"شباط اهـْرب".. عنوانٌ لسياسي أطلق الرصاص على قدميه قبل أن يَختار "منفاه"

 "شباط اهـْرب".. عنوانٌ لسياسي أطلق الرصاص على قدميه قبل أن يَختار "منفاه"
الصحيفة - حمزة المتيوي
الأثنين 23 شتنبر 2019 - 13:30

"اللسان الطويل يقصر العمر". هي حكمة قالها في الماضي السحيق الحكيم الإغريقي "إيسوب" قاصدا بها الكثير من الناس الذين أوصلتهم كلماتهم إلى قبورهم بعدما لم يحسبوا لمآلاتها حسابا، وهي عبارة قد لا تنطبق بيولوجيا على حميد شباط، الأمين العام السابق لحزب "الاستقلال"، الذي لم نسمع عنه، وهو في ربيعه السادس بعد الستين، أنه يعاني من عارض صحي، لكنها قطعا تنطبق عليه إذا ما نظرنا إلى "عمره السياسي" الذي كان لسانه سببا مباشرا في إنهائه.

ولم يكن عمدة فاس السابق، والبرلماني الذي خلق مع عبد الإله بنكيران لبضع سنوات ثنائيا سياسيا نادر التكرار، يعتقد أن لسانه الذي شحده لمهاجمة أول حكومة بعد دستور 2011، وتحديدا توجيه سهام النقد الحاد والهجوم الضاري على رئيسها، سيصبح سيفا تُجز به رقبته السياسية في 2016، ليختار بعد مقاومة غير مجدية أن يُغمده نهائيا وأن يترك المغرب وكل ما عليه من مؤسسات كان يطمح لرئاستها في يوم من الأيام، ويغادر إلى "منفاه الاختياري" في ألمانيا.

قصّة شباط مع السياسة قصّة مثيرة، انطلقت في السبعينات من أحد مصانع مدينة فاس، التي قدم إليها من مدينة تازة حيث ازداد سنة 1953، ليبدأ عمله بين قطع المعدن وبقع الزيت، لكن سرعان ما جذبه العمل النقابي وهو الشاب الذي لطالما استهوته الخطابة، فانضم إلى الاتحاد العام للشغالين بالمغرب، الذراعي النقابي لحزب الاستقلال، وسرعان ما سيصل إلى عضوية مكتبه الإقليمي.

وفي 14 دجنبر 1990 سيبرز بقوة اسم حميد شباط على الساحة النقابية والسياسية في المغرب، بعد الإضراب العام الشهير الذي يتهمه خصومه بأنه كان المحرض على "مظاهر الشغب" التي شهدها، فيما يعتبره هو "انتفاضة خلقت عهدا جديدا، ولولاها لحدث للمغرب ما يحدث اليوم في سوريا ومصر"، ورغم أنه اضطر بعد هذا التاريخ للاختفاء طويلا هربا من محاكمة كان يمكن أن تقوده إلى الإعدام، إلا أنه سرعان ما سيجني نتائج ذلك انتخابيا.

في 1992 سيدخل شباط معترك الانتخابات الجماعية لأول مرة وسيصبح نائبا لرئيس مجلس جماعة زواغة، وفي 1997 سيتمكن من الحصول على مقعد في مجلس النواب، وسيكرر الأمر في تشريعيات 2002 و2007 و2011 و2016، لكن أقوى ضرباته السياسية كانت في 2003، حين وصل إلى منصب عمدة فاس، الذي سيظل محتفظا به طيلة 12 عاما، وعد خلالها بإعادة المدينة إلى سابق رونقها، وبـ"جلب البحر إليها وإهدائها نسختها الخاصة من برج إيفل".

لكن عيون شباط كانت ترمق حلما آخر من بعيد، وهو إخراج زعامة حزب "الاستقلال" من بين يدي "العائلات الفاسية" لتذهب لأول مرة لعامل بسيط قادم من دواليب النقابة، ولذلك قرر أن ينطلق من هذه الأخيرة، فدخل في تحالف مع محمد بن جلون الأندلسي سنة 2006 انتهى بالإطاحة بعبد الرزاق أفيلال مؤسس الاتحاد العام للشغالين، ثم في 2009 سينقلب على الأندلسي نفسه وسيخلفه في منصب الكاتب العام للنقابة.

لكن في 2012، ستلوح لشباط، المعتاد على انتهاز أنصاف الفرص، فرصة ذهبية للوصول إلى ما هو أبعد من رئاسة مجلس جماعة فاس، فبعد حراك 20 فبراير 2011 والدستور الجديد سيحرز حزب الاستقلال المرتبة الثانية في الانتخابات التشريعية، ليصبح في العام الموالي شريكا لحزب العدالة والتنمية في حكومة عبد الإله بن كيران، بثاني أكبر عدد من الحقائب الوزارية، لكن كل ذلك لم يكن كافيا لشخص كان يريد رئاسة الحكومة ذاتها.

بدأ شباط مخططه من حزب الاستقلال نفسه، حيث أوصله المجلس الوطني لمنصب الأمين العام بعدما هَزم في المعركة الانتخابية وزير الصحة الأسبق عبد الواحد الفاسي، ابن الزعيم التاريخي للحزب علال الفاسي، ليطلق العنان للسانه بعدها متهما الحكومة بـ"العجز عن محاربة الفساد والابتعاد عن قواعد النزاهة والشفافية"، بل إنه وصفها بـ"حكومة المنكر"، لتعلن اللجنة المركزية للحزب في 8 يوليوز 2013، خروج "الاستقلال" من الحكومة وتوجهه للمعارضة.

