عبد الحكيم العياط
الأثنين 3 نونبر 2025 - 23:48

الدولة القوية والمواطن الغائب.. إلى أين تتجه السياسة في المغرب؟

"قبل أيام من احتجاجات جيل زد التي اجتاحت المدن المغربية، كتبت هذا المقال الذي يبدو وكأنه تنبؤ دقيق بما كشفته الشوارع: غضب الشباب لم يكن مفاجئا، بل نتيجة تراكم سنوات من الإحباط السياسي والحرمان من الفعل العمومي.

تعيش السياسة في المغرب اليوم مفارقة صارخة بين قوة الدولة وضعف السياسة. فمن جهة، استطاعت الدولة أن ترسخ حضورها في كل المجالات الحيوية من خلال برامج كبرى ومشاريع بنيوية، ومن جهة أخرى تراجع الفعل السياسي الحزبي والمدني إلى مستويات غير مسبوقة من الانكماش والجمود، مما يجعل المشهد العام يبدو كأنه يسير في اتجاه “دولة بلا مواطنين سياسيين”.

لقد شهد المغرب خلال العقدين الأخيرين تحولات مؤسساتية عميقة جعلت من الدولة فاعل مركزي في إدارة الشأن العام. فقد تم إطلاق سلسلة من المشاريع الوطنية الكبرى في مجالات البنية التحتية، والتغطية الصحية، وإصلاح الحماية الاجتماعية، فضلًا عن دينامية الاستثمار في الطاقات المتجددة والمناطق الصناعية. هذه الإنجازات عززت صورة “الدولة المنجزة” ورفعت من منسوب الثقة في الإدارة العمومية. غير أن الوجه الآخر لهذه القوة يكمن في تراجع السياسة كمجال للتعبير والمنافسة والاختيار.

الأحزاب السياسية، التي كانت تُعد في السابق قاطرة العمل السياسي، أصبحت اليوم تعاني من أزمة تمثيلية حقيقية. لم تعد قادرة على التعبئة أو الإقناع، ولا تملك رؤية واضحة حول نموذج التنمية أو الإصلاح المؤسساتي. فخطابها فقد المصداقية، وقواعدها التنظيمية تآكلت، وأجيالها الجديدة هجرت مقراتها نحو فضاءات التواصل الاجتماعي التي باتت بديلًا عن المشاركة التقليدية.

تراجعت ثقة المواطن في المجالس المنتخبة، سواء المحلية أو الجهوية أو البرلمانية، لأن التجارب السابقة لم تُفضِ إلى نتائج ملموسة على مستوى تحسين الخدمات أو محاربة الفساد أو تعزيز العدالة المجالية. أصبح المواطن يرى أن القرار الحقيقي يُتخذ في أماكن أخرى، وأن الانتخابات لا تغير شيئًا سوى الوجوه. هذا الشعور بالعبث السياسي أفرز عزوفًا متزايدًا عن المشاركة، وهو مؤشر على تآكل الرابط بين المواطن والدولة.

في السنوات الأخيرة، أصبحت الدولة تتدخل مباشرة في ملفات كانت سابقًا من اختصاص الهيئات الوسيطة، مثل توزيع الدعم الاجتماعي، أو معالجة قضايا التشغيل، أو حتى التواصل مع الفئات الهشة. هذا الدور الاجتماعي القوي جعل الدولة تكسب شعبية واسعة، لكنه في الوقت نفسه عمّق تراجع الوساطة الحزبية، إذ لم يعد المواطن يرى جدوى من الانخراط في حزب أو نقابة طالما أن الدولة تقوم مقام الجميع.

على الرغم من اتساع فضاء الجمعيات والمنظمات المدنية، فإن حضورها الفعلي في صناعة القرار ما يزال محدودًا. كثير من الجمعيات تحولت إلى واجهات موسمية تشتغل وفق أجندات ظرفية أو تمويلات مرتبطة بالمشاريع. القليل منها فقط استطاع أن يفرض نفسه كمحاور جاد في قضايا مثل البيئة، والمساواة، وحقوق المستهلك، والحكامة. وهكذا نجد أن المجتمع المدني يعيش مفارقة مشابهة للأحزاب: حضور قانوني قوي، وفاعلية سياسية ضعيفة.

النتيجة المباشرة لكل ذلك هي بروز نموذج “المواطن المتفرج”، الذي يتابع الأحداث من بعيد، دون انخراط فعلي أو حماس جماعي. أصبح المواطن يرى السياسة مجرد لعبة مغلقة لا يُسمح له بالمشاركة فيها إلا كصوت انتخابي مؤقت. هذا الشعور بالعزلة السياسية يخلق خطرًا مزدوجًا: من جهة ضعف المشاركة، ومن جهة أخرى قابلية المجتمع للانفجار عند أول أزمة اجتماعية أو اقتصادية.

كان يُفترض أن يلعب الإعلام الوطني دورًا في إعادة بناء الثقة وتوضيح الخيارات العمومية للمواطنين. غير أن الإعلام، بشقيه العمومي والخاص، أصبح هو الآخر أسيرًا لسطحية المعالجة وغياب العمق التحليلي. في كثير من الأحيان يتحول النقاش الإعلامي إلى ترويج للمنجزات دون مساءلة، أو إلى فضاء للجدل العقيم، مما يساهم في تكريس صورة السياسة كمجال مغلق ومبهم.

أكبر خسارة يعرفها المغرب اليوم هي فقدان الجيل الجديد للإيمان بالسياسة كأداة للتغيير. فالشباب الذين يفترض أن يكونوا طاقة التجديد والانخراط، صاروا يهربون نحو الهجرة، أو ريادة الأعمال الفردية، أو العالم الرقمي. لم تعد السياسة تغريهم ولا تقدم لهم أفقًا واضحًا. هنا يبرز التحدي الأكبر: كيف يمكن للدولة أن تُعيد بناء الثقة السياسية مع جيل يعيش في عالم منفتح، لكنه يشعر بانغلاق وطنه أمام أحلامه؟

إن استمرار هذا المسار ينذر بتحول السياسة إلى مجرد إدارة تقنية للملفات بدل كونها مجالًا للنقاش الديمقراطي وصنع الخيارات الجماعية. فالدولة، مهما بلغت قوتها، لا يمكن أن تعوّض غياب السياسة، لأن الشرعية السياسية الحقيقية تُبنى من التفاعل بين الحاكم والمواطن، وليس من خلال الإنجاز الإداري وحده.

اليوم، المغرب بحاجة إلى سياسة جديدة تُعيد الاعتبار للمواطن باعتباره محور الفعل العمومي، وإلى أحزاب تمتلك الجرأة في التفكير والمبادرة، لا تكتفي بترديد ما يُقال في الكواليس. فالدولة القوية لا تُبنى فقط بالمشاريع الكبرى، بل كذلك بالمجتمع الواعي والفاعل الذي يشارك في صياغة مستقبله.

الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة

ما يجب قوله للإسبان في مدريد؟

في الوقت الذي تعقد فيه الحكومة الإسبانية ونظيرتها المغربية، اليوم الخميس، بمدريد الدورة الثالثة عشرة من الاجتماع الرفيع المستوى، مع ما يعكس ذلك من تطور كبير في العلاقات الثنائية بين ...

استطلاع رأي

مع قُرب انطلاق نهائيات كأس إفريقيا للأمم "المغرب2025".. من تتوقع أن يفوز باللقب من منتخبات شمال إفريقيا؟

Loading...