التحقيق الجنائي في تمويل حزب VOX الإسباني.. من الشبهة السياسية إلى الأرشفة القانونية
لم يعد حزب VOX الإسباني مجرد فاعل سياسي ضمن المشهد الحزبي في مدريد، بل تحول إلى أداة ضغط أيديولوجي تعبر عن نزعة قومية متشددة تستهدف كل ما يمت بصلة إلى الجنوب المتوسطي، وفي مقدمته المغرب. فمنذ صعوده الانتخابي السريع في أواخر العقد الثاني من الحادي والعشرين، لم يخف الحزب عداءه للمصالح المغربية، سواء في ملف الهجرة أو في قضيتي سبتة ومليلية المحتلتين، أو في النزاع حول الصحراء المغربية.
بل سعى في أكثر من مناسبة إلى تحريض البرلمان الأوروبي ضد الاتفاقات التجارية بين الرباط وبروكسيل، متهما المغرب باستغلال أوروبا وترويج منتجات من الأقاليم الجنوبية على أنها "مغربية"، في محاولة مكشوفة لتقويض المكاسب الدبلوماسية التي حققها المغرب خلال السنوات الأخيرة.
هذا الحزب، الذي يرفع شعار "إسبانيا أولا"، يضع في قلب خطابه السياسي فكرة "الخطر المغربي"، ويصور الرباط على أنها خصم استراتيجي لا شريكا جغرافيا. فكلما تقدم التعاون الأمني أو الاقتصادي بين المملكتين، سارع VOX إلى التشكيك في نوايا المغرب واتهامه بمحاولات "الابتزاز" أو "التمدد" نحو سبتة ومليلية.
بل بلغ الأمر بالحزب إلى المطالبة بإلغاء التعاون العسكري والاستخباراتي مع المغرب، وبتشديد الرقابة البحرية على مضيق جبل طارق، بحجة "التهديد المغربي للأمن القومي الإسباني". إن خطابه العدائي لا ينبع من اختلاف سياسي مشروع، بل من نزعة استعمارية مضمرة تسعى لإعادة ترسيم العلاقة التاريخية بين البلدين على قاعدة الهيمنة القديمة لا الندية الحديثة.
ومن هنا يصبح من الضروري فهم التحقيقات القضائية التي تطال الحزب في ضوء خلفيته الإيديولوجية: فحزب يناهض الديمقراطية والشفافية داخليا، ويعادي جارًا استراتيجيا كالمغرب خارجيا، لا يمكن فصله عن مناخ عام من التطرف القومي والتوظيف السياسي للمال المشبوه، الذي يشكل أحد ملامح الأزمة الأخلاقية في اليمين الإسباني المعاصر.
أولا، خلفية الأزمة وتحول الشبهة إلى قضية رأي عام:
عرف المشهد الحزبي الإسباني خلال السنوات الأخيرة تصاعدا غير مسبوق في الجدل حول الشفافية المالية للأحزاب، خاصة بعد بروز حزب VOX اليميني المتطرف كقوة انتخابية ثالثة داخل البرلمان الإسباني. فمنذ تأسيسه سنة 2013، ظل الحزب يقدم نفسه كصوت "الهوية القومية" و"حارس القيم الإسبانية التقليدية"، غير أن نموه السريع أثار شكوكا حول مصادر تمويله وقدرته على تمويل حملات انتخابية ضخمة تفوق إمكاناته التنظيمية المعلنة.
هذا الجدل بلغ ذروته حين أعلنت النيابة العامة المختصة بمكافحة الفساد فتح تحقيق جنائي رسمي في مارس 2025 حول شبهات تمويل غير قانوني، لتتحول القضية من مجرد جدل إعلامي إلى ملف قضائي أثار اهتمام الرأي العام المحلي والأوروبي على حد سواء.
