حين يهمس الريف والبحر في "راس الما".. فسيفساء طبيعية تمتد أمام الزائرين محفوفة بطيبة وكرم أهل "كبدانة"
في أقصى الشمال الشرقي للمغرب، حيث ينحني الجبل ليصافح البحر، تنتصب "راس الما"، أو كما يسميها أهلها "قابوياوا"، على ضفاف المتوسط، في نقطة التقاء بين العزلة والجمال، بين الجغرافيا والذاكرة، هنا، يبدو كل شيء كما لو أنه يتحدث بلسان البحر، في هدأة الموج وصفاء السماء.
تقع رأس الماء، المعروفة، في الجهة الشرقية للمغرب، بتراب إقليم الناظور، بتعداد سكاني يبلغ 7580 نسمة حسب إحصاء سنة 2024، على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، حيث تمتد كحِلية زرقاء تتوسد حضن الجبال وتستقبل نسيم البحر منذ قرون.

موقعها الاستراتيجي يجعلها حلقة وصل طبيعية بين المحطة السياحية السعيدية شرقا ومصب نهر ملوية غربا، المصنف ضمن اتفاقية "رامسار" للمناطق الرطبة ذات الأهمية الإيكولوجية العالمية، هنا، في هذه الرقعة الهادئة من الريف الشرقي، يتعانق البحر بالجبل، وتلتقي الطبيعة بالذاكرة في لوحة تتكرر كل يوم دون أن تفقد سحرها.
أصل التسمية والتاريخ
الاسم وحده يحكي حكاية المكان، "رأس الماء" ليست مجرد تسمية جغرافية تُشير إلى رأسٍ صخريٍّ يُطل على البحر، بل شهادة على أن الماء جوهر حياةٍ تَشَكَّل حوله الوجود البشري منذ قرون، أما الاسم الآخر لرأس الماء "رأس كبدانة" فهي امتداد لاسم القبيلة الأمازيغية العريقة التي احتضنت هذه الرقعة الساحلية، وورثت من الريف صلابة الأرض ودفء الانتماء.
من الناحية التاريخية، ارتبطت رأس الماء بقبيلة كبدانة، التي شكلت جسرا بين الداخل الريفي والساحل المتوسطي، وكانت جزءا من طرق التجارة القديمة بين الناظور والسعيدية، وقد شهدت المنطقة أحداثا تاريخية بارزة، بما فيها الاحتلال الإسباني لبعض الجزر القريبة (الجزر الجعفرية) سنة 1848، لتظل المنطقة شاهدة على ذاكرة حضارية تمتد لأكثر من 6500 سنة، كما كشفت الحفريات الأركيولوجية التي اكتشفها الباحثون عام 2012، والتي أكدت استمرار الحياة البشرية على هذه الجزر منذ آلاف السنين.
قبيلة كبدانة، التي تنتمي إليها منطقة رأس الماء، قبيلة ريفية زناتية الأصل، تُعتبر بوابة قبائل الريف من الطرف الشرقي، يحدها شرقا.وادي ملوية، ومن ورائه قبائل آيت إزناسن، وشمالا البحر الأبيض المتوسط، وجنوبا قبيلة أولاد ستوت، وغرباً قبيلة قلعية.

وقد ورد ذكرها في مصادر تاريخية قديمة، من بينها ما أورده حسن بن محمد الوزان (ليون الإفريقي) حين وصف جبل كبدانة بأنه يمتد من غساسة قرب مليلية إلى نهر ملوية شرقا، ومن المتوسط إلى صحراء كرت جنوبا، كما أشار إليها عبد العزيز بن عبد الله وشارل أندري جوليان وموليراس في مؤلفاتهم باعتبارها منطقة ذات موقع استراتيجي يربط بين البحر والداخل الريفي، وهو ما جعلها عبر التاريخ مجالا للتبادل التجاري والعبور الثقافي.
الطريق إلى رأس الماء.. درب بين الغابة والموج
الوصول إلى رأس الماء تجربة بصرية خالصة، من مدينة الناظور، يكفي أن تسلك الطريق الساحلية رقم 16 في اتجاه الشرق لتقطع مسافة قصيرة تبلغ 61 كيلومترا في مدة زمنية تستغرق ساعة أو أكثر بقليل، بواسطة سيارتك الخاصة أو وسيلة نقل أخرى خاصة سيارات الأجرة من الحجم الكبير، وسط مناظر طبيعية تتناوب فيها الغابات والمرتفعات والمياه اللامتناهية.
