تحرير سعر صرف الدرهم.. هكذا نجح المغرب في "مغامرته المحسوبة" وسط منطقة تنهار فيها العملات

 تحرير سعر صرف الدرهم.. هكذا نجح المغرب في "مغامرته المحسوبة" وسط منطقة تنهار فيها العملات
الصحيفة - حمزة المتيوي
الخميس 14 يناير 2021 - 12:19

بتاريخ 15 يناير 2021 سيتم المغرب 3 سنوات كاملة على الإلغاء التدريجي لنظام الصرف الثابت واعتماد تحرير صرف الدرهم بفك ارتباطه، عبر مراحل، بكل من اليورو والدولار الأمريكي، الأمر الذي وُصف قُبيل بدء العمل به بأنه "مغامرة"، ما اضطر والي بنك المغرب، عبد اللطيف الجواهري، إلى دعوة المغاربة لـ"الاطمئنان" كون أن العملية في المغرب تختلف عن نظيراتها في العديد من دول العالم بكونها "طوعية" وغير مفروضة من أي مؤسسة نقدية دولية، بالإضافة إلى أنها "متحكم فيها" بحيث سيجري تنزيلها عبر مراحل تمتد لسنوات.

وبالنظر إلى سعر صرف الدرهم مقابل الدولار يوم 5 يناير 2021 والذي بلغ 8,82 درهما مقابل دولار واحد، ومقارنته بسعر الصرف في اليوم نفسه من سنة 2018 والذي بلغ 9,08 دراهم لكل دولار، وبالرجوع أيضا لسعر صرف الدرهم مقابل اليورو التي بلغت 10,83 درهما لكل يورو في 5 يناير 2021 مقابل 10,92 درهما لكل يورو قبل 3 سنوات من هذا التاريخ، أي قبل أيام من الشروع في عملية تحرير سعر الصرف، يتضح أن المخاوف التي كانت مطروحة بخصوص إمكانية حدوث انهيار في العملة المغربية لم تتحقق، الأمر الذي يسترعي قراءة معمقة في التجربة المغربية.

الاستعداد للتحرير

وقبل الخوض في تفاصيل العملية، يطفو على السطح مصطلح "تعويم الدرهم" الذي رافقها قبل بدايتها والذي انتشر إعلاميا بشكل واسع، غير أنه لا يُعبر بدقة عن مضمون القرار الحكومي بتحرير الصرف، فالأمر لا يتعلق بـ"تعويم كامل" وإنما بتحرير تدريجي حسب تأكيدات والي بنك المغرب نفسه الذي رفض، خلال ندوة صحافية تزامنت مع الشروع في الإجراء الجديد، استخدام عبارة "التعويم" متحدثا في المقابل عن مسلسل أشبه بـ"مراحل الزواج التي تبدأ بالاتفاق ثم الخطوبة ثم عقد القران ثم حفل الزفاف، والمغرب، وفق ذلك، لا يزال في المرحلة الأولى".

وهذا الأمر الذي يوضحه لـ"الصحيفة" نوفل الناصري، الخبير المالي والاقتصادي والباحث في السياسات العمومية، والذي يقول إن المغرب "لم يقم بتعويم الدرهم ولكنه قام بتليين الدرهم أو التحرير التدريجي لسعر صرف الدرهم"، وهذا ما يعني توسيع نطاق تقلب سعر صرف الدرهم إلى زائد أو ناقص 2,5 في المائة مقارنة بسعر الصرف المحوري، مع الحفاظ على نفس أوزان السلة، دون خفض قيمة العملة، والمقصود في حالة العُملة المغربية سلة العملات التي يرتبط بها الدرهم، وقيمتها 60 في المائة بالنسبة لليورو و40 في المائة بالنسبة للدولار الأمريكي.

بنك المغرب

ويرى الناصري، وهو أيضا عضو في لجنة المالية والتنمية الاقتصادية في مجلس النواب المغربي، أن الدرهم استطاع "الصمود" بعد عملية التحرير التدريجي، وهذا راجع إلى العديد من النقاط الأساسية، وفي مقدمتها "صلابة التوازنات المالية والماكرو-اقتصادية"، حيث تحسنت جميع مؤشراتها خلال السنوات العشر الأخيرة، وهو ما يعني أنه جرى التحكم في التضخم في مستوى يقل عن 2 في المائة وفي عجز الميزانية في 3,6 في المائة، ثم في عجز الحساب الجاري في 4,3 في المائة.

