قضية الصحراء.. وقصّتنا مع "الإخوة العرب"
لم يَكن الرئيس التونسي، قيس سعيّد، الأول، ولن يكون الأخير الذي يلعب بورقة الصحراء المغربية تبعا لمصالحه الشخصية، وليس ضمن إطار مصالح جيو استراتيجية تُوحد دول المنطقة وتنمي اقتصاداتها وتقوي اللحمة التي تجمع بين شعوبها.
فقبل قيس سعيّد بنصف قرن، طعنت جَزائر بن بلة المغرب حينما رفض الملك الراحل محمد الخامس التفاوض مع المستعمر الفرنسي سنة 1957 لاستعادة منطقة بشار وتيندوف مقابل وقف دعم المملكة للثوار الجزائريين. حينها، فضلت الرباط توقيع اتفاقا مع فرحات عباس، رئيس الحكومة المؤقتة الجزائرية، يوم 6 يوليو 1961، يعترف من خلاله الأخير بوجود مشكل حدودي بين البلدين، وهو الاتفاق الذي ينص على ضرورة بدء المفاوضات لحل هذا المشكل الحدودي مباشرة عند استقلال الجزائر.
غير أنه وبعد استقلال "جارتنا" سنة 1962 تنكر أول رئيس للجزائر بعد الاستقلال أحمد بن بلة، لهذه الاتفاقية، ورفع شعار "التراب الجزائري جزء لا يتجزأ". وهكذا كانت الخديعة الكبرى التي تسببت في "حرب الرمال"، وبعدها أسست الجزائر رفقة القذافي جبهة "البوليساريو" لتقسيم المغرب، ونشأ ملف الصحراء الذي مازال ينخر المنطقة إلى اليوم.
الضربات التي تلقاها المغرب من العرب عبر عقود في قضية الصحراء لا تعد ولا تحصى، وما قام به الرئيس التونسي قيس سعيّد، هو صورة تاريخية مصغرة عمّا قام به العديد من "الإخوة العرب" عبر التاريخ المظلم لأمة يَعرب ابن قحطان التي مازالت تعيش أنظمتها بمنطق "القبائل"، كُلٌ يغني على ليلاه، وقتما حَلَّ وقت الغناء!
وقبل تونس، كانت هناك الجزائر، وبعد الجزائر، كانت هناك موريتانيا التي اعترفت بـ"الجمهورية العربية الصحراوية" سنة 1984، ومازالت تعترف بهذا الكيان الوهمي إلى اليوم، وتلعب ورقته كلما دعتها الضرورة لذلك، ويتلذذ بعض كتابها وسياسيوها في العبث باللغة في مقالات وتدوينات وتصريحات لنثر حقائق التاريخ ببشاعة، والانزواء لتعصب القبيلة بـ"تطرف" غريب.
وقبل موريتانيا، دَعَّمَت مصر جمال عبد الناصر الجزائر ضد المغرب في "حرب الرمال" بإرساله ألف جندي مع عتاد حربي لصالح الجيش الجزائري. وكان الرجل إلى مماته داعما في السر والعلن لتقسيم المغرب عن صحرائه، وفق نظرته "الثورية" التي هزمت كل العرب في حرب دامت ستة أيام أمام إسرائيل، وَوُصِفت تاريخيا بـ"نكسة67".
وبعد جمال عبد الناصر، جاء الدور على أنور السادات الذي كان خجولا في دعم الوحدة الترابية للمغرب حتى اغتيل في عرض عسكري، فخلفه حسني مبارك الذي بقي بدون موقف واضح إلى حين إسقاطه من الحكم، ليَحلّ بعده عبد الفتاح السيسي الذي وصل إلى سدّة حُكم "مَصر المحروسة"، على دبابة عسكرية أدخلته إلى قصر "الاتحادية" في القاهرة.
تَحَفَظَ السِيسِي في بداية حُكمه بشكل مُخجل عن دعم المغرب في وحدته الترابية، كما تحفظ على رجوعه إلى الاتحاد الإفريقي. وَجَرَت بَعدها مياه كثيرة تحت جسر العلاقات بين الرباط والقاهرة، بين مَيْل للطرح الجزائري في مقابل محاولة إحياء علاقات دافئة مع المغرب. وبعد رحلة الشتاء والصيف وتردد طويل، أعلنت القاهرة عن دعمها للوحدة الترابية للمغرب، بعد أن بدأ السيسي يتحسس تأثير المملكة في العمق الإفريقي.
وقبل القاهرة، اختلفت الرياض وأبو ظبي مع نظرة المغرب للأزمة الخليجية مع قطر، حيث نأت الرباط بنفسها عن الاصطفاف مع طرف ضد آخر، وبقيت تدعو "لضبط النفس والتحلي بالحكمة لتجاوز الأزمة وتسوية الأسباب التي أدت إليها بشكل نهائي"، وهو ما لم تتقبله السعودية والإمارات من منطلق "كُن معنا أو ضدنا". وهكذا، وظفت الرياض وأبو ظبي كل غدر العرب التاريخي، وطعنتا المملكة في وحدتها الترابية بتقارير إعلامية بُثت على قناتي "العربية" و"سكاي نيوز" تتحدث عن "الصحراء الغربية" وزعيمها الخالد الذي سيحكم دولة في صحراء المغرب!
وبالرغم من الكلفة الباهضة سياسيا واقتصاديا التي دفعها المغرب نظير معارضته لقرار حصار قطر من طرف "الإخوة في الدين والعروبة"، في السعودية والإمارات، مازلت الدوحة تقدم قدما وتؤخر أخرى في دعم الوحدة الترابية بشكل صحيح وصريح.
