سفير تونس في خمس دول إفريقية للصحيفة: قارتنا أرضٌ "للفرص الضائعة".. والمغرب وتونس يتنافسان "بشرف" على السوق الإفريقية

 سفير تونس في خمس دول إفريقية للصحيفة: قارتنا أرضٌ "للفرص الضائعة".. والمغرب وتونس يتنافسان "بشرف" على السوق الإفريقية
حاورته - أمال العسري
الأربعاء 13 يناير 2021 - 19:08

في حور خاص مع موقع "الصحيفة"، أكد السفير التونسي في خمس دول إفريقية، عادل بوزكري الرميلي، أن إفريقيا مازالت تعاني من مشاكل بنوية عديدة يجب التغلب عليها لتتطور، وتكون بيئة حاضنة للأجيال المقبلة.

وأشار السفير إلى أن انعدام الاستقرار الأمني وتعرّض الدّول الإفريقية المتواصل للتهديدات ومشكل الحوكمة وإنفاذ القانون وتفشّي الرّشوة، من أهمّ التحدّيات بالقارة السّمراء، مشيرا في نفس الحوار إلى العوائق التي "عطلت" تونس في ربح الفرص "الضائعة" في إفريقيا، من بينها "ضعف" الربط الجوي، وتعقيدات منح التأشيرة في العديد من الدول الإفريقية.

كما تحدث عادل بوزكري الرميلي إلى التنافس "الشريف" بين المملكة المغربية وتونس على الفرص التي تتيحها القارة للمتستثمرين، ففي حين ركّز التونسيّون على البترول والغاز والمقاولات الكبرى والبنية التحتيّة وهي مشاريع عملاقة، ركّز إخوانهم المغاربة على قطاعي البنوك والاتصالات وهي كذلك استثمارات هامة، يضيف سفير تونس في هذا الحوار مع "الصحيفة".

  • بما أنكم سفيرا لتونس في خمس دول إفريقية، وهي الكونغو الديمقراطية (كينشاسا)، وجمهوريّة الكونغو (برازافيل)، وأنغولا، وإفريقيا الوسطى، وزامبيا، ومع كل التحوّلات التي تشهدها القارة خلال السنوات الماضية.. هل تشعرون بأنّ إفريقيا "المتعبة" قادرة على أن تجعل جيلها الصّاعد يعيش أفضل من الأجيال التي أُنهِكت من الحروب والفقر والأميّة والنزاعات القبليّة؟

رغم كلّ ما تفضّلت بذكره من مشاكل تعاني منها بلدان القارة الإفريقيّة، ليس لنا إلاّ أن نكون متفائلين. وقد حققت إفريقيا على امتداد العقدين الماضيين تقدّما كبيرا بفضل الجهود التي ما فتئ يبذلها جيل جديد من السّياسيين ورجال الأعمال الأفارقة.

إنّ قصص النجاح في إفريقيا تثبت أنّه بوسع بلدان القارة المختلفة أن تنمو إذا أحسنت استغلال الفرص التي تتيحها الدّول والمؤسّسات الماليّة المانحة، وإذا عرفت كيف تجلب الاستثمارات الأجنبيّة، وكيف تحفّز الاستثمار الدّاخلي.

ولنا في بلدان مثل أثيوبيا وكينيا خير دليل على قصص النجاح التي نحن بصدد الحديث عنها. فمن دولتين كانتا تعانيان من المجاعة والأوبئة أصبحنا نتكلّم اليوم عن مثال للتطوّر الصّناعي والرّقمي.

أمّا في ما يتعلّق بالحروب والنزاعات القبليّة، يمكن القول إنّه رغم الجهود المبذولة من قبل الأمم المتحدة، وخاصّة من الاتحاد الإفريقي وبقيّة المنظمات الإقليميّة، لا يزال الطريق طويلا وشائكا لاحتواء هذه الصّراعات وحلّها، وذلك لعدّة اعتبارات سياسيّة واقتصاديّة، منها ما هو داخلي ومنها ماهو خارجي ناتج عن التدخّلات الأجنبيّة المتعدّدة والمتنوّعة والتي يطول الحديث عنها.

  • الكثير من الاقتصاديين يعتبرون بأن إفريقيا أرض الفرص "الضائعة". بصفتكم سفيرا لتونس في خمس دول إفريقية، ما هي الجهود التي عملتم عليها كي لا تضيعوا هذه الفرص على تونس؟

بالفعل، يمكن القول إنّ إفريقيا هي أرض الفرص "الضائعة" لكن إلى حدّ ما. وفي هذا الصّدد، يشار إلى أنّ إفريقيا تتمتع بمساحة إجمالية تبلغ 30.190 مليون كم2 وتمتلك أكبر مخزون للعديد من الثروات والمعادن الاستراتيجية. ومن بين 50 معدنًا هامًّا في العالم يوجد 17 معدناً منها في إفريقيا باحتياطيات ضخمة، ومعظمها موجود بالدّول التي تغطيها السّفارة. وهي تمتلك النسبة الأكبر من احتياطي عدة معادن على غرار البوكسيت والكوبالت والألماس والذهب (أساسا بالكونغو الدّيمقراطيّة وبإفريقيا الوسطى) والمنغنيز والفسفاط والمعادن البلاتينية.