بالإضافة إلى ذلك، سجل المغرب ارتفاع مستوى احتياطيات الصرف إلى ما يعادل 5 أشهر و27 يوما من الواردات في المتوسط، إلى جانب متانة القطاع البنكي وقدرته على مواجهة الصدمات التي أكدها تقرير برنامج تقييم القطاع المالي، وقد أظهرت التقارير الصادرة عن صندوق النقد الدولي خلال السنوات العشر الأخيرة عدم وجود اختلال بين سعر صرف الدرهم والأسس الاقتصادية للمغرب.

نوفل الناصري

ويلفت الناصري الانتباه أيضا إلى أن اختيار المغرب الانخراط في "مسار العولمة"، ساهم بدوره في تقوية الدرهم أمام عملية التحرير، وذلك عبر إبرام 56 اتفاقية للتبادل الحر، وإضفاء المزيد من المرونة على قانون الصرف بالنسبة للمقيمين، مع وضع سياسات قطاعية طويلة الأمد توفر رؤية واضحة للمستثمرين المغاربة والأجانب مما يزيد من جاذبية البلد.

لكن الأمر راجع أيضا إلى عوامل أخرى ترتبط بالمؤسسات الاقتصادية الكبرى للمملكة والتوجه نحو السوق الخارجية، وهو ما يشير إليه الناصري في حالة المكتب الشريف للفوسفاط الذي اعتمد استراتيجية جديدة تهدف إلى تقوية دوره على الساحة الدولية كصانع للسوق، بالموازاة مع تطور الصادرات المرتبطة بالمهن العالمية الجديدة للمغرب، وتحول القطب المالي للدار البيضاء لمركز مالي رائد إقليميا وقاريا، إلى جانب الاستراتيجية الإفريقية للمغرب التي تندرج في إطار إعادة بناء العلاقات جنوب - جنوب على أساس رابح – رابح.

غير أن كل ذلك لم يكن كافيا للدخول باقتناع إلى مغامرة التحرير، حيث إن كلا من وزارة الاقتصاد والمالية وبنك المغرب، قررا الرجوع إلى تجارب دولية في هذا المجال، وهو ما قادهما إلى إنجاز "محاكاة" على نظام الصرف المغربي، لدراسة مدى قدرته على تحمل الصدمات، لتكون الخلاصة هي أنه يملك من الصلابة مي يسمح بتحمل بتوسيع نطاق التذبذب، لتقرر الحكومة اعتماد نمط تحرير سعر صرف الدرهم تدريجيا.

نجاحٌ في محيط معقد

وتصبح التجربة المغربية أكثر إثارة للانتباه بالنظر لكونها تطبق في منطقة جغرافية تعاني عملاتها الأمرين منذ عقد من الزمن نتيجة التوترات المتتالية والمصاعب الاقتصادية المرتبطة بانهيار أسعار النفط وجائحة كورونا، الأمر الذي أدى مثلا إلى تأزم العملة الجزائرية المستمرة في الانهيار منذ 2014، حيث أصبح الدولار الأمريكي الواحد يساوي يوم 6 يناير 2021 أكثر من 132 دينارا، في حين يصل سعره في السوق السوداء إلى 200 دينار.

ويتضح هذا الأمر أيضا بمقارنة عملية "التليين" المغربية بعملية "التعويم" التي خضعها لها الجنيه المصري بأوامر مباشرة من رئيس البلاد عبد الفتاح السيسي في نونبر من سنة 2016، والذت كانت، على عكس الحالة المغربية، مفروضة من طرف المؤسسات المالية الدولية لتمكين القاهرة من الاستدانة الخارجية، الأمر الذي أدى إلى انهيار فوري للعملة حيث أصبح الدولار الذي كان يساوي أقل من 9 جنيهات في أكتوبر يعادل 18 جنيها في نونبر و19 جنيها تقريبا في دجنبر ويناير قبل يستقر مع بداية سنة 2021 عند أقل من 16 جنيها.

والي بنك المغرب

ويجد "نجاح" التجربة المغربية تفسيره عند الناصري، فالخبير الاقتصادي يرى أن إصلاح نظام الصرف بالمملكة قرارٌ لم تفرضه أية مؤسسة مالية دولية ولم يُتخذ تحت ضغط أية أزمة صرف، كما حدث في عدة بلدان كانت مجبرة على الانتقال مباشرة إلى التعويم مع تنفيذ برنامج إصلاحي مع صندوق النقد الدولي، يفرض شروطا صارمة تهم على الخصوص إصلاح وضعية المالية العمومية وتحرير الاقتصاد، وهذا وقعت فيه مصر وبعض الدول الأخرى، فالمغرب اتخذ "قرارا سياديا" نابعا من إرادة السلطات المغربية، تم الإعداد له بالتنسيق بين الحكومة، ممثلة في ووزارة الاقتصاد والمالية، وبنك المغرب، وهو ما يؤكده عدم توقيع الرباط أية اتفاقية مشروطة مع المؤسسات المالية الدولية.