فقطر لم تفتح قنصلية لها لا في العيون ولا في الداخلة إلى اليوم، ومازالت شبكة "الجزيرة" الممولة من صندوق سيادي قطري، تبث يوميا خريطة المغرب مبثورة عن صحرائه في كل نشرة وبرنامج!
الخلاصة من كل هذا المسلسل الطويل مع "الدول العربية"، أن على الرباط أن تستخلص بأن قوة الدُول تُستمد من الجبهة الداخلية، ومن المجتمع الحي، ومن المؤسسسات القوية، ومن الديمقراطية الخلاقة، ومن الإعلام الحر، وليس من دعم أنظمة زعمائها مزاجيين ومتقلبين مثل حالة طقس إيرلندا.
لهذا، على الدولة المغربية أن تعمل على ثلاث ملفات اليوم قبل الغد من أجل ربح المستقبل دون تضييع نصف قرن آخر في معارك دونكيشوطية مع زُعماء دُول يَرتهنون للمزاجية لبناء مواقفهم.
أولا - تقوية الأحزاب السياسية
في الوقت الذي على الأحزاب المغربية أن تنظم نفسها وأن يَكف المنتمون إليها عن الانتهازية السياسية واغتيال ضمائرهم بمفاهيم ضيقة خانقة، ومدمرة لمستقبل البلاد، على الدولة أن ترفع يدها عن التدخل في الشؤون الداخلية لهذه الأحزاب إلا فيما يَخص تمويلها، ومتابعة هذا التمويل دون المس بجوهر مَن سَيخلف مَن أو مَن يَصلح أمينا عاما أو رئيسا لحزب ومن صلاحيته انتهت.
على الدولة أن تمنح المساحة الكافية لصناعة نخب داخلية للأحزاب دون دعم البروفايلات التي يمكن التحكم فيها والقابلة لقول نعم دائما وأبدا ولولى التشهد لكانت لاَؤهم نعم.
في هذه الحالة سيفضي تراكم العمل السياسي لا محالة إلى إفراز نخب سياسية بكاريزمة قادرة على صنع خطاب وأفكار وعلاقات تفيد البلاد والعباد وسيكون لها صوت داخلي وخارجي بعيدا عن لعب دور "الكومبارس" في مشهد لم يعد يعجب أحدا.
ثانيا: تقوية مؤسسات الدولة
يجب الارتهان على مؤسسات دولة قوية، قادرة أن تكون صمام أمان لأي صدمات داخلية أو خارجية، وسندا قوية في بناء دولة ديمقراطية حصينة. وعليه، يجب رسم حدود عمل المؤسسات وتحديد اختصاصاتها وأن يكون عملها مبني على الدستور والقوانين مع ربط المسؤولية بالمحاسبة، وأن يكون القانون فوق الجميع، وهو ما سيجعل المملكة قوية بقوة القانون الذي يؤطر مؤسسات الدولة ويمنحها حصانة داخلية وقوة خارجية يمكن الاتكاء عليها للدفاع عن قضايا الأمّة المغربية.
ثالثا: الاستثمار في الإعلام والوعي الجماعي
تصرف الدولة ما يزيد عن 270 مليون دولار على قنوات لا يشاهدها أحد، كما أنها أفرطت في دعم إعلام الترفيه، ومولت بسخاء وحَمَت إعلام "تشوهات المجتمع". والنتيجة أن المعارك الكبرى لا تدار على الخطوط الساخنة لوزراة الخارجية أو القصر الملكي، بل المعارك الحقيقية تدار على وسائل الإعلام الرزينة التي تكتب وتحلل وتؤطر الوعي الجماعي وتكون رصاصة قادرة على "اغتيال" أي قضية أو إحيائها من خلال التوظيف الصح للمعلومة. وهي المعارك التي نخسرها يوميا بفعل "قرار الدولة" للأسف.
في المغرب قمنا بالاغتيال الرمزي للإعلام الجاد بشكل مؤلم، وقمنا بزرع الكثير من المفاهيم البشعة في إعلامنا، حتى أفقدناه المصداقية اللازمة ليكون مؤطرا للوعي الجماعي للمغاربة. كما قمنا بتطعيم إعلام "الفضائح"، وصناعة "الصحافة المنحلة" عن كل القيم المهنية والأخلاقية. والنتيجة كانت كارثية وبدأنا ندفع ثمنا باهضة لها.
وعليه، حان الوقت لتدرك الدولة قيمة الإعلام ودوره في خلق "قوة ناعمة" تدافع عن القضايا المصيرية للبلاد، من خلال غرس قيم ثقافية وتاريخية للعباد.
على الدولة، أن تعيد تشكيل الإعلام العمومي وتصنع له هوية، عوض حراسة بنيته التقليدية العتيقة في طرح القضايا الكبرى للبلاد داخليا وخارجيا، بشكل سطحي ومبتذل وفقير مهنيا، كما عليها أن تخلق المناخ الصحي والمناسب مع مساحة حرية للإعلام المستقل بِنَفَسٍ نقديٍ سَيفيد بلادنا أكثر مما يعتقد البعض أنه سَيضرها. فالوعي لا يهدد مستقبلنا، الجهل من يهدده.
هكذا، ستجد المملكة أنها لا تفترس مستقبلها بعشوائية، بل ستصنع الدولة بمجتمعها ومؤسساتها وقيمها وهويتها وأحزابها ومفكريها وصحافتها قوة لمواجهة التحديات المصيرية لأمّة عريقة ضاربة جدورها في التاريخ وقادرة على رفع تحديات المستقبل كما رفعت تحديات الماضي.
تعليقات
بإمكانكم تغيير ترتيب الآراء حسب الاختيارات أسفله :