وبالإضافة إلى ذلك تملك إفريقيا احتياطيّا هائلا من النفط  يقدّر بحوالي 9 % من إجمالي الاحتياطي العالمي (بين 80 إلى 100 مليار برميل خام) وإمكانيات هائلة في مجال الفلاحة، تؤهّلها لأن تكون سلّة الغذاء العالمي بفضل ما تتمتع به من  موارد مائية وتنوّع في الأقاليم المناخية.

لكن في المقابل نجد شبه عزوف من قبل الفاعلين الاقتصاديين العرب بما في ذلك التونسيين، وباستثناء اللّبنانيين، عن الاستثمار بالبلدان الإفريقيّة. وتعود أسباب هذا العزوف، وبالتالي إضاعة الفرص إلى عوامل تاريخيّة وثقافيّة أساسا، تضاعفت بعوائق أخرى لوجستيّة سآتي على ذكرها لاحقا.

أمّا في ما يتعلّق بالجهود التي بذلتها السّفارة، وبحكم خبرتي بالعلاقات التونسيّة الإفريقية التي بدأت منذ سنة 2003 من خلال عملي بسفارتنا بالسّودان وتقلّدي مناصب متنوّعة بالوزارة كان آخرها وقبل التحاقي بكينشاسا خطّة مدير العلاقات الثنائيّة التونسيّة الإفريقيّة، تمّ التركيز بالأساس على الجوانب التي تملك فيها تونس ميزة تفاضليّة (un avantage comparatif) وهي التعليم والتكوين المهني الخاص، والتجارة في جميع المجالات، والعلاج، ودفع الاستثمارات التونسيّة ببلدان الاعتماد والشراكات.

وقد تمّ في زمن وجيز للغاية تنظيم الدّورة الأولى لصالون الجامعات ومراكز التكوين المهني التونسيّة الخاصّة بكينشاسا (جويلية 2019) والذي على إثره ارتفع عدد الطلبة الكونغوليين بتونس بما يفوق 2500 طالب جديد، وتمّ تنظيم دورتين متتاليتين للمنتدى الاقتصادي التونسي الكونغولي ببرازافيل وكينشاسا خلال شهري نوفمبر 2019 وفيفري 2020.

وقد أثمرت هاتين الدّورتين، اللتين تمّ تنظيمهما بالتعاون مع مركز النهوض بالصّادرات وغرفة التجارة والصّناعة لتونس، عدّة عقود تصدير هامة. وبسبب الجائحة الدّوليّة تمّ تأجيل الدّورة الثانية للتعليم والتكوين إلى منتصف شهر أفريل 2021 والدّورة الثالثة للمنتدى الاقتصادي إلى أواخر شهر مارس 2021 والدّورة الأولى لصالون الخدمات الطبّيّة والصّيدليّة بكينشاسا وبرازافيل إلى شهر أكتوبر من هذه السّنة.

كما سنسعى إلى تنظيم الدّورة الأولى للمنتدى الاقتصادي التونسي الأنغولي بلواندا من خلال بعثة اقتصاديّة متعدّدة الاختصاصات أواخر شهر نوفمبر 2021.

وللإشارة سجّلنا ارتفاعا ملحوظا في عدد طالبي العلاج الأفارقة بتونس وذلك بفضل جهود القطاع الخاص التونسي وما تقوم به السّفارة من تحرّكات لدى الجهات المعنيّة ببلدان الاعتماد. ومن المتوقّع أن تصبح تونس الوجهة المفضّلة للعلاج لدى الكونغوليين خاصّة، وذلك خلال السّنوات القليلة القادمة.

وحسب رأي المتواضع، يبقى الاستثمار المباشر بالدّول الإفريقيّة من أهمّ مجالات التعاون التي تحقق الاستفادة المثلى. وفي هذا الصّدد، وفّرت السّفارة كلّ الدّعم اللاّزم للشّركة التّونسيّة "للهندسة وإدارة المشاريع" (EPPM) التي لديها مشروع كبير بالكونغو الدّيمقراطيّة، الثاني من نوعه في العالم، يتمثّل في استخراج غاز الميثان من بحيرة كيفو وانتاج الكهرباء بقيمة ماليّة تبلغ 358 مليون دولار.

