عبد الحكيم العياط
الثلاثاء 11 نونبر 2025 - 1:36

تفكيك مركزية الأجور في قطاع الصحة.. عندما يتحول موظفو الدولة إلى "معدات"

منذ نهاية جائحة كورونا، يعيش قطاع الصحة في بلادنا على وقع تحولات قانونية عميقة، تجسدت في حزمة من النصوص التشريعية المؤطرة بالقانون الإطار 22-06 المتعلق بالمنظومة الصحية الجديدة، التي تراهن عليها الدولة لإحداث تغيير جذري في واقع القطاع الصحي بالمغرب.

وتأتي هاته القوانين لإعادة هيكلة البنية الإدارية والتنظيمية وفق تصور حديث، غير أن هذه المستجدات القانونية أفرزت في المقابل حالة من الاحتقان الاجتماعي ترجمتها سلسلة من الإضرابات خلال سنة 2024، وانتهت بتوقيع اتفاق يضمن – حسب موقعيه – الوضع الوظيفي ومركزية الأجور. لكن مناقشات مشروع قانون المالية لسنة 2026 حملت مفاجأة صادمة أعادت الجدل من جديد حول مستقبل الإصلاح الصحي بالمغرب.

يعيش موظفو وزارة الصحة والحماية الاجتماعية  مرحلة غير مسبوقة من الغموض والارتباك الإداري، بعد أن كشفت مناقشات مشروع قانون المالية عن توجه مثير للجدل يقضي بإدراج الأجور الخاصة بمهنيي الصحة ضمن بنود المعدات والنفقات المختلفة، وذلك في سياق تنزيل المجموعات الصحية الترابية بجهة طنجة تطوان الحسيمة كنموذج أولي. هذه الخطوة التي قد تبدو تقنية في ظاهرها، تخفي في عمقها تحولا جذريا في فلسفة الدولة تجاه موظفي القطاع الصحي وتجعل مستقبلهم المهني معلقا بين منطق الوظيفة العمومية ومقتضيات التسيير المؤسساتي المستقل.

فالتحول الجاري اليوم لا يقتصر فقط على إعادة توزيع الكفاءات والمهام، بل يمتد إلى البنية المالية والإدارية التي كانت تمنح للموظف استقراره المهني وضماناته القانونية. إدراج كتلة الأجور في فصل غير معتاد على مستوى القانون المالي، أثار تساؤلات مشروعة حول مدى التزام الدولة بالحفاظ على الصفة الوظيفية للأطر الصحية، خصوصا وأن الأمر ترافق مع نقل المناصب المالية إلى المجموعات الصحية الترابية التي هي مؤسسات عمومية تتمتع باستقلال إداري ومالي عن الوزارة الوصية حسب ماجاء به القانون 08-22. وهو ماجعل البعض يعتبر هذا التوجه خطوة تمهيدية لفصل الأطر الصحية عن الوظيفة العمومية وتحويلهم إلى مستخدمين تابعين لمؤسسات عمومية جديدة تخضع لقواعد أكثر مرونة وأقل استقرارا.

في المقابل، سارعت الوزارة إلى طمأنة مهنييها  عبر مراسلة للسيد وزير الصحة الى النقابات القطاعية بتأكيده أن هذا التصنيف المالي لا يمس في شيء الوضعية القانونية للموظفين ولا يغيّر التزامات الدولة تجاههم، وأنه مجرد إجراء تقني في انتظار استكمال الإطار التنظيمي للمجموعات الصحية الترابية.

غير أن هذا التوضيح لم يُنهِ الجدل، لأن التجارب السابقة أظهرت أن التحولات المالية غالبا ما تكون مقدمة لتغييرات هيكلية في أنظمة التوظيف والتدبير.

من زاوية أخرى ، يبدو أن الدولة تسير بخطى محسوبة نحو إعادة تعريف علاقتها بموظفيها داخل القطاعات الاجتماعية الكبرى. فبعد أن كانت الدولة هي المشغّل المباشر عبر نظام الوظيفة العمومية، تتجه اليوم نحو نموذج يقوم على التسيير اللامركزي والهيئات الوسيطة التي تدير الموارد البشرية والمالية بشكل مستقل. غير أن هذا الانتقال، في غياب نقاش عمومي ومقاربة تشاركية، قد يؤدي إلى زعزعة الثقة داخل القطاع الصحي وإلى شعور عام بانعدام الأمن الوظيفي لدى فئات واسعة من المهنيين الذين ساهموا لعقود في صون المرفق العمومي الصحي.

