوماسية الإسبانية، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالمنافسة مع المغرب على المصالح الإقليمية، لم تعد خافيا على الكثير من الإسبان، لذلك نجد صحافيا مخضرما مثل خوسي ماريا أنسون، الذي ترأس وكالة الأنباء الإسبانية "إيفي" في السبعينات والثمانينات، والذي يحظى حاليا بعضوية الأكاديمية الملكية الإسبانية، يتحدث صراحة عن أن حكومة سانشيز غافلة عن أن واشنطن نفسها أضحت، في زمن بايدن، توجه أنظارها صوب الرباط بدل مدريد.

ولذلك أيضا نجد أكاديميا مثل خورخي ميستري، الذي ظل لـ6 سنوات مستشارا أولا لرئيس الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا، والذي يعمل أستاذا للعلاقات الدولية ويُدير ماجستير القيادة والمفاوضات في الجامعة الأوروبية ببلنسية، ينصح ألباريس بالتوقف عن "نفي المشاكل" عند حديثه عن الأزمة مع المغرب، ويدعو سانشيز إلى التوقف عن الاستماع لـ"الراديكاليين" الموجودين داخل حكومته بخصوص الأزمة، بل الإصغاء إلى "رجال الدولة" من القصر الملكي والحزبين الاشتراكي العمالي والشعبي إن هو أراد فعلا إيجاد حل.

إن المغرب ليس جنة في مجال الحقوق والحريات، ولا يزال بلدا يعاني من الفساد ومن المشاكل الاجتماعية المتراكمة منذ عقود، ولا زالت صور الفقر والهجرة غير النظامية والتفاوت الطبقي سحابةً سوداء تغطي الأشياء الإيجابية التي تتحقق، وهذا يعرفه المغاربة قبل غيرهم حاكمين كانوا أو محكومين، لكن لجوء السياسيين والإعلاميين الإسبان إلى كل ذلك لـ"مُعايرة" جارهم ليس إلا مراوغة غير مجدية، لأن هذا البلد نفسه استطاع أن يصبح رقما صعبا في مجالات أخرى كان يُعتقد، إلى وقت غير بعيد، أن طموحه فيها ضرب من خيال، من بينها أن تُصبح قدرته على التفاوض والإقناع وكسب المواقف والمواقع أمرا يدعو للإعجاب، وفي هذا المعترك تحديدا يجب أن تُظهر مدريد، كما الرباط، ما هي قادرة على فعله.

لا شك أن إسبانيا تريد إعادة العلاقات الدبلوماسية مع المغرب، كما لا شك في أنها تسعى لذلك لأن لها فيه مصالح اقتصادية وأمنية وليس من أجل سواد عيون المغاربة، لكن الوصول إلى هذا الهدف بشروطها هي ووفق أهوائها هي وفي الوقت الذي يناسبها هي، أمور أضحت ضربًا من الخيال أو تكاد، ما دام أن المغرب لم يعد يقبل الصمت والصبر على الخنجر المغروس منذ زهاء نصف قرن في خاصرته، وما دام يرى نفسه اليوم قادرا على تمييز أصدقائه ممن يزعمون ذلك بامتحان بسيط، هو أن يطلب منهم مساعدته على انتزاع هذا الخنجر حتى يتمكن من الوقوف سويا على قدميه ويسير معه "جنبا إلى جنب" لتحقيق الطموح الذي عبر عنه مؤخرا العاهل الإسباني.

ولو رفضوا، فليذهبوا غير مأسوف عليهم، هذا هو المنطق.. وصَدَقَ أجدادنا حين قالوا "اللي سكت على اللي ضرُّو الشيطان غرُّو".

تعليقات
جاري تحميل التعليقات

إهانة موسمية

المغرب ليس بلدا خاليًا من الأعطاب، ومن يدعي ذلك فهو ليس مُخطئا فحسب، بل يساهم، من حيث لا يدري في تأخر عملية الإصلاح، وبالتالي يضر البلد أكثر مما ينفعه، ولا ...