كما لها مشروعين آخرين بنفس البلد لتهيئة مصفاتين للنفط. ولديها مشروع بأنغولا منذ سنة 2010 لتهيئة مصفاتين للنفط. وتوجد أيضا عدّة شركات تونسيّة أخرى مختصّة، على غرار STEG International التي نفذت العديد من المشاريع بجمهوريّة الكونغو (برازافيل)، وكذلك شركة SOROUBAT المختصّة في البناء وتشييد الطرقات والجسور والتي لها اتصالات متقدّمة مع سلطات إفريقيا الوسطى لتنفيذ عدّة مشاريع.

  • تبقى تونس بالرّغم من امكانياتها في العديد من المجالات غير حاضرة بالقوّة المفترضة في دول إفريقيا حيث لا تتجاوز التجارة البينية بينها وبين دول القارة 300  مليون دولار سنويّا؟

يمكن القول إنّ الحضور التونسي بإفريقيا على أهمّيته لا يتماشى وإمكانياتها التصديريّة والتجاريّة والسياحيّة والخدماتيّة والصناعيّة والتعليميّة والصحيّة وغيرها.

ويفسّر ذلك بتركيز الفاعلين الاقتصاديين التونسيين على الحليف التجاري والاقتصادي الأوروبي الذي يستأثر بأكثر من 80 % من المعاملات التونسيّة مع الخارج. ولذلك لم يرتق حجم الصّادرات التونسيّة من الخيرات إلى بلدان القارّة إلى مستوى ما توفّره السّوق الإفريقيّة من فرص تصديرية، فهو لا يكاد يتجاوز 2.5% من جملة صادراتنا.

وفي المقابل، سجّلت صادراتنا نحو إفريقيا في قطاع الخدمات نتائج جدّ إيجابية (تناهز قيمتها 200 مليون دولار سنويّا) بفضل الجهود المتواصلة على المستويين الفردي والجماعي لعدد من مؤسّساتنا العاملة في مجالات متنوّعة تشمل الدّراسات والهندسة والأشغال العامّة والكهرباء ومعالجة المياه والخدمات الإعلامية والصحيّة والتعليمية وغيرها.

وبغض النظر عن تقصير الجانب التونسي في استكشاف الفرص الاقتصاديّة والتجاريّة بالدّول الإفريقيّة، يجدر التنويه بأنّ السّوق الإفريقيّة ليست سوقا سهلة، حيث ما يهمّ السّواد الأعظم من المستهلكين الأفارقة بالدّرجة الأولى هو سعر المنتوج المتدنّي وهو ما يجعل المنتوجات التونسيّة ذات الجودة المحترمة تلاقي منافسة كبيرة من نظيرتها الصينيّة والهنديّة.

كما أنّ الفاعلين الاقتصاديين التونسيين لا يستسيغون طريقة المعاملات المتشعّبة مع حرفائهم الأفارقة بسبب تعقيدات جمركيّة وبنكيّة وسلوكيات بعض الموظفين وغيرها.. وهذا ما يجعلهم يفضّلون أسواقا واضحة المعالم وأكثر شفافيّة حتى وإن كانت أقلّ ربحيّة.

كما يتطلّب تدعيم الحضور الاقتصادي والتجاري بالقارة توفّر شبكة هامة من السّفارات والمكاتب التجاريّة بدول القارة. وإلى حدّ الآن لا نملك سوى عشر (10) سفارات بإفريقيا جنوب الصّحراء وخمسة (05) مكاتب تجاريّة فقط موجودة بنفس الدّول التي لدينا بها سفارات.

وما يزيد في عزوف رجال الأعمال التونسيين على السّفر إلى الدّول الإفريقيّة هو صعوبة الحصول على تأشيرة لضعف الحضور الدّبلوماسي الإفريقي بتونس، من جهة، وللشروط المعقدة في بعض الأحيان للحصول على تأشيرة من سفارة إفريقيّة، من جهة أخرى.

وهذا دون الحديث عن السّفارات التي تشترط من طالب التأشيرة الحضور شخصيّا إلى البلد التي تقيم به للحصول عليها ولا تسمح بتقديم التأشيرات عبر الانترنيت (على غرار سفارة أنغولا بالجزائر التي تغطّي تونس). وبالتالي، فإنّه من الضرورة إيجاد حلّ سريع لعائق التأشيرة مع الدّول الإفريقيّة من خلال اعتماد اتفاقات ثنائيّة لحذفها. ويبلغ عدد الدّول الإفريقية جنوب الصّحراء التي لا تخضع لتأشيرات الدّخول إلى تونس بالنسبة لحاملي جوازات السفر العادية 18 بلدا. أمّا الدّول التي لا تُطبّق نظام التأشيرة على التونسيين فتبلغ 11 بلدا فقط.

