بَين المغرب وفرنسا.. "سُوء فهم تاريخي كبير"
في مقابلة خاصة للملك الحسن الثاني مع الإعلام الفرنسي، بتاريخ 2 ماي سنة 1996، طرح الصحافي Alain duhamel على الملك الراحل الذي كان يُوصف بـ"الداهية" هذا السؤال: عندما يَكُون هناك سوء فهم بين الفرنسيين والمغاربة، وغالبا ما يحَدث ذلك، حينها، مَن عليه القيام بجهد كبير، لِيَفهم الآخر؟
رَدُّ الملك الحسن الثاني على سؤال الصحافي الفرنسي كان "بأنتم (يَقصد الفرنسيين). فنحن نعرفكم جيدا أكثر مما تعرفوننا. فأنتم لم تذهبوا إلى المدارس المغربية، بينما نحن نَدْرُسُ في مدارسكم الفرنسية، بمعنى نحن نعرف أجدادكم وأمهاتكم، ونعرف تاريخكم، ومؤسساتكم، في حين أنتم لا تعرفون عنا شيئا.. إنه دوركم اليوم لكي تتعرفوا علينا".
اليوم، وبَعد 26 سنة، من هذا التعليق العميق للملك الراحل الحسن الثاني، يَخطب الملك محمد السادس الذي كان وليا للعهد حينها، بنفس روح خطاب والده، ويدعو فرنسا في ذكرى "ثورة الملك والشعب" إلى أن تفهم المغرب، حيث قال في خطابه: ننتظر من بعض الدول، من شركاء المغرب التقليديين والجدد، التي تتبنى مواقف غير واضحة، بخصوص مغربية الصحراء، أن توضح مواقفها، وتراجع مضمونها بشكل لا يقبل التأويل"، مُشيرا في نفس الخطاب "أن ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صِدق الصَداقات، ونَجَاعَة الشَراكات".
فرنسا التي طالبها ذات يوم الملك الحسن الثاني بأن "تبذل جهدا لتتعرف على المغاربة"، ودعاها الملك محمد السادس لـ"أن تكون واضحة في علاقاتها مع المملكة"، هي ذاتها الدولة التي تتحمل الكثير من المسؤوليات التاريخية في المنطقة، ولها تراكمات سلبية في ترسيم الحدود المغربية التي قَضَمَت جزءا كبيرا منها لصالح الجزائر من خلال اتفاقية "لالة مغنية" التي وقعها المغرب مُرغما سنة 1845م بعد عقابه عسكريا على مساندته للمقاومة الجزائرية بقيادة الأمير عبد القادر، وما تلى ذلك من تقطيع للصحراء الشرقية وضمها لـ"الجزائر الفرنسية".
وإن كانت باريس مازالت عالقة في تاريخها الكولونيالي اتجاه المغرب، فالرباط، "تعبت" أو هكذا تبدو من اختباء قصر الإليزيه خلف مبررات لم تعد مقنعة لدعم المملكة في قضية الصحراء بشكل واضح بعيدا عن البنية الديبلوماسية التقليدية لفرنسا في هذا الملف.
فـ"المملكة لم تعد كما كانت"، حسب تعبير وزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، غير أن فرنسا لم تدرك ذلك بعد، ومازالت تتعامل مع المغرب كما باقي دول شمال إفريقيا كحديقة خلفية لباريس، يمكن افتراسهم وقتما دعت الضرورة لذلك، طبقا لمصالحها الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية في المنطقة، وهو ما أصبحت الرباط ترفضه، وتدعو لخروج فرنسا من "منطقة الراحة" من أجل بناء شراكات واضحة بعيدا عن العلاقات العشوائية التي تجعل المستقبل صعبا بعد أن كان الماضي أكثر صعوبة.
قصر الإليزيه يُدرك جيدا، أنه بدأ يفقد نفوذه الاقتصادي في المغرب لصالح إسبانيا، كما لم تعد باريس قبلة الحج لأهم صفقات المشاريع الضخمة التي كانت تظفر بها في المملكة بدون منافسة بعد أن دخلت الصين وألمانيا وتركيا وإسرائيل وبريطانيا بَعد البريكست على خط التنافس على مشاريع الطاقة والنقل والتسليح والتصنيع والبنيات التحتية في المملكة، وأصبحت الرباط تبتعد أكثر فأكثر عن منطق "الأستاذ والتلميذ" مع باريس.
اليوم، على فرنسا إدراك أن المغرب تعب بعد نصف قرن من الاستنزاف من لَيِّ ذراعه بقضية الصحراء، وأصبحت له قناعة أن الكثير من العواصم الغربية تجعل من هذه القضية، ملفا احتياطيا يمكن استخراجه ونفض الغبار عنه كلما دعت الضرورة لذلك، كما تم جعله مثل الحصى في حذاء المنطقة المغاربية لكبح أي تطور مستقبلي لِدُولها، بِالإبقاء على "ملف الصحراء" حيّا منذ خروج الاستعمار من المنطقة، وهو الملف الذي دمرّ الحجر وساهم في تغذية أحقاد تاريخية بين البشر، وخرّب أي تكامل للمنطقة المغاربية، وجعل علاقة المغرب والجزائر فوضوية.
وإن كانت الدول الغربية، كما هو حال فرنسا، قد وجدوا لنظامٍ عسكري فاشي في الجزائر قضية ليعيش ويتغذى عليها مثل قضية الصحراء للبقاء في السلطة أطول مُدة مُمكنة،، فالمغرب لم يعد قادرا على المغامرة بالمستقبل بجعل هذا الملف مفتوحا إلى ما لا نهاية، لذا، كان الملك واضحا بشأن "صِدق الصَداقات، ونَجَاعَة الشَراكات" للدول مع المملكة، والتي يجب أن تكون بمواقف واضحة لا تقبل التأويل في قضية الصحراء، وهو ما يَعني فرنسا تحديدا بعد أن أوضحت كل من ألمانيا وهولندا والبرتغال، وصربيا وهنغاريا وقبرص ورومانيا موقفهم من هذه القضية.
دعوة الملك محمد السادس لفرنسا بإظهار موقفها في قضية الصحراء بشكل واضح لا يقبل التأويل، هو تنبيه أيضا إلى الطابور الخامس في الرباط ممن يشكلون "خلايا نائمة مُفرنسة" تصلي على قبلة باريس وتصر على إغراق المجتمع المغربي بلغة فرنسية لم تعد صالحة لا للعلم ولا للاقتصاد ولا لبناء مستقبل صلب للأجيال المقبلة.
فالدفاع عن القضايا المصيرية للمملكة يحتاج، أيضا، إلى التخلص من الإرث الثقافي الكولونيالي الذي ينعكس على الاقتصاد والوعي الجماعي وهوية الدولة المغربية التي احتفلت بـ 12 قرنا على وجودها.
تعليقات
بإمكانكم تغيير ترتيب الآراء حسب الاختيارات أسفله :