السياسة الخارجية لمحمد السادس: عودة لإفريقيا وأزمات مع "الأصدقاء"

 السياسة الخارجية لمحمد السادس: عودة لإفريقيا وأزمات مع "الأصدقاء"
الصحيفة من الرّباط
الثلاثاء 30 يوليوز 2019 - 12:00

عندما ورث الملك محمد السادس العرش عن والده سنة 1999، كان المغرب يصنف ضمن القوى الإقليمية الأكثر تأثيرا في العالم العربي والقارة السمراء، كما كان اسم الحسن الثاني يعبر، وسط المحافل الدولية، عن حنكة دبلوماسية ومنظور غير تقليدي لحل الأزمات في مجموعة من بؤر التوتر عبر العالم.

كان طموح الحسن الثاني يتجاوز الحدود الجغرافية لبلاده، حتى إنه في الثمانينات قدم طلبا للالتحاق بالاتحاد الأوروبي، قائلا عبارته الشهيرة "المغرب شجرة جذورها في إفريقيا وأغصانها في أوروبا"، كما كانت علاقات المملكة مع جل دول العالم لا تقبل الحياد، فهي إما صديق وإما خصم.

لكن نجله الملك الشاب، الذي كان معتادا منذ صغره على الحضور الدائم في المحافل الدولية، كمرافق لوالده أو كممثل عنه، لم يكن يشاطر هذا الأخير منظوره للشأن الدولي والإقليمي باعتباره أولوية تسبق أحيانا حتى الشأن الداخلي، بل اختار الالتفات أولا للاختلالات الاجتماعية والاقتصادية الداخلية المتراكمة، خاصة في النصف الأول من حكمه الذي وصل لعامه العشرين، قبل أن يعود لإيجاد مساحات جديدة للملكة في مختلف مناطق العالم، عبر دبلوماسية أكثر "براغماتية".

اهتمام بالداخل

تلخص عبارة "تازة قبل غزة" الشهيرة، التي تم تداولها إعلاميا بشكل كبير منذ مطلع الألفينات، التوجهات الكبرى للملك محمد السادس في بداية عهده، فالملك الشاب الذي ورث عن والده مملكة بثقل كبير إقليميا ودوليا، ورث أيضا بلدا غارقا في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي كان حلها في نظره أولى الأولويات، الأمر الذي يفسر تفضيله القيام بجولات في أكثر أقاليم المغرب تهميشا عوض الجولات الأوروبية والعربية التي كانت مواعيدها تملأ رزنامة والده.

كانت القضية الفلسطينية، مثلا، في صلب اهتمام السياسة الخارجية المغربية زمن الحسن الثاني، حتى أنه صار رئيسا للجنة القدس التي داوم على عقد قممها بحضور أبرز زعماء العالم العربي والإسلامي، لكن نجله بدا مقتنعا أن حل هذه القضية لا يتم وسط قاعات المؤتمرات والفنادق الفخمة، لذلك قلص وتيرة انعقاد اللجنة حتى وإن كان يعتبر القضية الفلسطينية "قضية وطنية" كما جاء في إحدى خطاباته، وفضل تأجيل النظر في موضوع القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، إلى ما بعد النظر في مآسي مناطق مهمشة كثيرة مثل تازة، ولهذا كانت صوره وهو يدشن طريقا سيارا أو سدا أو محطة للكهرباء أو مركزا للتكوين المهني أكثر من صوره وهو يصافح زعماء العالم.

إفريقيا: السياسة والاقتصاد

كانت 33 سنة من الابتعاد عن الاتحاد الإفريقي، كافية للمغرب لتقييم حجم خسائره من خطوة أقدم عليها الحسن الثاني سنة 1984 بعدما اعترفت منظمة الوحدة الإفريقية، كما كانت تدعى وقتها، بما يسمى "الجمهورية الصحراوية"، حيث اتضح للمملكة أنها خلفت فراغا دفعت ضريبته غاليا، ليس سياسيا فقط ولكن أيضا اقتصاديا، حيث ضيعت على نفسها فرصا استثمارية ضخمة فاسحة المجال للثالوث المعادي لمصالح المملكة، المتمثل في الجزائر ونيجيريا وجنوب إفريقيا.