  • في رأيكم ما الذي تحتاجه دول إفريقيا كي تخلق التكامل التجاري وتصنع لأجيالها مستقبلا يمحو صورة الفقر والأمية والنزاعات القبلية والحروب والهجرة السريّة والتخلف الاجتماعي؟

يعتبر انعدام الاستقرار الأمني وتعرّض الدّول الإفريقية المتواصل للتهديدات ومشكل الحوكمة وإنفاذ القانون وتفشّي الرّشوة، من أهمّ التحدّيات بالقارة السّمراء. كما لا تزال البلدان الإفريقية تشكو من ضعف شديد على مستوى الرّبط مع شبكة الكهرباء والبنية التحتية والنقل والرقمنة.

ويشار إلى أنّ أكثر من 80 % من جملة 255 هدف مدرج بأجندة التنمية لسنة 2063 في إفريقيا مفقودة في الوقت الحالي، وأنّ قرابة نصف سكّان القارة يعيشون في بلد لم يجر فيه أيّ تعداد للسكّان على مدى العشرين سنة الماضية، وأنه في جمهورية الكونغو الديمقراطية مثلا لم يتمّ إجراء التعداد السكاني منذ سنة 1990.

وبتفحّص الهيكل الاقتصادي الإفريقي على مدى السّنوات الماضية، ورغم وجود العديد من التكتلات الاقتصاديّة (مثل الكوميسا والساداك والإيكواس والهيئة الحكومية للتنمية أو الإيغاد)، نجد أنه ظلّ يعاني ولايزال من تعقيدات الحواجز التعريفية والجمركية، ومحدودية العلاقات التجارية المتبادلة كنتيجة طبيعية للمعوقات والموانع التي تحول دون تحرير التجارة البينية تحريراً فعلياً لا شكلياً.

وسجلت مؤشرات التجارة البينية في إفريقيا مستويات منخفضة قياساً بمناطق أخرى من العالم، إذ لم يتجاوز متوسّط تجارة الدّول الإفريقية في ما بينها 12 %، بينما تحققت 40 % من تجارة الولايات المتحدة الأمريكية مع بلدان أمريكا الشمالية، وبلغت نسبة التجارة بين بلدان الاتحاد الأوروبي 62 % وبين بلدان أمريكا الجنوبية والوسطى 17% وبين والبلدان الآسيويّة 64 %.

ورغم امتلاك البلدان الإفريقيّة للعديد من المقوّمات التي تمكّن من تحقيق التكامل الاقتصادي والتجاري الأمثل في ما بينها، والتي يأتي في مقدّمتها قابلية معدّلات النمو للارتفاع، والقدرة على تنويع الاقتصاد، وغلبة التصنيع على التركيبة التجارية، جنباً إلى جنب مع جاهزية الأسواق الإفريقية لاستيعاب حراك تجاري واعد في مجالى السّلع والخدمات، إلا أنّ غالبيتها لا تزال عالقة في إشكاليات ضعف القدرة التنافسية للصّادرات ومحدوديّة حجم الاقتصادات الوطنية.

ورغم امتلاك القارة لـ 13 % من سكّان العالم، إلاّ أنّها لا تملك سوى 3 % من الناتج المحلّي الإجمالي العالمي، ونصيبها من التجارة العالمية لم يزد عن 2 %. وطبقاً لبيانات البنك الدّولي، فإنّ الاستثمار الأجنبي المباشر في إفريقيا لم يتجاوز 1 % من الاستثمار الأجنبي على المستوى العالمي.

ولتجاوز هذه المعوقات، يبدو من الضروري لبلدان القارة، حسب رأي، تحقيق الفصل بين العلاقات السّياسية والعلاقات الاقتصادية، والتوصّل إلى التناغم بين السّياسات الاقتصادية والمالية والنقدية، والحدّ من تكاليف النقل المشطّة من خلال بعث شركات نقل جوي وبحري مشتركة، واعتماد عملة نقدية مشتركة تتيح تيسير عمليات التبادل التجاري والاقتصادي، فضلا عن تحقيق مبدأ حريّة تنقّل الأشخاص على غرار المنتوجات والبضائع.

ويبدو أنّ الاعتبارات سالفة الذّكر هي التي دفعت بالاتحاد الإفريقي إلى اعتماد اتفاقية التجارة الحرة بهدف تسريع معدّلات التبادل التجاري بين دول القارة وتوسيع مجالات الاستثمار المتبادل بينها، إضافة إلى إزالة الموانع والعوائق التي تحول دون انسياب حركة التجارة. وهذا التوجّه هو مرحلة أولى لتحقيق نتائج أكثر تكاملاً وإيجابية من الناحية الاقتصادية، وصولاً إلى تأسيس اتحاد جمركي وآخر نقدي. ولعلّ دخول منطقة التجارة الحرة القارية يوم 01 جانفي 2021، من شأنه أن يمثّل مرحلة هامة ومفصليّة تجاه تحقيق التكامل والاندماج الاقتصادي والتجاري.