وهذا الأمر معاكس لما جرى في مصر التي قررت تعويم عملتها بشكل كلي في 3 نونبر 2016، وهذا القرار كان أحد الشروط التي وضعها صندوق النقد الدولي، لحصول مصر على قرض بقيمة 12 مليار دولار، كما يؤكد الخبير المالي، وقد تم تعويم سعر الجنيه في السوق بواقع 13 جنيها للدولار مع السماح للمصارف بهامش 10 في المائة ارتفاعا أو انخفاضا بقصد إضفاء أكبر قدر ممكن من المرونة على التعاملات في الدولار رسميا على الشباك، وهو ما يعني عمليا تخفيض قيمة الجنيه بنسبة 46 في المائة.

هذه الوضعية التي تفاداها المغرب، ترتبت عنها تبعات اقتصادية وخيمة في مصر، حيث ارتفع دينها الخارجي بنحو 14 مليار دولار خلال عام، وتجاوز الدين العام الناتج المحلي الذي سجل 3,2 تريليون جنيه، لتكون نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي نحو 118 في المائة من الناتج المحلي، بالإضافة إلى ذلك فإنه خلال الـ100 يوم الأولى بعد التحرير، تراجعت القوة الشرائية للعملة المصرية بشكل ملحوظ من تحرير سعر الصرف، إذ أعلن الجهاز المركزي للإحصاء عن وصول معـدل التضخم إلى 29.6 في المائة لشهـر يناير 2017، ليكون أعلى معدل ارتفاع في الرقم العام للأسعار منذ نوفمبر 1986.

وعمل المغرب على تفادي السيناريو المصري، لذلك أخذ بنك المغرب الوقت اللازم لإنجاز الدراسات والتحاليل الضرورية والاطلاع على التجارب المرجعية وكذا تقييم تأثير الإصلاح على الاقتصاد والقدرة الشرائية للمواطنين، وذلك بالتنسيق مع الحكومة، حسب تأكيدات الناصري، الذي يرى أن اعتماد التدرج والتحرير المحكم والمضبوط، سيؤدي إلى تأقلم الاقتصاد المغربي مع السوق المالي الدولي وتحقيق الاندماج، وهي مرحلة أولية يعمل خلالها البنك المركزي على تحرير تدريجي لسعر صرف الدرهم ويضع حدودا عُليا ودُنيا لذلك، ويتدخل في حال تجاوزها، على أن سيصبح صرف الدرهم فيما بعد خاضعا لقانون العرض والطلب في سوق العملات، إلى جانب تنفيذ سياسة "استهداف مستوى محدد للتضخم"، بهدف ضبط الأسعار التي ستتأثر بالتعويم التدريجي للعملة.

وساعدت كل هذه العوامل المغرب على النجاح في إصلاح نظام الصرف والتحرير التدريجي لسعر صرف الدرهم، وبناء على ذلك قامت وزارة المالية والاقتصاد، بعد التشاور مع البنك المركزي، وفي 7 مارس من سنة 2020، بتوسيع نطاق تقلب سعر صرف الدرهم من 2،5 إلى 5 بالمائة، بالنسبة إلى سعر الصرف المركزي، ما يعني دخول عملية "التليين" مرحلة جديدة بعد تجاوزها للمرحلة الأولى بنجاح.

الجواهري.. العقل المدبر

ويُعزى النجاح الملحوظ حتى الآن لعملية تحرير صرف الدرهم إلى مؤسسة "بنك المغرب"، التي يوجد على رأسها والي البنك عبد اللطيف الجواهري، الذي حصل سنة 2020 على أعلى تنقيط لمحافظي البنوك المركزية من طرف مجلة "غلوبال فايننس" للسنة الرابعة على التوالي، بعدما كان قد اختير سنة 2019 كأفضل محافظ لبنك مركزي في إفريقيا من طرف مجلة "ذا بانكر" البريطانية.

