الفوسفاط المغربي.. ورقة تفاوض قوية في يد المغرب ومصدر لمداخيل قياسية في زمن الحرب الروسية الأوكرانية
في مارس الماضي، أعلن المكتب الشريف للفوسفاط أنه سيزيد إنتاجه السنوي بـ1,1 مليون طن سنة 2022 مقارنة بسنة 2021، وهو الإعلان الذي صدر في الشهر الموالي لبداية الحرب الروسية الأوكرانية، التي دفعت الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي لإعلان عقوبات على معظم صادرات موسكو كإجراء عقابي، ومن بينها صادرات الفوسفاط والأسمدة المستخرجة من هذه المادة التي يعد الروس رابع مَصدر لها في العالم.
وبقدر ما أعاد هذا الوضع خلط الأوراق في سوق الفوسفاط الدولي الذي يعد متحكما رئيسا في مجالي الزراعة والتغذية عبر العالم، بقدر ما وضع في يد المغرب ورقة سياسية واقتصادية قوية للعب بها في علاقته بالعديد من الدول الكبرى، بما في ذلك دول الاتحاد الأوروبي، التي باتت ترى في الاحتياطي المغربي، الذي يمثل حوالي ثلاثة أرباع الاحتياطي العالمي، طوق نجاة لتفادي كارثة غذائية لا تقل خطرا عن أزمة الطاقة التي أحدثها الوضع الراهن.
المغرب.. قبل الصين وروسيا
وتعد روسيا رابع مُصَدِّر للفوسفاط في العالم، بمتوسط صادرات سنوي يبلغ 14 مليون طن، وهو رقم يحتاج إلى من يغطيه حاليا بسبب العقوبات الدولية المفروضة على موسكو، لذلك اتجهت الأنظار إلى الدول الثلاثة الأولى المُصَدرة لهذه المادة، ويتعلق الأمر بالصين، الذي يبلغ إجمالي صادراتها السنوية 100 مليون طن، ثم المرغب ثانثا، بإجمالي صادرات سنوي يصل إلى 36 مليون طن في المتوسط، والولايات المتحدة الأمريكية التي تُصدر إلى دول العالم 23 مليون طن من الفوسفاط ومشتقاته.
لكن أنظار العالم تركز على المغرب بشكل أكبر، فمن جهة الدولة التي تسبقه في ترتيب المُصَدّرين هي الصين، الحليف الأبرز لروسيا والتي لا تربطها علاقة جيدة بالولايات المتحدة الأمريكية، البلد التي دخلت معها في أزمة جديدة مؤخرا بسبب جزيرة تايوان، توقع العالم أن تتحول إلى حرب طاحنة، كما لا تعد الخيار الأول لدول الاتحاد الأوروبي، التي لا تجمعها بها لا العلاقات الدبلوماسية الجيدة ولا حتى القرب الجغرافي المتوفر لدى المغرب.
لكن العامل الأهم، هو أن المغرب يملك حاليا الاحتياطي الأكبر في العالم من الفوسفاط، بـ50 مليار طن أي 72 في المائة من إجمالي الاحتياطيات العالمية، وهو بذلك يملك ثروة أكبر بكثير من الصين نفسها التي لا تتجاوز احتياطياتها 3,2 مليار طن، مقابل احتياطيات بقيمة 1,1 مليار طن في الولايات المتحدة الأمريكية و600 مليون طن في روسيا، الأمر الذي يفسر قدرة المكتب الشريف للفوسفاط على رفع إنتاجه السنوي بشكل كبير وبصورة مسترسلة، ويحوله إلى بنك للأسمدة باستطاعته ضمان الأمن الغذائي العالمي.
مخزن الأسمدة الأوروبية
ولم يعد خافيا أن الوضع الراهن أعطى للمغرب قوة تفاوضية أكبر مع العديد من دول العالم، لأن ضمان إمدادات الفوسفاط والأسمدة الفلاحية أصبح أولوية عند العديد من الدول الأوروبية ومختلف دول العالم، وحسب تقرير صادر عن موقع the drinks business المتخصص في اقتصاد المواد الكحولية والزراعات المرتبطة بها، بتاريخ 11 يوليوز 2022، فإن المغرب هو حاليا مصدر 41 في المائة من الأسمدة التي تصل إلى أوروبا، و50 في المائة من الأسمدة الهندية و40 في المائة من الأسمدة البرازيلية.
وحتى لا نذهب بعيدا، يكفي أن نعود إلى ما جاء في صحيفة "بيلد" الألمانية يوم أمس الخميس، تزامنا مع زيارة وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، إلى المغرب، والتي التقت خلالها نظيرها المغربي ناصر بوريطة، حيث أوردت أن برلين تتوقع أن يصبح المغرب أكبر مُصَدِّر للفوسفاط ومشتقاته إلى أوروبا إذا ما أوقفت روسيا مرة أخرى تصدير الأسمدة على خلفية إجراءات الاتحاد الأوروبي ضدها بسبب الحرب مع أوكرانيا، وهو السيناريو الذي حدث بالفعل في شتاء العام الماضي.