  • بما أنكم السيد السفير تمثلون تونس في السّوق المشتركة لشرق وجنوب إفريقيا "الكوميسا"، ألا تعتبرون أن هذه المنظمة لم تساهم في أي ترابط اقتصادي بين الدّولة العضوة وبقيت حبرا على ورق؟

من المفيد الإشارة إلى أنّ تونس تحصّلت على العضوية الكاملة في السّوق المشتركة لشرق وجنوب إفريقيا (COMESA) التي تضمّ 22 دولة إفريقيّة وأكثر من 500 مليون ساكن منذ شهر جويلية 2018. 

وقد قمت بإيداع وثائق المصادقة على الاتّفاقيّة بمقّر المنظمة بلوساكا في جوان 2019. وبمقتضى ذلك تمّ إلغاء جميع الرّسوم الدّيوانيّة على السّلع المتبادلة بين تونس وبقيّة الدّول الأعضاء بالكوميسا. ومن البديهي أنه لا يمكننا الحكم من الآن على مزايا أو نقائص الكوميسا في علاقتها بتونس أو القيام بأيّ عمليّة تقييميّة نظرا لحداثة انضمامنا لها.

وقد بلغت صادراتنا لدول المنظمة، الى غاية شهر نوفمبر 2020، ما يعادل 1427 مليون دينار، في حين بلغت الواردات 868 مليون دينار. ولم تتجاوز مبادلاتنا في إطار اتفاقيّة الكوميسا 35 % مقارنة ببقيّة بلدان إفريقيا. وتحتلّ كلّ من ليبيا ومصر النصيب الأكبر في هذه المبادلات.

وجدير بالإشارة أنّ الشركات التونسيّة المصدّرة لاتزال تجد صعوبات إجرائيّة عند التصدير إلى بعض بلدان الكوميسا. وفي هذا الإطار، تلقينا تشكّيات تفيد أنّ المصالح الجمركيّة بهذه البلدان تناور أحيانا وتطلب ما يفيد عضويّة تونس بالكوميسا. ورغم أنّ الأمانة العامة للكوميسا أرسلت، بطلب من السّفارة، تذكيرا في عدّة مناسبات في هذا الخصوص لجميع الدّول الأعضاء، لا زالت شركاتنا تعاني من تصرّفات لا مسؤولة من بعض موظّفي الجمارك بهذه الدّول.

ومهما يكن من أمر، يمكن القول إنّ الكوميسا قد ساهمت، إلى حدّ الآن وبصفة ملحوظة، في تحقيق الترابط الاقتصادي بين العديد من الدّول الإفريقيّة. وهذا النجاح شجّع الاتحاد الإفريقي على اعتماد الاتفاقيّة المنشئة لمنطقة التجارة الحرّة الإفريقية التي تعدّ الأكبر في العالم بتعداد سكاني يتجاوز 1.3 مليار نسمة وبحجم مبادلات تجارية تتجاوز 3 تريليونات دولار سنويا والتي وقعت عليها تونس في 21 مارس 2018.

  • هل في نظركم دخول اتفاق التجارة الحرة بين الدول الإفريقية الموقعة على هذا الاتفاق يعني ضمنيا نهاية "الكوميسا"؟

أعتقد أنّ هذا القول يحتاج إلى مزيد من التدقيق. لقد دخلت منطقة التبادل الحرّ للكوميسا حيز التطبيق بصفة تامة، بمعنى أنه يتمّ تبادل كافة السلع بين الدّول الأعضاء بدون معاليم جمركية. وفي المقابل، تنصّ الاتفاقيّة المنشئة لمنطقة التبادل الحر الإفريقيّة على التحرير التدريجي للسلع. وبالنسبة إلى تونس هناك سلعا سيتمّ تحريرها على امتداد 5 سنوات (وهي السّلع غير الحسّاسة وتمثل 90% من السّلع)، وأخرى على امتداد 10 سنوات (وهي السّلع الحسّاسة والتي تمثل 7%).

كما توجد سلع أخرى مستثناة وتمثل 3%. ورغم الاطلاق الفعلي للمنطقة القارية يوم 1 جانفي 2021، فإنّ التحرير الفعلي للمبادلات سيتطلب بعض الوقت باعتبار عدم استكمال المفاوضات بخصوص عديد المسائل العالقة على غرار قواعد المنشأ والعروض التعريفية.

وما تتميّز به حاليّا الكوميسا على المنطقة القارية، هو أنّ الأولى تعتبر متقدّمة على الثانية في مجال تحرير التجارة باعتبار اعتماد الاتحاد الجمركي (منذ سنة 2014) الذي يؤدّي إلى مرحلة الاندماج والتكامل الكلّي. كما تتميّز الكوميسا بسهولة قواعد المنشأ مقارنة بقواعد المنشأ للمنطقة القارية. وهو ما سيجعل المتعاملين الاقتصاديين يفضلون الكوميسا على المنطقة القارية.