تدريجيا، صار الملك محمد السادس المنهمك في مشاريع البنى التحتية ومحاولات تقليص الفوارق المجالية والأزمات الاجتماعية الداخلية، يعاين الأضرار التي تتكبدها المملكة في قضية الصحراء، وعلم أن المدخل الدبلوماسي الأكثر نجاعة وفعالية لتدارك ما فات كان هو الاقتصاد، بعدما انتبه إلى أن المال الذي تفوح منه رائحة النفط استطاع أن يشتري العديد من الولاءات في القارة السمراء.

بدأت ملامح سياسة خارجية جديدة تُرسم في العشرية الثانية من حكم الملك محمد السادس، وصارت الدول الإفريقية وجهته المفضلة، ليس فقط الدول الفرانكفونية التي تربطها بالرباط علاقات سياسية وثقافية متينة مثل السينغال وساحل العاج وغينيا والغابون، والتي تعززت باستثمارات مهمة منذ سنة 2013، ولكن أيضا نحو بلدان محسوبة على الصف الذي يدين بالولاء لجنوب إفريقيا ونيجيريا، لذلك اقتحمت الزيارات الملكية أجواء دول مثل رواندا وغانا وتانزانيا، وهناك استطاع المغرب ضرب عصفورين بحجر واحد، فمن جهة كسب نقاطا كثيرة لصالح موقفه من قضية الصحراء، ومن جهة أخرى ظفر بفضاءات واعدة للاستثمار.

بل أكثر من ذلك، بادر الملك محمد السادس أيضا إلى كسر الجليد المتراكم حول علاقة المملكة بخصومها الكبار، فكانت زيارته لنيجيريا أواخر سنة 2016، وما تبعها من الإعلان عن مشروع أنبوب الغاز العملاق، ثم لقاءه مع رئيس جنوب إفريقيا جاكوب زوما في أبيدجان الإفوارية أواخر 2017، وهو الرجل الذي كان يجاهر بعدائه لمصالح المملكة، الأمر الذي دفع مراقبين للقول بأن المغرب "صار أكثر براغماتية" في علاقاته مع دول القارة الإفريقية.

استطاع الملك عبر السياسة والاقتصاد، أن يجعل صوت المغرب مسموعا بقوة مرة أخرى داخل القارة، وتوج ذلك بعمل دبلوماسي محكم أفضى لعودة المغرب إلى الاتحاد الإفريقي في يناير 2017، ويومها ألقى العاهل المغربي خطابا لا يخلو من عاطفة قال فيه " "كم هو جميل هذا اليوم، الذي أعود فيه إلى البيت، بعد طول غياب، فإفريقيا قارتي، وهي أيضا بيتي، كم أنا سعيد بلقائكم من جديد".

فرنسا والحموشي

ظلت فرنسا على امتداد عقود ما بعد الاستقلال، الشريك الأول للمغرب في سياسته الخارجية، فالمستعمر السابق لجزء كبير من التراب المغربي ظل يقدم الدعم السياسي والدبلوماسي لقضايا المملكة، وفي مقدمتها قضية الصحراء، في حين كانت الجمهورية تستفيد من امتيازات اقتصادية كبيرة داخل المغرب، لكن هذه العلاقة ستتعرض لامتحان عسير في فبراير من سنة 2014.

كان عبد اللطيف الحموشي، المدير العام للمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، وأحد أكثر رجال ثقة الملك في مراكز صنع القرار الاستخباراتي، في زيارة خاصة إلى فرنسا كان يفترض أن تمر في أجواء عادية، إلى أن طرقت الشرطة الفرنسية باب سفارة الرباط في باريس وهي تحمل مذكرة قضائية بإحضار الحموشي للاستماع له في قضية تعذيب الرياضي المغربي زكرياء المومني.

نزل الخبر كقطعة ثلج على القصر الملكي، خاصة وأن الطريقة التي تم بها الأمر اعتبرت "مهينة للمملكة"، حتى ولو لم تؤد في النهاية إلى الاستماع للمسؤول الأمني المغربي، فأصدرت وزارة الخارجية والتعاون بيانا شديدة اللهجة تدين فيه ما جرى وتصفه بأنه "خطير وغير مسبوق"، أما وزارة العدل والحريات فعمدت إلى إلغاء اتفاقية التعاون القضائي الثنائي بين البلدين.