الطريق متعرجة على امتداد الساحل، تتيح مشاهد بانورامية للبحر تُغريك بالتوقف أكثر من مرة عبر مداشر وقرى أهما "قرية أركمان" التي تحمل بدورها أسرار جمال خاصة، أما القادم من السعيدية غربا، فالمسافة لا تتجاوز 21 كيلومترا، أي 25 دقيقة بالسيارة، عبر نفس الطريق التي تُعد من أجمل طرق المغرب الساحلية.
وسائل النقل العمومي متوفرة على مدار اليوم، خصوصا في فصل الصيف، من خلال سيارات الأجرة الكبيرة والحافلات الإقليمية التي تنطلق من الناظور، زايو، وبركان، ويقع أقرب مطار، العروي الدولي، على بعد 75 كيلومترا فقط عبر الطريق الوطنية رقم 15 المتصلة بالطريق الوطنية رقم 16، ما يجعل الوصول إلى البلدة سهلا حتى للزوار القادمين من مدن بعيدة أو من الخارج.
الأرض التي جمعت الجبل والبحر
يكفي أن ترفع عينيك قليلا في رأس الماء حتى تدرك أن هذه الأرض خُلقت لتُصالح بين التضاد، الجبل والبحر، فحين تنحسر زرقة المتوسط عن الشاطئ، يبدأ مجال قبيلة كبدانة في البروز على هيئة تلالٍ خضراء ونتوءات صخرية تنحدر نحو البحر ببطء، كما لو أن الجبل يمد يده للماء في ميثاقٍ قديمٍ لا يُكسر.

الطابع الجبلي يغلب على المكان، لكنه ليس قاسيا ولا جافا، بل متدرج الملامح، يشبه صفحة وجهٍ نحتها الزمن بحنوٍّ وصبر، وعلى مقربة من الطريق الوطنية رقم 16، التي تربط بين أركمان ورأس الماء، تلوح قمة جبلية شامخة يعرفها السكان باسم "ثمزوخت"، أو كما يلقبونها أحيانا "سبعة رجال".
تلك القمة ليست مجرد ارتفاع جغرافي يبلغ 923 مترا عن سطح البحر، بل هي مرصد طبيعي يطل على فسيفساء مذهلة من المناظر، من هناك يمكنك أن ترى البحر الأبيض المتوسط يلمع كمرآةٍ تمتد بلا حدود، وفي الأفق تتهادى قرية أركمان، ومدينة الناظور، وبحيرة مارتشيكا التي تشبه لؤلؤة زرقاء تتوسط الرمل والضوء.
الوصول إلى قمة "ثمزوخت" مغامرةٌ تستحق العناء، خصوصا لهواة المشي الجبلي وتسلق المرتفعات، الطريق إليها يمر عبر ممراتٍ ضيقة تلتف حول السفوح، وتتشابك فيها أغصان الصنوبر والعرعار، بينما يتعالى من بعيد صوت البحر، كأنّه دليل الطريق لا يتركك تتيه.. كل خطوة نحو الأعلى تمنحك مشهدا جديدا.
وفي القمة، حين تصلك أنفاسك الأخيرة من التعب، يفتح المشهد ذراعيه لك على اتساعه، البحر من أمامك، السهول الممتدة من خلفك، ورائحة الغابات من حولك، عندها فقط تدرك أن رأس الماء ليست شاطئا فحسب، بل أرضٌ جمعت الجبل والبحر في حضنٍ واحد.
من "قابوياوا" إلى صخرة المغامرين
حين تصل إلى رأس الماء، سيقودك الطريق، دون أن تشعر، نحو البحر، لا تحتاج إلى خريطة هنا، فكل الأزقة الصغيرة تتجه تلقائيا صوب زرقة بعيدة تلمع في الأفق، وكل بيت يكاد أن يهمس للموج من شرفته، البحر في هذه المنطقة ليس مجرد نهاية للطريق، بل بدايته، هو القلب الذي يخفق على إيقاع الريح.