  • لنعد إلى تونس.. لماذا تأخر بلدكم كثيرا في استغلال الفرص التي تطرحها إفريقيا؟

أعتقد أنّ المسألة تحتاج شيئا من التدقيق. فقد وضعت تونس منذ فجر الاستقلال تجاربها وخبراتها التي راكمتها في كافة المجالات في خدمة التنمية في عديد البلدان الإفريقية في ميادين مكافحة الفقر وإدماج المرأة والصحّة والتعليم والتكوين والتربية والفلاحة والتنوير الكهربائي والمياه والتطهير والبنية الأساسيّة والدّراسات ورعاية المرأة والأسرة والتنظيم العائلي وغيرها.

وبالإضافة إلى ذلك استقبلت تونس آلاف الطلبة الأفارقة وساهمت بصفة فعليّة في تكوين إطارات في عدّة مجالات اضطلعت بمهام ومسؤوليات متنوّعة في بلدانها، نذكر منها على سبيل المثال الرئيس الكنغولي  السّابق Pascal Lissouba الذي تخرّج مهندسا فلاحيّا من تونس. وأوفدت بلادنا، في نطاق التعاون الفني، أفضل كفاءاتها للمساهمة في دعم المجهود التنموي في عدد من البلدان الإفريقيّة، خاصّة بالغابون وتشاد وبجزر القمر وجيبوتي وغيرها. كما كانت تونس من أوّل الدّول التي فتحت بنوكا وشركات تأمين بالدّول الإفريقيّة وقد تبعتها في ذلك بعض الدّول العربيّة.

إنّ المشكل الحقيقي الذي يطرح في العلاقة بإفريقيا، هو لماذا تراجع الحضور التونسي بدول القارّة. وأعتقد أنّ الإجابة تتمحور أساسا حول الاختيارات الاستراتيجيّة الكبرى. ويبدو أنّ توقيع تونس على اتفاقيّة الشراكة مع المجموعة الأوروبية سنة 1995 كانت من أهمّ الأسباب وراء ذلك.

ويبدو أنّ الإرادة السياسيّة في ذلك الوقت كانت متوجّهة أكثر إلى تدعيم التعاون مع الحليف الغربي، حيث تمّ خلال التسعينات إغلاق سفارتين بكلّ من ليبروفيل وهاراري مقابل فتح بعثة في بريتوريا. ورغم اعتماد خطة عمل وطنيّة في مارس 2007 لتدعيم التعاون التجاري مع البلدان الإفريقيّة والمساهمة في فتح بنك الإسكان ببرازافيل سنة 2008، لم تسترجع تونس حضورها القوي بإفريقيا إلاّ بعد سنة 2011. وقد تمّ فتح سفارتين جديدتين بكلّ من واغادوغو ونيروبي سنة 2017 وفتح خمس ممثليات تجاريّة بإفريقيا، وتمّ تسجيل العديد من الزيارات الرّسميّة والتكثيف من تنظيم المنتديات الإفريقيّة.

وفي نفس السّياق، سجّلنا حضورا قويّا للشركات التونسيّة بإفريقيا خاصّة في مجال المقاولات الكبرى والتنوير الكهربائي واستخراج البترول والغاز وهي مجالات تفوّقت فيها تونس على بقيّة دول شمال إفريقيا بكيفيّة ملحوظة. أمّا بالنسبة للمبادلات التجاريّة، فقد بقيت محتشمة بحكم عدّة عوائق لعلّ أهمّا النقل البحري والجوّي.

هذا، وبقي حجم الاستثمارات التونسية في إفريقيا دون المأمول. ولم يتجاوز عدد المؤسّسات التونسية في بلدان إفريقيا جنوب الصحراء 120 شركة ناشطة في قطاعات الأشغال العامة والاستشارات الهندسية والترحيل الصّحي والتجارة الدّولية والقطاع البنكي، ومعظمها موجود بالسّنغال والكوت ديفوار.

  • أيمكن القول إن الرّبط الجوي "الضعيف" نسبيّا بين تونس ودول إفريقيا عامل مهمّ لضياع الكثير من الفرص في إفريقيا؟

يُعتبر النقل الجوي إحدى أهم دعامات المبادلات التجارية. ورغم ذلك لا تملك تونس سوى سبعة (07) خطوط في اتجاه إفريقيا جنوب الصّحراء من بينها أربعة خطوط قبل سنة 2015 موجّهة إلى كلّ من داكار وأبيدجان وباماكو ونواكشوط. وقد أُضيف لها خط واغادوغو ثم خط آخر نحو نيامي سنة 2016 بطلب من رجال الأعمال.