اعتبر الملك أن ما جرى إهانة لشخصه ولمملكته، فَأوقف أي تواصل مع الرئيس الفرنسي حينها فرانسوا هولاند، ليستمر الجفاء لنحو سنة، وانتهى بتراجع ضمني لفرنسا عن ما كانت تنوي الإقدام عليه، حين قام وزير الداخلية الفرنسي برنار كازنوف بتوشيح الحموشي في فبراير 2015 بوسام الاستحقاق من درجة ضابط، قبل أن يضيف الملك إلى مهامه بعدها بشهور الإدارة العامة للأمن الوطني، في خطوة غير مسبوقة.

أزمة مع واشنطن

ظلت قضية الصحراء طيلة فترة حكم الملك محمد السادس، تتصدر اهتمامات سياسته الخارجية، ونجحت المملكة المتحدة على مدى عقدين من تجاوز عدة فخاخ نصبت لها خاصة داخل أروقة الأمم المتحدة والمؤسسات التابعة لها، وكان من أسباب ذلك المساندة الضمنية لفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية للمغرب، حتى إن هذه الأخيرة استضافت الجولات الأولى من المفاوضات بين المملكة وجبهة البوليزاريو بمانهاست في 2007.

لذلك، كان إعلان الخارجية الأمريكية سنة 2013 عن نيتها طرح مقترح على مجلس الأمن لتوسيع مهام "المينورسو" بالصحراء لتشمل مراقبة وضع حقوق الإنسان، تمهيدا لضرب موجعة كان على المملكة أن تتفادى تلقيها قبل فوات الأوان، خاصة وأن المغرب كان يعلم أن خروج هيلاري كلينتيون من وزارة الخارجية الأمريكية، وحلول جون كيري محلها، قد يستتبعه تغير في الموقف الأمريكي من قضية الصحراء، إذ إن كيري، ومنذ أن كان سيناتورا في الكونغرس، ظل يعتبر أن الموقف الأمريكي المساندة للمغرب "غير صائب".

استطاع المغرب بسرعة أن يحتوي هذه الأزمة، بعدما اختار القيام برد فعل مفاجئ، حيث قرر إلغاء مناورات "الأسد الإفريقي" العسكرية بسواحله، والتي يشارك فيها ما يقارب 1500 جندي من قوات المارينز، الشيء الذي فهمت من خلاله دول مثل فرنسا وإسبانيا وألمانيا أن الأمر قد يعني قطع التعاون الأمني المغربي مع الولايات المتحدة وربما أيضا مع دول أوروبية تعيش وسط مخاوف من حدوث "هجمات إرهابية"، لتتراجع واشنطن سريعا عن خطوتها، قبل أن يطوي لقاء باراك أوباما والملك محمد السادس بالبيت الأبيض صفحة الخلاف نهائيا.

السعودية.. الإمارات.. قطر..   

ظلت دول الخليج شريكا سياسيا واقتصاديا فوق العادة للمملكة المغربية في عهد الملك محمد السادس، وتجلى ذلك منذ السنة الأولى من حكمه حين قام بجولة في المنطقة، وبلغت متانة العلاقة لدرجة قيام المغرب بقطع علاقاته الدبلوماسية مع إيران بسبب تصريحاتها التي اعتبرت ماسة بسيادة البحرين في 2009.

لم تكن العلاقة بين المغرب ودول الخليج عادية، فالأمر يتعلق بأنظمة حكم هي الأقرب للملكية المغربية، وتعاون أمني وعسكري وصل حد مشاركة المغرب في عملية عاصفة الحزب باليمن إثر انقلاب الحوثيين على الرئيس المنتخب عبد ربه منصور هادي، ما كلف المملكة خسارة طيار مغربي وطائرة من طراز إف 16، ويضاف إلى ذلك العلاقات الشخصية التي تربط الأسرة المالكة في المغرب بحكام الخليج وخاصة الملوك والأمراء السعوديين.

لكن هذه العلاقات كانت على موعد مع امتحان عسير بعد تقلد الأمير محمد بن سلمان في السعودية، وقبله الشيخ محمد بن زايد في الإمارات، السلطة الفعلية نتيجة كبر سن الملك سلمان بن عبد العزيز ومرض الشيخ خليفة بن زايد، وصار أكثر ما يجمع "الحاكمين" الجديدين "فوبيا" وصول الربيع العربي إلى بلديهما، لذلك لم يجدا حرجا في اتخاذ إجراءات قاسية ضد جارتهما دولة قطر سنة 2017، بعدما اتهماها بدعم الثورات العربية، إجراءاتٌ كادت تتطور إلى تدخل عسكري.