وتأتي أهمية هذا التحقيق من كونه يتجاوز حدود الحزب نفسه ليطرح أسئلة أعمق حول بنية النظام الحزبي الإسباني وحدود الرقابة المالية على الأحزاب السياسية في ظل صعود التيارات الشعبوية. فVOX لم يكن أول حزب إسباني تثار حوله شبهات مالية، لكنه يمثل حالة مختلفة لأن الاتهامات ترافقت مع تصاعد خطابه المعادي للمؤسسات الأوروبية والمهاجرين، مما جعل التحقيق يقرأ أحيانا كاختبار لاستقلال القضاء الإسباني وقدرته على معالجة قضايا تتعلق بحزب ذي نفوذ متزايد.
ومن هنا، فإن التحقيق في تمويل VOX لا يمكن النظر إليه كمسألة محاسبية فحسب، بل كعلامة على التوتر القائم بين السياسة والأخلاق العامة، وبين حرية التمويل الحزبي ومتطلبات الشفافية في الديمقراطية الأوروبية المعاصرة.
ثانيا، مسار الاتهامات والإجراءات القضائية: من تقرير المحكمة إلى فتح التحقيق الجنائي
بدأت ملامح الأزمة تتشكل حين نشر Tribunal de Cuentas، وهو الجهاز الأعلى للرقابة المالية في إسبانيا، تقريرا مفصلا سنة 2024 يكشف عن وجود مخالفات خطيرة في حسابات حزب VOX بين 2018 و2020. التقرير أشار إلى أن الحزب تلقى مبالغ مالية مجهولة المصدر عبر أنشطة ميدانية كبيع مواد دعائية أو جمع تبرعات نقدية من دون تحديد هوية المتبرعين، وهو ما يخالف بشكل صريح قانون تمويل الأحزاب الإسباني.
وقد قدر التقرير حجم المبالغ غير الموثقة بما يفوق ثمانمئة ألف يورو، مما دفع المحكمة إلى فرض غرامة مالية قدرها 862,496 يورو على الحزب، باعتبار أن المخالفة مصنفة ضمن "الأفعال الجسيمة" التي تمس بمبدأ الشفافية المالية. هذا القرار مثل الشرارة الأولى التي دفعت خصوم الحزب، وعلى رأسهم حزب PSOE الاشتراكي الحاكم، إلى المطالبة بفتح مسار جنائي مواز للتحقق مما إذا كانت تلك الممارسات تشكل جريمة تمويل غير قانوني وفق المادة 304 مكرر (bis) من القانون الجنائي الإسباني.
بناء على الشكوى التي تقدم بها نواب من التحالف الحكومي، أحالت النيابة العامة القضية إلى النيابة المختصة بمكافحة الفساد (Fiscalía Anticorrupción) التي أعلنت في مارس 2025 فتح تحقيق جنائي ابتدائي تحت مسمى diligencias de investigación. الهدف من هذه المرحلة لم يكن الاتهام المباشر، بل فحص ما إذا كانت الوقائع تستوجب تحريك المتابعة القضائية.
وقد ركزت التحقيقات على نقطتين أساسيتين: الأولى تتعلق بطريقة جمع الأموال النقدية في الشارع عبر "صناديق تبرعات" غير مراقبة، والثانية تخص القرض الضخم الذي حصل عليه الحزب من بنك مجري (MBH Bank) بقيمة تناهز 9.2 ملايين يورو، والذي أثار تساؤلات حول مصدره وعلاقته بحكومة فيكتور أوربان. هذه التطورات جعلت من القضية اختبارا لمدى قدرة العدالة الإسبانية على فرض مبدأ الشفافية على حزب يستخدم خطابا حادا ضد النخبة السياسية والمؤسسات نفسها التي باتت تحقق في ملفاته المالية.
ثالثا، طبيعة التحقيق الجنائي وتفاصيل القروض والتبرعات محل الشبهة:
مع انتقال الملف رسميا إلى النيابة المختصة بمكافحة الفساد (Anticorrupción)، بدأت مرحلة الفحص التقني للحسابات البنكية والسجلات المحاسبية الخاصة بالحزب في محاولة لتحديد ما إذا كانت العمليات المالية المشبوهة تندرج في إطار مخالفات إدارية أم أنها ترتقي إلى جرائم تمويل غير قانوني وفق المعايير الجنائية الإسبانية. ركز المحققون على نقطتين مركزيتين: أولاهما تتعلق بآلية جمع الأموال نقدا في أنشطة الحزب الميدانية بين 2018 و2020، إذ تشير تقارير المحكمة إلى أن VOX استخدم ما يعرف بـ“الطاولات المتنقلة” لجمع تبرعات نقدية مباشرة من أنصاره، ثم أدخل تلك الأموال إلى حساباته تحت بند مبيعات ترويجية، من دون تحديد هوية المتبرعين أو مصدر الأموال بدقة.