لكن شباط "العنيد وسليط اللسان"، سيواجه رجلا بالصفات ذاتها، فبنكيران الذي قال إنه مستعد لانتخابات تشريعية سابقة لأوانها، والذي وصف الأمين العام لحزب الاستقلال بعد مسيرة "الحمير" الشهيرة بأنه الرجل الذي "أضحك العالم على المغرب"، قرر البدء في مشاورات "ترقيع" حكومته، وهو ما سيتأتى له بتحالف مع حزب التجمع الوطني للأحرار سيصيب طموح شباط في مقتل.

استمرت بعدها الحرب الكلامية سجالا بين الرجلين، وبلغت حد مطالبة شباط لبنكيران من تحت قبة مجلس النواب بـ"توضيح علاقته مع داعش وجبهة النصرة والموساد"، قبل أن يرفع التحدي مرة أخرى في 2015، متعهدا بالحصول على المرتبة الأولى في الانتخابات الجماعية والجهوية، وهي ذاتها الانتخابات التي ستؤدي إلى تحول عميق في خطاب شباط.

لم يفلح زعيم الاستقلاليين في تنفيذ وعده بعدما سيطر حزب الأصالة والمعاصرة على القرى ومجالس الجهات، لكن الضربة القوية ستأتيه من حزب العدالة والتنمية الذي اكتسح المدن الكبرى وأسقط شباط بالضربة القاضية في قلعته الانتخابية، مدينة فاس، بعدما حصل على الأغلبية المطلقة، لتحدث المفاجأة يوم انتخاب إدريس اليزمي الإدريسي عمدة جديدا للمدينة، حيث اختار خصم بنكيران الأول التصويت لمرشح غريمه في اقتراع محسوم سلفا.

ويبدو أن شباط صدق أخيرا حديث بنكيران عن أن الوعود التي يطلقها إلياس العماري، الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة "كاذبة"، لذلك قرر في نونبر 2015 فك الارتباط مع المعارضة البرلمانية والانتقال إلى المساندة النقدية للحكومة، ليصبح بعدها غريمه الأول هو الأمين العام لـ"البام"، وهو أمر سيبلغ مداه بعد نتائج انتخابات 2016 البرلمانية، التي منحت حزب الاستقلال الرتبة الثالثة بـ42 مقعدا.

بدا شباط غاضبا مما اعتبره "دعم السلطة لحزب الأصالة والمعاصرة"، واتهم العماري بـ"ممارسة الابتزاز"، ثم سارع لإعلان دعمه لبنكيران، بل إنه حاول إقناع الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بالانضمام لتحالف يجمع حزب العدالة والتنمية بأحزاب الكتلة الوطنية التاريخية المكونة أيضا من حزب التقدم والاشتراكية، كل ذلك كاد أن يؤتي أكله لولا أن لسان شباط نطق هذه المرة بالكلام غير المناسب في الموعد غير المناسب.

ففي دجنبر 2016 أدى تصريح لشباط يقول فيه إن "الحدود المغربية تصل إلى النيجر وإن موريتانيا أرض مغربية"، إلى أزمة دبلوماسية كبيرة بين الرباط ونواكشوط، اضطرت الخارجية المغربية لإدانة هذا الكلام والتبرؤ منه، أما الأمين العام لحزب الاستقلال فلم ينجه اعتذاره من مصير صار محتوما: الحرمان من العودة إلى الأغلبية الحكومة.

عمليا، كانت تلك الطلقة الصادرة خطأ من بندقية شباط نفسه، هي الرصاصة القاتلة التي أنهت مشواره السياسي، وإن تلتها رصاصتان أخريان بعدما خسر الاستقلالي العنيد موقع الأمانة العامة للحزب لصالح نزار بركة وموقع الكتابة العامة للاتحاد العام للشغالين لفائدة النعم ميارة، ليحزم حقائبه بعدها ويغادر المغرب في "عطلة" طويلة.

ويبدو أن شباط عمل بنصيحة الرجل النافذ الذي التقاه أمام القصر الملكي في 2011، والذي طلب منه إعداد تأشيرات أوروبا لنفسه ولأفراد أسرته تحسبا لتقلبات المستقبل، وهي القصة التي سبق أن رواها هو نفسه بنبرة انتقاد حادة لرجل يبدو أنه كان يعلم أن مستقبل السياسيين غير مضمون، لكن السقطات المتتالية والقاسية لابن تازة كانت كفيلة بإقناعه بأن التقاعد في فرانكفورت خير من مواجهة المجهول في فاس.

وبعد اختفاء طويل، كثر كلام وسائل الإعلام حول قيام شباط بنقل أمواله إلى ألمانيا، وسعيه رفقة أبنائه للحصول على الجنسية التركية، وشروعه في استثمارات جديدة في أوروبا بعيدا عن صداع السياسة، وهي كلها أحاديث لا يوجد ما يؤكدها ولا ما ينفيها، لكن المؤكد حقا أن "صمته" الاختياري، أو ربما الاضطراري، أفقد الصحافة المغربية والمهتمين بالشأن السياسي منجما من العناوين المثيرة، ولا أحد يعلم ما إذا كان شباط سيطلق العنان للسانه مرة أخرى أم لا.

هل الدولة الجزائرية عبارة عن "هجرة غير شرعية في التاريخ"؟

في حوار أجريناه في "الصحيفة" شهر غشت من سنة 2021 مع نور الدين بوكروح الذي يعتبر من السياسيين والمثقفين القلائل في الجزائر الذين ينتقدون "نظام الحكم" في البلاد المبني على ...