يمتد شاطئ رأس الماء، أو كما يسميه السكان المحليون "قابوياوا"، على مساحة من الرمال الذهبية الناعمة التي يلامسها نسيم البحر كل صباح، فيغسلها كما تُغسل الذاكرة من غبار الأيام، في ساعات الفجر الأولى، يبدأ المشهد، صيادون يتهيأون لرحلة البحر، يسحبون قواربهم الصغيرة نحو الميناء، تتعالى أصوات الحبال والمجاديف، وتلوح من بعيد قوارب أخرى عائدة، محملة بما تجود به الأعماق من سردين ومرلان وصل، فيما النساء يتجولن بين الأرصفة والسوق المحلي، يحملن سلالاً تفوح منها رائحة البحر الطازجة، وكأنهن يبعن جزءاً من ذاكرته.
إذا تابعت السير بمحاذاة الساحل، ستصل إلى أكثر النقاط شهرة في رأس الماء، منحدر "ليروشي"، وهو موقع طبيعي فريد يشبه شرفة معلقة بين البحر والسماء، من هناك، يقف الشباب في صفٍّ طويل ينتظرون دورهم، ثم يقفزون في المياه من علوٍّ شاهق، بأجسادٍ تتقاطع في الهواء مثل سهامٍ من الضوء، قبل أن تختفي في عمق الماء في لحظةٍ خاطفة، المكان يتحول في الصيف إلى مسرح مفتوحٍ للحياة، تعلو منه الصيحات والضحكات، وتمتزج أصوات المغامرين بأهازيج المتفرجين الذين يملأون الصخور والممرات الجبلية المطلة على البحر.
وإذا كنت من محبي المشي والتأمل، اتبع الطريق الصغير الممتد شمال الشاطئ، حيث تبهرك التكوينات الصخرية المتناثرة على الساحل كأنها أطلال قلعةٍ بحرية قديمة، ثم انعطف قليلا شرقا نحو الميناء الصغير، ستجد النوارس تحوم حول القوارب، والموج يرسم دوائره الأبدية حول الصخور، هنا، تتجلى رأس الماء في أجمل صورها، مكان يلتقي فيه البحر بالإنسان.
أما عند الغروب، فاستعد لمشهد يصعب تكراره في مكان آخر، الأفق يشتعل بألوان من ذهب ونار، والنوارس تحلّق ببطءٍ فوق الميناء، وصوت الموج يمتزج بضحكات المارة وبصوت المآذن البعيدة التي تدعو إلى صلاة المغرب، في هذه اللحظات، يتحول الشاطئ إلى ذاكرة مفتوحة على الأفق، كل شيء فيه يعيدك إلى شيءٍ أقدم منك، أصفى وأجمل، وكأنك تعيش لحظةً خارج الزمن.
وإذا كنت من هواة الصيد، فلا تغادر قبل أن تجرّب حظك عند الصخور الممتدة قرب "ليروشي"، حيث يجتمع الصيادون في المساء، يصطفّون بصمتٍ على أطراف البحر، يرمون صناراتهم في الماء وينتظرون، كأنهم يؤدون طقساً من طقوس الصبر والهدوء، لا يهمهم ما سيصطادونه، بقدر ما تهمهم تلك اللحظة التي يتوحد فيها الإنسان بالبحر.
المنارة والميناء.. معالم رأس الماء البحرية
كل الطرق في رأس الماء تقودك إلى هناك، إلى النقطة التي يتكئ عندها البحر على صخر الجرف، حيث تنتصب منارة البلدة كعين ساهرة على المدى، على بعد ستين كيلومترا شمال شرق الناظور، تبدو المنارة البيضاء من بعيد كأنها علامة طريقٍ للمسافرين عبر البحر، أو صلاة صامتة ترتفع فوق الأمواج منذ العام 1945، حين شيّدها الإسبان لتكون دليلا للسفن المارة بين رأس الماء والجزر الجعفرية.

ومن هناك، يقودك الممر الصغير نحو الميناء، حيث تتنفس البلدة حياتها اليومية، في الصباح الباكر، تقترب القوارب من الرصيف محمّلة بخيرات المتوسط، وسرعان ما يعمّ المكان صخب المزاد ونداءات البحارة، رائحة الملح تختلط بعبق الديزل وصوت الحبال وهي تجر القوارب، في مشهد يعيد الزائر إلى زمن القرية الأولى، حين كان البحر مرآة الحياة ومصدر الرزق والحنين.