هذا النوع من المعاملات، وإن بدا ظاهريا قانونيا، يعد ثغرة خطيرة تتيح إخفاء تمويلات غير مشروعة أو خارجية. وقد أثارت النيابة تساؤلات حول ما إذا كان هذا الأسلوب مقصودا للالتفاف على قوانين الإفصاح المالي التي تفرض تحديد هوية المتبرع في كل معاملة تفوق قيمتها مئة يورو.
أما النقطة الثانية، والأكثر حساسية، فتتعلق بالقرض الممنوح من بنك MBH المجري سنة 2023، والذي بلغت قيمته الإجمالية تسعة ملايين ومئتي ألف يورو. وقد وصف هذا القرض في البداية بأنه تمويل تجاري لتغطية الحملات الانتخابية المحلية والتشريعية، إلا أن وسائل الإعلام الإسبانية والأوروبية أثارت شكوكا بشأن طبيعة البنك ذاته، لارتباطه الوثيق بحكومة فيكتور أوربان، الحليف الأيديولوجي لـ VOX.
ودفعت هذه الملابسات النيابة إلى فحص ما إذا كان القرض يحمل طابع الدعم السياسي المقنع أو ما إذا كان جزءا من شبكة تمويل تتجاوز الحدود الوطنية، خاصة وأن القانون الإسباني يمنع على الأحزاب السياسية تلقي تمويل أو قروض من كيانات أجنبية قد تكون مرتبطة بدول أو حكومات. غير أن الحزب دافع عن نفسه مؤكدا أن القرض كان تجاريا بحتا، بفائدة محددة، وأنه سدد بالكامل في سبتمبر 2024، وهو ما استعملته هيئة الدفاع كحجة قوية لنفي شبهة التمويل الخارجي غير المشروع.
رابعا، قرار الأرشفة المؤقتة: مبدأ عدم المعاقبة مرتين وتداعياته القانونية والسياسية
بعد ثلاثة أشهر من التحقيقات الأولية، أصدرت النيابة المختصة بمكافحة الفساد (Fiscalía Anticorrupción) في يونيو 2025 قرارها بأرشفة الملف مؤقتا، معتبرة أن الوقائع موضوع الشكوى قد خضعت مسبقا لعقوبة مالية من طرف Tribunal de Cuentas، وبالتالي لا يمكن متابعتها جنائيا مجددا وفق مبدأ non bis in idem، أي عدم معاقبة الشخص أو الجهة نفسها مرتين على نفس الفعل.
وجاء في البيان الصادر عن النيابة أن العقوبة الإدارية التي فرضتها المحكمة المحاسبة، والمتمثلة في غرامة 862,496 يورو، استوفت الجانب الزجري المطلوب، ما يجعل من غير المبرر قانونيا فتح متابعة جنائية حول نفس الوقائع. كما أشار القرار إلى أن القرض الممنوح من البنك المجري MBH لم تثبت حوله أدلة كافية على كونه تبرعا سياسيا أو دعما أجنبيا مباشرا، لاسيما بعد أن قدم ما يفيد بسداده الكامل في سبتمبر 2024، مما أسقط عنه شبهة التمويل الخارجي غير القانوني.
هذا القرار أثار جدلا واسعا في الأوساط الإعلامية والقانونية، إذ اعتبره بعض المراقبين بمثابة تسوية سياسية أكثر منه تطبيقا صارما للقانون، بينما رأى آخرون أنه انتصار لمبدأ الفصل بين المسارين الإداري والجنائي في قضايا الشفافية الحزبية.
