"عفا الله عما سلف".. براغماتية اقتصادية أم تشجيع للفساد المالي؟

 "عفا الله عما سلف".. براغماتية اقتصادية أم تشجيع للفساد المالي؟
الصحيفة - حمزة المتيوي
الأثنين 28 أكتوبر 2019 - 12:00

أعاد مشروع قانون المالية الجديد إلى الواجهة جدلا انطلق في عهد حكومة عبد الإله بنكيران، حول الإجراءات التحفيزية الممنوحة للأشخاص الذين أخرجوا أموالهم من المغرب إلى دول أخرى بطرق غير قانونية، حيث عادت عبارة "عفا الله عما السلف" الشهيرة التي أطلقها رئيس الحكومة السابق، والتي دفعت معارضيه لاتهامه بـ"العفو عن المتورطين في الفساد"، لتلتصق بخلفه سعد الدين العثماني.

وحمل قانون مالية 2020 جملة من التسهيلات لمن تورطوا في مخالفات مالية كبيرة من أجل تسوية وضعيتهم مقابل نسبة بسيطة ستذهب لخزانة الدولة، وهو إجراء يراه داعموه محفزا للاقتصاد الوطني ومساهما في تنشيط الدورة الاقتصادية انطلاقا من المؤسسات البنكية، في حين يعتبره معارضوه "حلا ترقيعيا" آخر لجأت إليه الدولة لحل مشكلة عجز الميزانية.

تكرار سيناريو بنكيران

ينص مشروع قانون المالية الجديد، الذي صادق عليه المجلس الحكومي قبل أن يعرض على غرفتي البرلمان مؤخرا، على إطلاق مجموعة من الإجراءات المعروفة بـ"المساهمة الإبرائية" المتعلقة في شق منها بالتهرب الضريبي وفي شق آخر بالأموال المهربة بشكل غير قانوني إلى الخارج، وذلك بالسماح للملزمين بتسوية وضعيتهم مقابل نسبة مائوية ضئيلة من إجمال الأموال المسترجعة.

وسيعفى مهربو الأموال الذين سيختارون الاستفادة بشكل طوعي من هذا الإجراء، من العقوبات والغرامات الثقيلة، إذ سيكونون مطالبين بإعادة تلك المبالغ إلى المغرب خلال الفترة الممتدة ما بين فاتح يناير و31 أكتوبر 2020 مقابل 5 في المائة منها، شريطة أن يتم إرجاع 75 في المائة من المبلغ الإجمالي لكل مُلزَم بالعملة الصعبة.

وحاولت حكومة العثماني من خلال هذا الإجراء تكرار سيناريو حكومة عبد الإله بنكيران سنة 2012، والذي وصفه هو نفسه من خلال حوار مع قناة الجزيرة بمنطق "عفا الله عما سلف"، معتبرا أنه في تعامله مع قضايا الفساد "لن ينشغل بمطاردة الساحرات"، وهو خيار اعتبرت الحكومة السابقة أنه كان ناجحا، حيث مكنها من استرجاع حوالي 28 مليار درهم بعدما كان الهدف المسطر لا يزيد عن 5 ملايير درهم.

وخلال النسخة الأولى من هذا الإجراء، الذي مددته الحكومة السابقة إلى حدود سنة 2014 نتيجة تجاوب الملزمين معه، استعاد المغرب 8,5 ملايير درهم على شكل سيولة نقدية و9,5 ملايير درهم على شكل ممتلكات عقارية، بالإضافة إلى استثمارات فاق 9,7 ملايير درهم.

استعادة الثقة

وتعتبر الحكومة أن مثل هذه الإجراءات ستمكنها من استرجاع نسبة كبيرة من الأموال التي لا تستفيد منها، وذلك عوض الانشغال بالمتابعة القانونية للمعنيين، وهو الأمر الذي يبدي نوفل الناصري، البرلماني عن حزب العدالة والتنمية وعضو لجنة المالية والتنمية الاقتصادية بمجلس النواب، اقتناعه به.

وأورد الناصري أن الظروف التي أُعد فيها مشروع قانون المالية لسنة 2020 مرتبطة بالخطاب الملكي في افتتاح السنة التشريعية مؤخرا، "حيث كان المقصد الأسمى الذي حث عليه الملك هو استرجاع الثقة في مؤسسات البلاد بما فيها المؤسسات المالية والقطاع البنكي"، معتبرا أن هذه ما جاء في المشروع "متماشٍ مع هذا التوجيه".

أوضح الناصري أن الكثير من الناس محجمون حاليا عن وضع الأموال في البنوك المغربية وهو أمر أضحى يمثل مشكلة للاقتصاد الوطني، لذلك "كان الأمر يحتاج لرجة قوية لتمكين هؤلاء الناس من استرجاع ثقتهم في البلاد" مضيفا أنه "لا يمكن أن نقرأ هذه الخطوة بعيدا عن هذا السياق".

وأوضح الناصري أن هذا الأمر "لن يكون مجانيا، بل سيعود بالأثر الإيجابي كبير على ميزانية الدولة"، موردا أن الحكومة من خلال قانون المالية الجديد "اشتغلت أساسا على تعزيز العلاقة بين الدولة والملزمين، قصد بناء جسور الثقة من جديد وبالتالي استعادة الأمن المالي للمغرب".