فالوضع داخل قطاع الصحة لم يكن مستقرا حتى قبل هذه التحولات الأخيرة، إذ يعيش العاملون فيه منذ سنوات على وقع ضغط متواصل ناجم عن الخصاص المهول في الموارد البشرية، وتدهور ظروف العمل داخل المستشفيات والمراكز الصحية، وضعف التحفيزات المادية والمعنوية.

فالمهنيون، من أطباء وممرضين وتقنيين وإداريين، يشتغلون في بيئة تفتقر لأبسط مقومات الكرامة المهنية، بين نقص المعدات والأدوية، وغياب الأمن داخل بعض المرافق، وتفاوت الخدمات بين الجهات. هذه الوضعية الكارثية جعلت الكثير من الكفاءات تغادر نحو الخارج والقطاع الخاص، فيما يعيش الباقون في الميدان تحت وطأة الإحباط وانسداد الأفق، رغم الخطابات المتكررة حول “إصلاح المنظومة الصحية”.

ولعلّ احتجاجات جيل "زد" التي خرجت في أكثر من مناسبة مؤخرا حول وضع الصحة بالمغرب ، لم تكن سوى التعبير الأكثر وضوحا عن هذا الإحساس الجماعي بالاختناق  من أوضاع قطاع الصحة العمومي الذي يُفترض أن يكون ركيزة الدولة الاجتماعية. هذا الجيل، الذي نشأ في عصر الوعي الرقمي والمطالبة بالشفافية والعدالة، يرى في السياسات الصحية الراهنة نموذج للفشل المؤسسي الذي لا يعالج جذور الأزمة، بل يعيد إنتاجها في صيغ جديدة.

فحين يرى الشاب المغربي أن الطبيب أو الممرض الذي يعالجه يعمل في ظروف لا إنسانية وبأجر لا يوازي مجهوداته، فإنه يدرك أن الخلل بنيوي وأن الحل لا يمكن أن يكون تجميلي ، بل يحتاج إلى ثورة حقيقية في مفهوم تدبير القطاع الصحي وأدوار الدولة الاجتماعية.

إن ما يعيشه موظفو وزارة الصحة والحماية الاجتماعية اليوم ليس مجرد إشكال تقني في التصنيف الميزانياتي، بل هو عنوان لمرحلة رمادية تتقاطع فيها الاعتبارات المالية مع رهانات إعادة هيكلة الدولة الاجتماعية. فبين الخطاب الرسمي الذي يعد بإصلاح شامل للمنظومة الصحية، والواقع الذي يشهد انتقالا مضطربا في الوضعيات القانونية والمادية للموظفين، يظل السؤال الجوهري معلقا: هل نحن أمام تحديث إداري حقيقي يهدف إلى تحسين حكامة القطاع، أم أمام خطوة تمهيدية لتحويل موظفي الدولة إلى مستخدمين في مؤسسات عمومية قابلة للخصوصة؟

الجواب عن هذا السؤال سيحدد ليس فقط مستقبل آلاف الأطر الصحية، بل طبيعة علاقة الدولة بمفهوم الوظيفة العمومية ذاته، في مرحلة دقيقة يُعاد فيها رسم حدود الخدمة العمومية بين منطق الكفاءة الاقتصادية ومتطلبات العدالة الاجتماعية.

الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة

ما يجب قوله للإسبان في مدريد؟

في الوقت الذي تعقد فيه الحكومة الإسبانية ونظيرتها المغربية، اليوم الخميس، بمدريد الدورة الثالثة عشرة من الاجتماع الرفيع المستوى، مع ما يعكس ذلك من تطور كبير في العلاقات الثنائية بين ...

استطلاع رأي

مع قُرب انطلاق نهائيات كأس إفريقيا للأمم "المغرب2025".. من تتوقع أن يفوز باللقب من منتخبات شمال إفريقيا؟

Loading...