وفي إطار تطوير المبادلات في اتجاه دول القارة، فتحت شركة الخطوط التونسيّة خطين جديدين سنة 2017 نحو كلّ من كوناكري وكوتونو، وكان ذلك في إطار الشراكة بين القطاعين الخاص والعام، من جهة، وفي إطار شراكة مع الاتحاد التونسي للصّناعة والتجارة والصّناعات التقليديّة وكونفيدراليّة المؤسّسات المواطنة التونسيّة (CONECT)، من جهة أخرى.

وقد حققت هذه الخطوط نحو البلدان الافريقية نجاحًا تجاريًا هاما وساهمت في مزيد استقطاب الأفارقة القادمين إلى تونس للدّراسة والاستشفاء وغير ذلك. وكان مبرمجا فتح خطّين جديدين كل سنة. وكان من المبرمج كذلك سنة 2018 فتح خطوط نحو كلّ من دوالا ونجمّينا وكينشاسا، وفتح خطين آخرين نحو أكرا ولاغوس سنة 2019، لينضاف سنة 2020 خط نحو ليبرفيل. لكنّ التوازنات الصّعبة للناقلة الوطنيّة أوقفت تنفيذ هذه السّياسة سنة 2018.

ولهذه الاعتبارات، فإنّه من الضّروري تدعيم شبكة الرّبط الجوي بين تونس والعواصم الإفريقية مع التركيز على عمليّات الشحن. كما يجب التشجيع على تسيير رحلات جويّة منتظمة للشحن الجوّي  (All cargo services) باتجاه البلدان الافريقية وخاصّة منها الكونغو الدّيمقراطيّة التي يوجد بها أكثر من 100 مليون ساكن وبها مئات الآلاف من الأجانب.

وفي نفس السّياق، يشار إلى أنّه كان مبرمجا فتح خط بحري للشركة التونسية للملاحة (CTN) يربط في مرحلة أولى (في جوان 2018) بين ميناءي صفاقس/ قابس وموانئ داكار وأبيدجان وتيما بغانا (تمّ إعداد الدّراسة وكل شيء كان جاهزا)، لكن تمّ التراجع عن ذلك لأسباب كان يمكن حلّها.

وللإعلام، يتراوح حاليّا سعر الحاوية 40 قدم من تونس إلى ميناء ماتادي بالكونغو الدّيمقراطيّة بين 5000 و7000 دولار أمريكي وهو سعر مشطّ للغاية، في حين لا يتجاوز سعر نفس الحاوية من شنغهاي مثلا الـ 1500 دولار أمريكي. ومن شأن فتح الخط المذكور أن يمكّن من دعم الصّادرات التونسية نحو إفريقيا لاسيّما عبر الاستفادة من التقليص من المدّة المُقدّرة التي تستغرقها الرّحلة والتي تتراوح حاليا بين 45 وأحيانا 60 يوما، إلى مدّة بين 15 و20 يوما فقط.

كما سيمكّن هذا الخط من استيراد العديد من المواد التي نحن في حاجة لها دون الاضطرار إلى المرور عبر وسيط أجنبي (أوروبي خاصّة) وذلك على غرار الخشب (الموجود بكثرة في الكونغو الدّيمقراطيّة والكونغو) والغلال (الموز وغيره).

  • هل تعتبرون أن المغرب نموذجا لعلاقة جنوب/جنوب بعد أن أصبح ثاني مستثمر في القارة بعد جنوب إفريقيا؟

لقد استطاع المغرب الشقيق تعزيز حضوره بإفريقيا بفضل إرساء نوع من العلاقات يرتكز على تعزيز الشراكة الاقتصادية. وأصبح بفضل استثماراته بإفريقيا، خلال العشرية الأخيرة، من أهمّ المستثمرين بالمنطقة خاصّة في المجال البنكي (الذي يمثل حوالي 52 % من إجمالي الاستثمارات المغربية بإفريقيا) وقطاع الاتصالات (بنسبة 32 %).  وتمثل الاستثمارات المغربية في بلدان جنوب الصّحراء حوالي 54.3 % من إجمالي الاستثمارات المغربية بالخارج.

وهذا في حدّ ذاته يعتبر إنجازا هاما. وما يلفت الانتباه، أنّ الفاعلين الاقتصاديين التونسيين والمغاربة قد تفادوا، ربّما دون أن يخطّطوا لذلك، المنافسة في ما بينهم بالنسبة للسّوق الإفريقيّة.

ففي حين ركّز التونسيّون على البترول والغاز والمقاولات الكبرى والبنية التحتيّة وهي مشاريع عملاقة، ركّز إخوانهم المغاربة على قطاعي البنوك والاتصالات وهي كذلك استثمارات هامة.