سياسيا، استغل VOX هذا القرار لتأكيد براءته من كل التهم، معتبرا أن التحقيق لم يكن سوى حملة “تشويه ممنهجة” من الحكومة الاشتراكية وأذرعها الإعلامية، في حين رد ممثلو حزب PSOE بأن الأرشفة لا تعني البراءة، بل توقفا مؤقتا بسبب التعقيد القانوني في تداخل العقوبات الإدارية والجنائية. وقد ذهب بعض فقهاء القانون إلى القول إن قرار الأرشفة لا يمنع إعادة فتح التحقيق في حال ظهور أدلة جديدة، خصوصا إذا تبين أن القروض المجرية تمت بشروط تفضيلية غير متاحة للأحزاب الإسبانية الأخرى، مما قد يعد تمييزا سياسيا ذا بعد أجنبي.
أما على الصعيد الأوروبي، فقد تابعت مؤسسات الشفافية في بروكسل الملف عن كثب، معتبرة أن القضية تطرح مجددا إشكالية تمويل الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا الشرقية والغربية على حد سواء، وضرورة وضع آليات رقابة تتجاوز الحدود الوطنية لضمان الشفافية ومنع تسلل التمويلات السياسية ذات الطابع العابر للدول.
خامسا، أزمة الشفافية الحزبية وحدود المساءلة القانونية في إسبانيا:
تكشف قضية التحقيق الجنائي في تمويل حزب VOX عن مفارقة جوهرية في التجربة الديمقراطية الإسبانية المعاصرة: فبينما تمتلك البلاد أحد أكثر أنظمة الرقابة المالية تطورا داخل الاتحاد الأوروبي، فإن قدرة هذه الأجهزة على فرض الشفافية الكاملة على الأحزاب السياسية ما تزال محدودة بفعل تداخل المصالح، وضغط التوازنات الحزبية، وتعقيدات الفصل بين القانوني والسياسي. لقد أظهر المسار القضائي أن القانون الإسباني يعاني من فجوة بين المسار الإداري والمسار الجنائي، إذ يمكن لحزب أن يعاقب ماليا على مخالفات محاسبية جسيمة من دون أن يتحمل تبعات جنائية، ما لم تتوافر أدلة قاطعة على نية الإخفاء أو وجود تمويل أجنبي مباشر.
هذا الوضع أتاح للأحزاب الكبرى، بما فيها VOX، أن تتحرك في منطقة رمادية تتيح لها الحصول على موارد ضخمة تحت عناوين تبرعات أو قروض دون أن تقع مباشرة تحت طائلة المتابعة الجنائية. كما أن النظام القانوني الإسباني لم يطور بعد آلية موحدة تلزم الأحزاب بالكشف المسبق عن كل مصادر تمويلها المحلية والدولية في الوقت الحقيقي، الأمر الذي يحد من الشفافية ويضعف ثقة المواطنين بالمؤسسات الحزبية.
من الناحية السياسية، شكلت هذه القضية ضربة مزدوجة لصورة VOX في الداخل والخارج. فعلى الرغم من تبرئة ساحته قضائيا مؤقتا، فإن الرأي العام ظل ينظر إليه كحزب يفتقر إلى النزاهة المالية، بينما استغلت المعارضة اليسارية الملف لتأكيد أن التيارات الشعبوية لا تختلف عن النخب التقليدية التي تزعم محاربتها. أما على المستوى الأوروبي، فقد أعادت هذه القضية فتح النقاش حول تمويل الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا، وارتباط بعضها بشبكات نفوذ مالية في المجر وروسيا.
وتبرز من هذه القضية خلاصة أعمق مفادها أن مكافحة الفساد السياسي في أوروبا لا تقتصر على كشف التبرعات غير المشروعة، بل تتطلب إعادة تعريف مفهوم المساءلة الديمقراطية بما يضمن المساواة في قواعد التمويل، ويمنع استغلال الثغرات القانونية لتوسيع النفوذ الحزبي خارج الأطر الشفافة. وهكذا تعد قضية VOX نموذجا كاشفا لأزمة الثقة في الأحزاب الأوروبية المعاصرة، ولحدود القانون حين يتقاطع مع الحسابات السياسية.
كاتب وأكاديمي مغربي



