بشكل عام.. "ماكرون بلا قيمة"

 بشكل عام.. "ماكرون بلا قيمة"
الصحيفة - افتتاحية
الثلاثاء 21 فبراير 2023 - 2:05

بدأت الأزمة بين الرباط وباريس تكبر وتأخذ أبعادا تتجاوز رأس جبل الجليد الظاهر إلى ما هو أعمق يدخل في لعبة الصراع حول "نزع الاستقلالية" التي بدأت تبديها العديد من الدول الإفريقية، ومن بينها المغرب، عن النفوذ التقليدي لفرنسا في القارة.

ومع أن الكثير من النخب السياسية المغربية مازالت تُرَدِّدُ مِثل طفلٍ لا يَرغب في الفِطَام أن "سوء الفهم" بين باريس والرباط "عابر"، إلاّ أن الوقائع والمعطيات تؤكد أن الخلاف بين المغرب وفرنسا أعمق من تصويتٍ في البرلمان الأوروبي على وضعية حقوق الإنسان وحرية التعبير في المملكة، أو بإنزعاج فرنسي من قضية "تجسس افتراضية" اخترقت من خلالها المخابرات المغربية هاتف الرئيس إيمانويل ماكرون، ببرنامج "بيغاسوس".

التحولات الكبيرة التي يشهدها العالم أفرزت حقيقة ظاهرة تشير إلى أن فرنسا "ترهلت" اقتصاديا وضعفت سياسيا على المستوى الدولي، مما انعكس على نفوذها في القارة الإفريقية. وبعدما كانت باريس تبسط نفوذها على ثلث القارة الإفريقية مع بداية القرن الثامن عشر عند بداية استعمارها سنة 1830 للجزائر العثمانية، قبل أن يَتوسع هذا الاستعمار في القرن التاسع عشر ليشمل أغلب بلدان غرب إفريقيا، نجدها اليوم، تخرج تدريجيا من القارة مُرغمة بعد عقود من الاستغلال البشع لخيرات العديد من الدول التي جعلتها باريس تعيش التخلف القهري لعقود.

وقبل شهور من الآن، خرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ليؤكد في لقاء عَلني أن الهيمنة الغربية في أُفُول. وشدّد ماكرون على أن هذه الهيمنة كانت فرنسية مع مطلع القرن الثامن عشر بعد بروز تطلعات "عصر التنوير"، ثم أصبحت بريطانية مع الثورة الصناعية في القرن 19، قبل أن تنتقل في القرن العشرين إلى الولايات المتحدة الأمريكية بفضل الهيمنة الاقتصادية والسياسية والقوة العسكرية لواشنطن. وأضاف الرئيس الفرنسي بكثير من الحسرة أن هذه الهيمنة تعقدت، اليوم، بسبب ما وصفها بـ"أخطاء الغرب" في بعض الأزمات.

ولتجاوز هذه الأخطاء، يقترح ماكرون إعادة التفكير في استراتيجية ديبلوماسية وعسكرية عميقة، مع تغيير في بعض ما وصفها بـ"عناصر التضامن التي تَشكلت في لحظات جيوسياسية أصبحت، اليوم، متجاوزة، بعد ظهور قوى جديدة قلل الغرب (بما فيهم فرنسا) من شأنها لفترة طويلة، مثل صعود روسيا والهند والصين ودول إفريقية دون أن ينتبه أحد لذلك". يُضيف ماكرون بمرارة.

الرئيس الفرنسي الذي كان يتحدث وعلى ملامح وجهه تبدو تجاعيد التاريخ الاستعماري تتساقط، كان يدرك أن كل خطبه التي كان يقولها في العواصم الإفريقية عن "وهم الديمقراطية وحقوق الإنسان" كانت عبارة عن إخفاء النوايا الحقيقة لهيمنة الابتلاع التي تريدها فرنسا لإفريقيا عن طريق "قواها الناعمة" والخشنة التي توظفها باريس من أجل الضغط على مستعمراتها السابقة.

ولأن القارة بدأت تخرج من عباءة باريس، لجأ ماكرون عند زيارته إلى بوركينا فاسو نهاية سنة 2017 إلى خطاب عاطفي مُؤثر حينما دعا الأفارقة الناطقين باللغة الفرنسية بأن لا يتخلوا عن "لغتهم" لصالح الإنجليزية، مؤكدا بالقول: "إن التخلي عن اللغة الفرنسية من أجل جعل الإنجليزية لغة شائعة في القارة الإفريقية يعني أنكم لا تنظرون إلى المستقبل".