ويبقى التنافس على أشدّه بين البلدين في المجال التجاري، مع تفوّق واضح للمغرب بفضل الخطوط الجويّة والبحريّة، وفي كلّ ما يتعلّق بالعلاج والتعليم والتكوين المهني والسّياحة وغير ذلك. وهي منافسة شريفة بين بلدين شقيقين تربطهما علاقة تاريخيّة.

  • مازالت تونس تعاني العديد من المشاكل الاقتصادية وتضررت صورتها كثيرا بفعل العمليات الإرهابية التي ضربت البلد خلال السّنوات الماضية.. في نظركم كيف يمكن تجاوز هذا "الضرر" والاشتغال على إشعاع تونس كي تصبح بلدا "مغريا" للمستثمرين؟

لم يسلم أيّ بلد في العالم من العمليات الارهابيّة، بما في ذلك تلك التي لها أجهزة أمنيّة متطوّرة وقويّة للغاية. ولا يكاد يمرّ يوم إلاّ وتحدث اعتداءات هنا وهناك، يصفها البعض بالإرهاب في حين يفضّل البعض الآخر وصفها باعتداء إجرامي حتى لا تتضرّر مصالحه.

وهذا لا يمنع من القول أنّ الأحداث الدّامية التي شهدتها تونس خلال العشريّة الأخيرة قد أثّرت بطريقة أو بأخرى على وضعها الاقتصادي. لكن سرعان ما تمّ احتواء هذا المشكل وتمكّنت بلادنا مثلا من استقطاب ما يناهز عشرة مليون سائح خلال سنة 2019 وساهم رأس المال الأجنبي خلال نفس السّنة بنسبة 55 % من مجموع الاستثمارات وذلك بنحو 2.2 مليار دينار تونسي (أي ما يعادل 830 مليون دولار).

أمّا بالنسبة لسنة 2020، وبسبب الجائحة تقلّص حجم الاستثمارات بنسبة 23.5 %، ليبلغ في نهاية شهر سبتمبر الماضي ما يعادل 218.8 مليون دولار، مقابل285.927 مليون دولار خلال نفس الفترة من السّنة الماضية.

ورغم التحدّيات التي تفرضها جائحة فيروس كورونا كالإغلاق وإعادة فرض سياسات حمائية، تسعى تونس خلال سنة 2021 إلى تطبيق سياسة تعاون جديدة مع محيطها الخارجي تعتمد على زيادة الانفتاح المدروس والايجابي على العالمين العربي والإسلامي.

وحسب دراسة أعدّها مؤخّرا مركز الخليج العربي للدّراسات والبحوث CSRGULF عن توقعات الازدهار في تونس، تراهن السّلطات التونسيّة على جذب الاستثمار العربي عبر اعطاء أولويّة للشراكة العربية - العربية وخاصّة بين الشركات الصغيرة والمتوسطة.

كما تراهن تونس أن تكون بوّابة عربية لجنوب المتوسّط والقارة الأوروبية خاصة على مستوى تسويق المنتوجات الفلاحية والصّيدليّة والسياحة الاستشفائية، فضلا عن زيادة تحويل تونس الى منصّة لصناعة الذكاء الاصطناعي.

وقد تمّ الشروع في تطوير البنى التحتية الملائمة للأنشطة التكنولوجية واجتذاب التقنيات المتطورة. ومن المرجح ان تتحوّل تونس الى منصّة تصنيع كبيرة للإنتاج الغذائي نحو الأسواق العربية والمغاربية والخليجية، وقد تكون بوّابة استثمارات ليبية كبرى بعد استتباب الأمن في ليبا والتوصّل الى استقرار سياسي.

وبالإضافة إلى ذلك، تراهن توس على المشاركة في إعادة اعمار ليبيا وتنميتها من خلال اتاحة الفرص امام شركات القطاع الخاص التونسية بالشراكة مع نظيرتها العربية في منافسة كبار تحالفات الشركات الأجنبية المهتمّة بالسّوق الليبية.

تعليقات
جاري تحميل التعليقات

إهانة موسمية

المغرب ليس بلدا خاليًا من الأعطاب، ومن يدعي ذلك فهو ليس مُخطئا فحسب، بل يساهم، من حيث لا يدري في تأخر عملية الإصلاح، وبالتالي يضر البلد أكثر مما ينفعه، ولا ...

استطلاع رأي

مع تصاعد التوتر بين المغرب والجزائر وتكثيف الجيش الجزائري لمناوراته العسكرية قرب الحدود المغربية بالذخيرة الحيّة وتقوية الجيش المغربي لترسانته من الأسلحة.. في ظل أجواء "الحرب الباردة" هذه بين البلدين كيف سينتهي في اعتقادك هذا الخلاف؟

Loading...