عُرف اقتصادي عالمي

واعتب برلماني "البيجيدي" أن هذا الإجراء "أصبح عرفا اقتصاديا عالميا، كما أنه أثبت نجاعته في المغرب حين تطبيقه في عهد حكومة عبد الإله بنكيران"، موضحا أنه "في الوقت الذي كان فيه أقصى طموح الدولة هو استعادة 5 ملايير درهم من خلال المساهمة الإبرائية، فكانت النتيجة استعادة 28 مليار درهم، جزء منها ذهب مباشرة لصندوق التماسك الاجتماعي".

ورفض الناصري وصف هذا الإجراء بمنطق "عفا الله عما سلف"، موضحا أن الأمر يتعلق بـ"إدخال أموال للدولة للاستفادة منها، وأيضا استعادة الأشخاص الملزمين للثقة في بلدهم والعودة إليه"، موضحا أن الأمر لم يشمل الأشخاص الذين نقلوا أموالهم للخارج فقط بل أيضا ذوي الدخل العقاري وأصحاب الديون الجبائية.

وأورد المتحدث أن كل هذه إجراءات إيجابية، إذ "من الأفضل أن تُشرعَن تلك الأموال ويتم تداولها عوض تركها بعيدا"، مذكرا أن "ما يهم المستثمرين ورجال الأعمال أساسا هو الشعور بالثقة للعودة إلى الوطن".

ونبه الناصري أيضا إلى أن "هروب رؤوس الأموال صار مشكلة منتشرة في كل أنحاء العالم، بسبب الأزمات والمخاوف من الركود الاقتصادي المتوقع في أمريكا العام المقبل"، لذلك اعتبر أن هذا الإجراء يدخل في نطاق "الإجراءات الاستباقية التي ستضمن استقرارا للاقتصاد الوطني، وإيجابياتها ستنعكس على البلد وعلى الملزمين وعلى الاستثمارات الخارجية، ثم على رواج الدورة الاقتصادية من خلال ضخ الأموال في الأبناك، وهي كلها عوامل مساهمة في التنمية".

أين المحاسبة؟

غير أن هذه الخطوة لم تُستقبل بالحماس نفسه من لدن سياسيين في المعارضة، ومن بينهم مصطفى الشناوي البرلماني عن فدرالية اليسار الديمقراطي، الذي وصف الخطوة في حديث لـ"الصحيفة" بأنها "ليس لها أي معنى"، موردا أن منطق "عفا الله عما سلف يجب أن ينتهي".

وأورد الشناوي أن المعنيين بهذا الإعفاء "هم أشخاص لهم ثروة قرروا تهريبها للخارج بشكل غير قانوني"، مضيفا أن "هؤلاء يجب أن يحاسبوا، فالمتورطون بالتهرب الضريبي أو تهريب الأموال أضروا بالبلد وبالمواطنين ولا يمكن التغاضي عن الأمر، والتعامل معهم وكأن شيئا لم يكن مقابل نسبة قليلة تتراوح ما بين 5 و10 في المائة أمرٌ غير منطقي وغير مقبول".

"ليسوا وطنيين"

وكما كان الأمر بالنسبة للنسخة الأولى من هذه الإجراءات، التي أتت في سياق محاولات استعادة ثقة رجال الأعمال والمستثمرين بعد حراك 2011، ربطت بعض قراءات النسخة الجديدة من الإعفاءات بمحاولة استعادة الأموال التي خرجت من المغرب عقب مسلسل الحراك الاجتماعي الذي بلغ ذروته في الحسيمة وجرادة.

لكن الشناوي يقول إنه "لا يمكن ربط تهريب الأموال بالحراك الاجتماعي، ولو كان الأمر هكذا فإننا هنا نتحدث عن أشخاص غير وطنيين يسارعون لتهريب أموالهم بمجرد خروج المواطنين للتعبير عن قلقهم أو المطالبة بحقوقهم".

وتابع البرلماني اليساري قائلا "كل ما في الأمر أن الحكومة ترغب في تغطية عجز الميزانية عبر مداخيل جديدة، والمتمثلة في الخوصصة التي أفقدت الدولة العديد من ممتلكاتها المهمة، ثم الرفع من المديونية التي ستزيد بـ100 مليار درهم، وأخيرا العودة لمنطق عفا الله عما سلف، الذي نعتبره حلا ترقيعيا".

وخلص الشناوي إلى أن "ما يهم الحكومة الحالية كما سابقتها هو الحفاظ على التوازنات الماكرو اقتصادية على حساب التوازنات الاجتماعية، مضيفا "الواقع يقول إنه لا توجد أي رؤية لإصلاح عميق لمختلف القطاعات وعلى رأسها تلك المتعلقة بالجانب الاجتماعي".

هل الدولة الجزائرية عبارة عن "هجرة غير شرعية في التاريخ"؟

في حوار أجريناه في "الصحيفة" شهر غشت من سنة 2021 مع نور الدين بوكروح الذي يعتبر من السياسيين والمثقفين القلائل في الجزائر الذين ينتقدون "نظام الحكم" في البلاد المبني على ...