والمستقبل بالنسبة لماكرون هو الإبقاء على "نخبة الاستخلاف" عن طريق التحكم في الهوية الثقافية للدول، والانخراط في الأيديولوجيا الفرنسية عن طريق اللغة، وهو السلاح التي توظفه فرنسا بفلسفة بارعة لربط مصالحها بالنخب السياسية والثقافية والاقتصادية التي تصنع القرار في بلدان إفريقيا، وهي الحقيقة التي مازالت راسخة في الكثير من دول القارة من بينها المغرب حيث صناعة النخب التي تُدبر البلاد تمر عبر التعليم في مدارس البعثات الفرنسية، ومن تم الانتقال إلى المدرسة الوطنية للقناطر والطرق في باريس، حيث التخرج منها يعني احتضانك من طرف الدولة لِتُدير أهم مؤسساتها، وهي السياسية التي اعتُمِدَت في المغرب منذ الاستقلال ورسخها المستشار الملكي الراحل عبد العزيز مزيان بلفقيه، ومازالت سارية إلى اليوم، وإن كان جيل جديد من النخب متعدد اللغات والثقافات بدأ يجد مكانه داخل دواليب الدولة، ويغير هذا "التقليد الكسول".

وهكذا، فرضت فرنسا نوعا من الأبوية السياسية والاقتصادية من خلال اللغة التي أنتجت بها "الاستعمار الثقافي" الذي ساعدها على خلق ما يسمى بـ"مجتمع الفرانكوفونية" الذي مكّنها من هندسة النخب وأنظمة الحكم في الدول الإفريقية. وفي المغرب مازالت العديد من المظاهر تعكس هذه الحقيقية من بينها توغل الفرنسية في الإدارة الوطنية بما يشمل الوزارات التي تمثل سيادة الدولة، وكذا، التعامل بشكل شبه كلي في المراسلات الرسمية للدولة المغربية باللغة الفرنسية، كما أن لغة موليير تهيمن على جميع مناحي الاقتصاد الذي تتحكم فيه نُخبة غالبيتها "صُنعت في فرنسا" أو في بعثاث التعليم الفرنسي بالمغرب.

ومن بين مظاهر النخب التي تصنعها فرنسا لتدافع عن "فرانكوفونيتها" داخل دواليب الدولة المغربية، ما تَمّ الكشف عنه في المغرب من حصول وزير التعليم العالي والبحث العلمي عبد اللطيف الميراوي، عن مبلغ 2.6 مليون درهم مقابل الترويج لمشاريع فرونكوفونية بالمملكة خلال ترؤسه جامعة القاضي عياض بمراكش. وهي الحقائق التي لم ينفها الوزير، وعكست "الحرب الباردة" التي تخوضها باريس للإبقاء على مصالحها من خلال غرس ثقافتها في النُخب بدول إفريقيا.

وإن كانت فرنسا، توظف لغتها كقوة ناعمة من أجل الهيمنة الثقافية في إفريقيا، فإنها توظف قوتها الخشة، أيضا، لتمتص ثروات إفريقيا لتغذي اقتصادها "المتعب". ويكفي أن نعرف أن فرنسا أنشأت قبل خروجها من أغلب مستعمراتها في دول غرب إفريقيا عملة "الفرنك الأفريقي"، وربطتها بالفرنك الفرنسي، ثم الأورو حيث يجري تداول هذه العملة، اليوم، في نحو 14 دولة أفريقية، 12 منها من مستعمرات فرنسا السابقة.

كما أن 15 من بنوك الدول الإفريقية لها اتفاقيات مُلزمة مع البنك المركزي الفرنسي، بموجبها يحتفظ الأخير بودائع البنوك الإفريقية، حيث تلزم فرنسا شركاءها الأفارقة بإيداع 50% من احتياطياتهم من العملات الأجنبية لدى البنك المركزي الفرنسي الذي يتحكم في حجم السحوبات التي لا يجب أن تتجاوز سقف 15% من الأصول المودعة، وهو ما يمنح فرنسا أرباحًا سنوية تناهز 500 مليار دولار، مما يعني أن على الأفارقة أن يدفعون إيتاوات مقابل أموالهم المحجوزة وفق اتفاقيات مُلزمة وغير قابلة للتفاوض فرضتها باريس على هذه الدول، وهي "فلسفة الطغاة" التي جعلت الرئيس الفرنسي السابق، فرانسوا ميتران يقول سنة 1994 "إن فرنسا لن يكون لها تاريخ في القرن الـ 21 من دون أفريقيا".