اختار المغرب، كخطاب رسمي، الحياد في هذه الأزمة ومحاولة الصلح بين أطراف النزاع، غير أن "الحصار الاقتصادي" الذي فرض على القطريين في شهر رمضان دفع الملك إلى القيام بخطوة إنسانية تمثلت في بعث شحنة من المواد الغذائية إلى الدوحة، ومع اشتداد الأزمة وانضمام البحرين ومصر إلى ركب المحاصرين، قام في نونبر من سنة 2017 بزيارة قطر حيث استقبله الشيخ تميم بن حمد بحفاوة بالغة.

لم يرق الموقف المغربي للسعودية والإمارات، لتدخل العلاقة بينهما وبين المملكة نفقا مظلما لم يترددا خلاله في ضرب المصالح المغربية تحت الحزام، مثل التصويت ضد ملفه لاحتضان مونديال 2026، ثم الترويج لأطروحة البوليزاريو عبر قناة "العربية"، بل حتى إن العاهل السعودي الذي كان يقضي عطلته في المغرب سنويا، امتنع عن ذلك عقب الأزمة.

وفي المقابل، أبدى الملك محمد السادس إصرارا على استقلالية القرار المغربي، مترجما ذلك إلى خطوات عملية تمثلت في سحب غير معلن للسفيرين المغربيين من الرياض وأبو ظبي بداية 2019، ثم الانسحاب من العمليات القتالية في اليمن، وهي كلها أمور جعلت السعوديين والإماراتيين ينحون نحو خفض التوتر مؤخرا، رغم أن الغموض لا زال يكتنف مستقبل العلاقة مع المملكة.

فلسطين وصفقة القرن

فضل المغرب في عهد الملك محمد السادس، استبدال الكلام السياسي الكثير حول القضية الفلسطينية بمجموعة من الإجراءات العملية لدعم الشعب الفلسطيني، خاصة عبر مشاريع وكالة بيت مال القدس الشريف، إلى جانب التأكيد الملكي المتكرر على أن حل القضية الفلسطينية لا يمكن أن يكون خارج الشرعية الدولية ودون اعتراف بدولة فلسطينية عاصمتها القدس على حدود 1967.

غير أن الخطة المسماة "صفقة القرن"، التي هندسها غاريد كوشنير صهر الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، والتي تحظى بدعم عدة دول شرق أوسطية وفي مقدمتها مصر والسعودية والإمارات، أبرزت الوجه الصارم للمملكة حول هذا الموضوع، ففي مارس الماضي، وفي غمرة الترويج "للصفقة" كعملية سلام بديلة، صدر بيان مشترك أعقب لقاء الملك محمد السادس بالعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، حسم موقع المملكتين من هذه القضية.

وأكد البيان على ضرورة إقامة دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، كما شدد العاهل المغربي من خلاله على أهمية الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية بالقدس ودورها بحماية المقدسات العربية والمسيحية، وعلى دور أوقاف القدس والمجلس الأقصى باعتبارهما "السلطة الحصرية لتنظيمه وحمايته"، مشددا على أن الدفاع عن القدس والحفاظ عليها أولوية للمغرب والأردن.

ورغم محاولة كوشنير دفع المغرب لتغيير موقفه من الصفقة، عبر زيارته للمملك ولقائه بالملك، إلا أن شيئا لم يتغير من الناخية العملية، لدرجة أن المغرب اختار المشاركة في ورشة المنامة التي شهدت الإعلان عن الشق الاقتصادي للخطة، بـ"إطار في وزارة الاقتصاد والمالية"، بعدما كان الطرف الأمريكي والإسرائيلي يأملان في حضور مغربي وازن.

تعليقات
جاري تحميل التعليقات

هل الدولة الجزائرية عبارة عن "هجرة غير شرعية في التاريخ"؟

في حوار أجريناه في "الصحيفة" شهر غشت من سنة 2021 مع نور الدين بوكروح الذي يعتبر من السياسيين والمثقفين القلائل في الجزائر الذين ينتقدون "نظام الحكم" في البلاد المبني على ...