ويبدو أن الجواهري الذي يوجد على رأس بنك المغرب منذ 2003، كان يمهد منذ وقت طويل لمرحلة تحرير صرف الدرهم، وهو ما يمكن أن يستنتج من كلام الناصري، القريب من موقع صناعة القرار المالي بحكم كونه نائبا برلمانيا وعضوا في لجنة المالية، والذي يرى أن البنك المركزي المغربي ساهم بـ"دور مفصلي" في نجاح التحرير التدريجي لسعر صرف الدرهم، بداية بقيامه بأدوار وإصلاحات مهمة لسياسة الصرف في المغرب، إذ في 2007 عمد إلى تليين قانون الصرف فيما يخص  تغطية مخاطر الصرف وشروط التوظيفات في الخارج وكذا الاستثمارات الخارجية مع تحديد سقف لها، وقروض التصدير، وشروط التسديد المسبق للواردات، كما اتخذ إجراءات استباقية سنة 2010 في إطار تحرير قانون الصرف، حيث قام برفع السقف المسموح به برسم الاستثمارات المغربية في الخارج، وتليين شروط تشغيل الحسابات المفتوحة باسم المصدرين بالعملات الأجنبية وبالدرهم القابل للتحويل، وقام برفع مبلغ المخصص السياحي.

ويوضح الناصري أن بنك المغرب استفاد من التجارب المرجعية في مجال إصلاح نظام الصرف وقام بإنجاز الدراسات والتحاليل الضرورية قبل البدء في المرحلة الاولى من التحرير التي تمت في أوائل 2018، واشتغل على إعداد سيناريوهات تقييمية لتأثير الإصلاح على الاقتصاد والقدرة الشرائية للمواطن، مما ساعد في اتخاذ القرار المناسب ونطاق التقلب المناسب.

ومن الناحية التطبيقية، ووفق الخبير المالي نفسه، قام بنك المغرب بتتبع دقيق ومستمر عن كثب لتنفيذ هذا الإصلاح، لا سيما مع البنوك، وقد أصدر رسائل مناشير تلزم البنوك بموافاة المؤسسة يوميا بجميع المعلومات المتعلقة بعملياتها بالعملات الأجنبية، خصوصا تلك التي تتم لحساب المقاولات الصغيرة جدا والصغيرة والمتوسطة والأفراد من الزبناء.

الدرهم المغربي

وقامت المؤسسة التي يرأسها الجواهري بالتواصل مع كافة الفاعلين قبيل التحرير مع البرلمانيين والبنوك التجارية، وهيئة مراقبة التأمينات والاحتياط الاجتماعي، والهيئة المغربية لسوق الرساميل، والمؤسسات والمقاولات العمومية التي تتوفر على مديونية خارجية مهمة، ويتعلق الأمر بالمكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب، وشركة الطرق السيارة للمغرب، والوكالة المغربية للطاقة المستدامة والمكتب الشريف للفوسفاط وشركة الخطوط الملكية المغربية، بالإضافة إلى تواصلها مع الاتحاد العام لمقاولات المغرب والفدراليات القطاعية، وشركات البورصة وشركات التدبير والاستثمار في رؤوس الأموال.

وشمل تمهيد بنك المغرب لمرحلة تحرير سعر صرف الدرهم التواصل مع المغاربة المقيمون بالخارج، الذين يشكلون مصدرا أساسيا للعملة الصعبة، بالإضافة إلى تنظيم ثلاث ورشات لفائدة الإعلاميين في الصحافة الصادرة باللغة العربية والفرنسية، وتنظيم مؤتمر حول إصلاح نظام الصرف لفائدة الوسط الأكاديمي، بمدينة مراكش بتعاون مع جامعتي القاضي عياض وبازل السويسرية وبمشاركة جامعات الرباط والقنيطرة والدار البيضاء وجامعة الأخوين بإفران وخبراء من صندوق النقد الدولي وبعض البنوك المركزية، إلى جانب إطلاق عملية تواصلية مع عموم المواطنين عن طريق إعداد ونشر شريطَي فيديو بالعربية والأمازيغية والفرنسية والإنجليزية حول نظام الصرف عبر المنصات الرقمية لبنك المغرب.

كل هذا المجهود أتى أكله خلال 3 سنوات مرت من عمر العملية، وهي الخلاصة التي يؤكدها الناصري للصحيفة موردا "هذا الإجماع والتوافق المغربي - المغربي حول ضرورة إنجاح الإصلاح هو الذي ساهم في تدعيم صلابة سعر صرف الدرهم وتقوية قدرته على أن يصبح فيما بعد خاضعا لقانون العرض والطلب في سوق العملات".

تعليقات
جاري تحميل التعليقات

هل الدولة الجزائرية عبارة عن "هجرة غير شرعية في التاريخ"؟

في حوار أجريناه في "الصحيفة" شهر غشت من سنة 2021 مع نور الدين بوكروح الذي يعتبر من السياسيين والمثقفين القلائل في الجزائر الذين ينتقدون "نظام الحكم" في البلاد المبني على ...