ومن أجل تحقيق هذه الاستراتيجية التي تغذي الاقتصاد الفرنسي عبر شرايين تمتص ثروات إفريقيا، توجد، اليوم، أكثر من 1100 شركة فرنسية كبرى بإفريقيا، و2100 شركة متوسطة، تشتغل في استخراج الماس، واليورانيوم، والنفط، والغاز، والثروات الطبيعية، والخدمات البنكية، واللوجستيك، والمتاجر الكبرى، وخدمات التطهير، والاتصالات، والموانئ.. وأيّ نظام حُكمٍ في الدُول الإفريقية يُحاول تقويض مصالح هذه الشركات الفرنسية، تتدخل باريس لتغيير الحاكم بانتخابات مزورة أو بانقلاب عسكري، لذا، ليس من المستغرب أن القارة الإفريقية شهدت أزيد من 200 محاولة انقلابية منذ ستينات القرن الماضي إلى اليوم، أغلبها كانت بتخطيط ورعاية ودعم فرنسي في السر كما في العلن.

ومع كل هذا، تعيش فرنسا، اليوم، على وقع "قلق الصدمة" بعد إدراكها بشكل مُتخلف صعود جيل جديد من النخب في إفريقيا بدأ يطلب هوامش استقلال أكثر عن باريس التي أدركت متأخرة أن منطقها للهيمنة على الدول الإفريقية بالطرق الكلاسيكية لم يعد مقبولا أو منطقيا مع دخول لاعبين جدد في لعبة المصالح المعقدة.

وهكذا، استفاقت باريس، ذات اليوم، لتجد نفسها مطرودة من بوركينافسو، ومُنسحبة من مالي التي ظلت ترابط فيها 9 أعوام ضمن ما أطلق عليها "قوة برخان"، ومُرغمة على الخروج من جمهورية أفريقيا الوسطى، بعد أن كانت باريس متحكمة في البلاد منذ الاستقلال عنها سنة 1960.

أكثر من ذلك، وجدت فرنسا أن دولة في شمال إفريقيا، هي المملكة المغربية، قد أصبحت لاعبا كبيرا في غرب إفريقيا، اقتصاديا وسياسيا. حيث يعتبر المغرب، اليوم، أول مستثمر في الغرب الإفريقي وثاني مستثمر في القارة بكاملها، كما بسطت البنوك المغربية نفوذها المالي في العديد من الدول حيث توجد، اليوم، مجموعة "التجاري وفا بنك" في 13 دولة أفريقية، ويتعلق الأمر بموريتانيا والسنغال وكوت ديفوار والكاميرون وغينيا بيساو وبوركينا فاسو والطوغو والغابون ومصر والكونغو ومالي والنيجر وتونس. أما "بنك أفريقيا"، فيوجد بدوره في 13 دولة أفريقية، ويتعلق الأمر بمالي والنيجر وإثيوبيا وجيبوتي وكينيا وتنزانيا ومدغشقر وبورندي ورواندا والكونغو وغانا والطوغو والسنغال.

في حين توجد مجموعة "البنك الشعبي" في 12 دولة داخل القارة السمراء، وهي مالي وموريتانيا والسنغال وغينيا بيساو وغينيا وكوت ديفوار وبوركينا فاسو والطوغو والبنين وجمهورية أفريقيا الوسطى والنيجر وموزمبيق. وفي مجال الاتصالات توجد مجموعة "اتصالات المغرب"، في 10 دول أفريقية، وهي: مالي وموريتانيا وبوركينا فاسو وكوت ديفوار والطوغو والبنين والغابون وجمهورية أفريقيا الوسطى وموزمبيق والنيجر. هذا، في الوقت الذي تشعبت فروع المكتب الشريف للفوسفاط من خلال شركة OCP Africa التي تعمل في 16 دولة إفريقية، كما أنها تملك مصنعا كبيرا في إثيوبيا، وتساهم بشكل كبير في الأمن الغذائي لإفريقيا، كما أصبحت لاعبا مهما على المستوى العالمي.