الميناء، رغم صغره، يختزن نبض البلدة كلها، منه تنطلق الأسماك نحو أسواق الناظور وبركان ووجدة، ومنه تُغذّى مطاعم المدن الكبرى بخيرات رأس الماء الطازجة، هنا، بين المنارة التي تسهر على السفن، والميناء الذي يحتضن العائدين، تكتمل صورة البلدة البحرية.
المذاق الذي يختصر البحر
حين تطأ قدماك شاطئ رأس الماء، لا بد أول ما يلفت انتباهك هو رائحة البحر التي تمتزج بعطر الطهي المحلي، فهنا يبدأ المشوار مع النكهات كما يبدأ مع الأفق، اتجه على طول الكورنيش، وستصادف سلسلة من المطاعم الصغيرة والمتوسطة وأيضا الفاخرة، كل واحدة منها نافذة على البحر، حيث يجلس الزائر على الشرفة ليشم نسيم المتوسط ويشاهد الأمواج وهي تتراقص على الرمال، وقد يرافق وجبته ألحان من الموسيقى الريفية الأصيلة، مثل "كعكع أ زُبيدة" و"الريف ثمارثينو"، فتشعر وكأن المكان يغني لك أيضا.
يمكنك اختيار سمكتك بنفسك، مباشرة من القوارب التي عادت قبل قليل من رحلة الصيد في الصباح الباكر، ستجد أن الطاهي يشويها أمام عينيك على الفحم، بينما يمتزج صوت البحر مع رائحة السمك الطازج المقرمش، على الطاولة، تنتظرك أطباق متنوعة، من السردين الطري، الميرلا اللذيذ، القمرون المشوي، والكالامار المطهو على الفحم أو في طاجين بزيت الزيتون والليمون، كل طبق يحمل نكهة البحر وروح الرأس الماء، يُقدَّم معها سلطة الطماطم والبصل الطازجة وخبز ساخن يخرج تواً من فرن قريب، فتتحول كل لقمة إلى رحلة قصيرة بين رمال الشاطئ وأعماق البحر.
ولا تنس أن تتوقف للحظة مع كوب من الشاي المغربي بالنعناع، جالسا على إحدى الشرفات المطلة على البحر، حيث بخار الشاي يتشابك مع رطوبة النسيم، ولحن البحر يهمس في أذنك، لحظة صغيرة لكنها كافية لتشعر بصدق الحياة في رأس الماء.
حين يغلق البحر أبوابه خلفك.. يبقى الصدى
ورغم طابعها القروي الهادئ، تعرف رأس الماء توسعاً عمرانيا متدرجا بفضل الإقبال السياحي المتزايد. تنتشر فيها دور الضيافة والمنازل المعدة للكراء بأسعار تناسب مختلف الفئات، تتراوح بين 300 و800 درهم لليلة حسب الموسم والموقع، إلى جانب بعض الفنادق الصغيرة التي توفر خدمات مقبولة وموقعا مثاليا قرب البحر، كما يختار بعض الزوار التخييم في المناطق الطبيعية المجاورة، أو الإقامة لدى العائلات المحلية التي تستقبل الضيوف بروح ريفية أصيلة.

وحين تترك رأس الماء، يبدو وكأنك تغادر العالم المألوف، لكن المكان لا يغادر ذهنك، أفق البحر الذي يلتف حول الميناء كذراعين حاضنتين، ورائحة الملح التي تختلط بهواء الريف، وأصوات الصيادين عند الفجر، وضحكات الأطفال التي تتراقص على الرمال، كلها تلاحقك في كل خطوة بعد الرحيل.
خصوصية المنطقة الريفية تضيف طبقة من السحر لا تُنسى، المسالك الترابية التي تقودك بين حقول الزرع، والبيوت التقليدية التي تتشابك مع الطبيعة، وأعشاب الريف التي تفوح برائحة الأصالة، كل ذلك يجعل الزائر يشعر وكأنه أخذ قطعة من روح المكان معه.. رأس الماء ليست مجرد شاطئ أو ميناء، بل تجربة تُحفر في الذاكرة.