وبالعودة إلى موقع the drinks business نجد أن الاعتماد الأوروبي على الأسمدة الروسية كان أساسيا، حيث تصل إلى جميع دول الاتحاد دون استثناء وتضمن لها ما مجموعه 30 في المائة من حاجياتها من الأسمدة، ما جعل زراعات الكروم مثلا، التي يستخرج منها النبيذ، إحدى أكبر نقاط ضعف أوروبا أمام الروس، لذلك أصبحت دول القارة العجوز ترى في رفع المغرب، جارهم الجنوبي، لإنتاجه السنوي من الفوسفاط، البديل المناسب للأسمدة الروسية.
ورقة دبلوماسية وقيمة اقتصادية
لكن دبلوماسية الفوسفاط لا يستخدمها المغرب مع الدول الأوروبية فقط، فبتاريخ 18 غشت 2022 قال بلاغ لوزارة الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، إن المغرب يرحب بقرار جمهورية البيرو سحب اعترافها بما يسمى"الجمهورية الصحراوية" المزعومة الذي تم قبل سنة، ودعم الوحدة الترابية للمملكة ومبادرتها للحكم الذاتي، والمثير للانتباه أن البلاغ ربط الأمر بتعميق التشاور السياسي وتعزيز التعاون القطاعي، خاصة في مجالات الفلاحة والأسمدة، مبرزا أنه سيتم اتخاذ مبادرات ملموسة بخصوص ذلك في القريب العاجل.
وقبل ذلك، كان وزير الفلاحة البرازيلي، ماركوس مونتيس، قد زار المغرب في ماي الماضي، محملا بملف رئيسي، وهو سد الخصاص الذي ستُخلفه العقوبات التي طالت روسيا على واردات بلاده من الأسمدة، في ظل اعتمادها على الإمدادات الخارجية بنسبة 85 في المائة، وهي الخطوة التي قادته إلى الاجتماع بالمدير العام للمكتب الشريف للفوسفاط، مصطفى التراب، الذي انتهى بالإعلان عن افتتاح أول مصنع لمنتجات صخور الفوسفاط في أمريكا اللاتينية.
وتُظهر الأرقام العائدات الاقتصادية المهمة لهذا الوضع على المغرب، فحسب معطيات مكتب الصرف بخصوص الصادرات المغربية خلال الأشهر الخمسة الأولى من سنة 2022، نجد أن الفوسفاط ومشتقاته أدخلوا إلى خزينة المملكة 47,6 مليارات دولار، مقابل 24,2 مليار دولار خلال الفترة نفسها من سنة 2021، وذلك بعدما انتقل سعر الطن من 3431 درهما العام الماضي إلى 8354 هذه السنة، لتتفوق صادرات هذه المادة على صادرات السيارات التي وصلت إلى 41,3 ملايير درهم، على الرقم من ارتفاعها مقارنة بالعام الماضي حين سجل المغرب صادرات بقيمة 33,2 مليار درهم.
المكتب الشريف للفوسفاط يستعد
ويبدو أن الدور الذي يلعبه المغرب في ضمان الأمن الغذائي العالمي بفضل احتياطياته من الفوسفاط، أصبحت تثير الاهتمام الدولي بشكل متزايد بفعل الأزمة الروسية الأوكرانية التي لا يبدو أنها ستنتهي قريبا، لذلك نجد أن تقريرا صادرا عن معهد الشرق الأوسط الموجود مقره في واشنطن، شهر يونيو من العام الجاري، الذي اعتبر أن المغرب أظهر "أهمية متزايدة كشريك جيوسياسي للولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا"، معتبرا أنه سيشكل الدرع الواقي من أزمة غذائية في إفريقيا قد تتحول إلى موجة هجرة بسبب المجاعة.
وما يؤكد ذلك هي أرقام المكتب الشريف للفوسفاط نفسه، فقد أعلنت إدارة الأداء في مارس الماضي، في تصريحات نقلتها وكالة "رويترز" أن المؤسسة ستزيد إنتاجها من 10,8 ملايين طن سنة 2021 إلى 11,9 مليون طن سنة 2022، ستنضاف إليها 3 ملايين طن سنة 2023، في حين أن البرنامج الذي تعمل عليه الشركة في غضون السنوات الأربع المقبلة يتمثل في رفع الإنتاج ما بين 2023 و2026 بـ7 ملايين طن، أي حوالي 58 في المائة من الإنتاج الحالي.
وأعلن المكتب الشريف للفوسفاط أنه رفع رقم معاملاته بنسبة 77 في المائة، أي بأكثر من 25,3 مليار درهم في الفصل الأول من عام 2022، الأمر الذي ربطه تقرير لوكالة المغرب العربي للأنباء، الرسمية، في يونيو الماضي، بـ"الصعود من أجل الرفع من الأرباح وزيادة المكاسب في السوق العالمية"، مبرزا أن الأمر يتعلق "بفرصة حقيقية يجب اغتنامها، خاصة مع العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا، أحد أكبر مصدري الأسمدة".
تعليقات
بإمكانكم تغيير ترتيب الآراء حسب الاختيارات أسفله :