هذا، في الوقت الذي استفاقت المخابرات الفرنسية التي وضعت اللبنات الأولى لجهاز "الكاب1" الذي كان يمثل المخابرات المغربية إبّان الاستقلال على واقع جديد، بعد أن أصبحت تتكئ على المعطيات التي توفرها الأجهزة الأمنية المغربية لتغذية وتحديث معطيات باريس الاستخباراتية من أجل محاربة التطرف والإرهاب ومواجهة الهجمات المتوالية للخلايا النائمة وسط فرنسا.

بالإضافة إلى ذلك، بدأت الرباط، تنهي احتكار الكثير من شركات التطهير الفرنسية التي كانت تفوز بعقود تدبير أكبر المدن المغربية، بملايير السنتيمات سنويا، كما بدأت الشركات المغربية تشتري فروع الشركات الفرنسية داخل وخارج المغرب وتوسع نفوذها القاري، مع تطور مذهل للمخيلة السياسية للمغرب نحو إفريقيا، بالاعتماد على قاعدة رابح/رابح في علاقات المملكة مع دول الجنوب، وهو ما جعل الرباط تخلط الكثير من الأوراق الفرنسية في القارة الإفريقية التي كانت بالنسبة لباريس "الشهوة الأبدية" التي يمكن التهام خيراتها لتضيء باريس كمدينة للأنوار.

وإن أضفنا كل هذا، إلى اعتماد الرباط على تنويع علاقاتها السياسية والاقتصادية مع العديد من البلدان مثل الصين وتركيا والهند، ودخول إسرائيل على خط تسليح القوات المسلحة الملكية، والاستثمارات العسكرية التي اتفقت عليها المملكة في هذا الباب لتصنيع أسلحة متطورة في المغرب.. كلها عوامل من بين أخرى جعلت فرنسا تدرك متأخرة أن الخريطة الجيوسياسية لم تعد تخدمها بشكل كبير في القارة، وأصبح من الضروري، اليوم، قبل الغد، تحجيم دور المملكة في القارة كي لا يكون المغرب تركيا جديدة في إفريقيا حسب تعبير رئيس جهار المخابرات الفرنسية.

مع كل هذا، نفهم، اليوم، لما طالبت وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا من المسؤولين المغاربة، عند زيارتها الأخيرة للمغرب بإنهاء التعاون العسكري بين الرباط وتل أبيب من أجل دخول باريس كوسيط في الأزمة بين المملكة المغربية والجزائر. مؤكدة انها تلقت ضمانات من المسؤولين الجزائريين على الدخول في "تطبيع كامل" إن هي أقنعت الرباط بإنهاء أي تعاون أمني وعسكري مع إسرائيل!

مع كل هذه التحديات الإقليمية والدولية، على المغرب أن يدرك أن صناعة نفوذ إقليمي وقاري لا بد أن يفتح الكثير من أبواب الصراع الخفي والظاهر مع العديد من الدول التي تتنافس من أجل إيجاد مكانٍ لها على الخريطة السياسية، مثل ما هو الحال مع الجزائر، أو مع دول أخرى ترغب في الحفاظ على "غنائم حروبها التاريخية" مِثلَ حَال فرنسا.

وإن كانت باريس تحاول، اليوم، أن تُدخل المغرب في "لعبة إنهاك" من خلال فتح العديد من الملفات الحقوقية والاستخباراتية التي توظفها الدول الغربية بلؤم كبير، فعلى الرباط، أن تُطور من أساليب قوتها الناعمة وحتى الخشنة للدفاع عن مصالحها الحيوية، وتقلل من الأخطاء المرتكبة داخليا، حتى لا تُسْتَغَل خارجيا، حين ذاك، ستصبح فرنسا برئيسها مجرد رقم في صراع دولي مكشوف، أو كما قالت ماريا زاخاروفا المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ردا على الرئيس الفرنسي الذي تمنى أن "يسحق روسيا في أوكرانيا"، حينها علقت على ذلك بالقول: "بشكل عام، ماكرون بلا قيمة".

تعليقات
جاري تحميل التعليقات

هل الدولة الجزائرية عبارة عن "هجرة غير شرعية في التاريخ"؟

في حوار أجريناه في "الصحيفة" شهر غشت من سنة 2021 مع نور الدين بوكروح الذي يعتبر من السياسيين والمثقفين القلائل في الجزائر الذين ينتقدون "نظام الحكم" في البلاد المبني على ...