السفير الفرنسي السابق في الجزائر: الذاكرة الاستعمارية هي نوع من "الوقود السياسي" لدى النظام الجزائري لتأمين تعبئة داخلية في سياق اجتماعي واقتصادي هش

 السفير الفرنسي السابق في الجزائر: الذاكرة الاستعمارية هي نوع من "الوقود السياسي" لدى النظام الجزائري لتأمين تعبئة داخلية في سياق اجتماعي واقتصادي هش
الصحيفة - خولة اجعيفري
الأحد 28 دجنبر 2025 - 9:00

اتهم السفير الفرنسي السابق لدى الجزائر كزافييه دريانكور، الرئيس عبد المجيد تبون والنظام الجزائري بالسعي لـ "إرباك اللعبة السياسية داخل فرنسا وإحداث انقسام بين اليسار واليمين"، وهو يؤكد أن هذا الأخير لا يستهدف بسنّ قانون تجريم الاستعمار الفرنسي مجرد "تصفية حساب مع الماضي"، محذرا من أن النص الجديد "سيُفجّر خلافات حادة في الداخل الفرنسي" في وقت تشهد فيه العلاقات الثنائية واحدة من أكثر مراحلها توترا منذ عقود.

وفي خطوة تعمّق الشرخ القائم بين باريس والجزائر، صوّت البرلمان الجزائري، في 24 دجنبر الجاري بالإجماع على قانون يُجرِّم الاستعمار الفرنسي، ويطالب الدولة الفرنسية رسميا بـ"اعتذارات" و"تعويضات كاملة وعادلة عن الأضرار المادية والمعنوية" التي خلفتها 132 سنة من الاحتلال.

هذه المبادرة التشريعية التي وصفها الإعلام الجزائري بـ"اللحظة التاريخية" أعادت فتح ملف الذاكرة بقوة ليس فقط على مستوى العلاقات الثنائية، بل أيضا داخل الساحة السياسية الفرنسية ذاتها حيث اعتبر السفير الفرنسي السابق في الجزائر زافييه دريانكور، أن أحد أهداف الرئيس عبد المجيد تبون من خلال هذا النص هو "إرباك المشهد السياسي في فرنسا" و"تفجير التناقضات داخل الطبقة السياسية الفرنسية".

القانون الجزائري الجديد لا يكتفي بلغة رمزية أو خطابية، بل يمنح الاستعمار الفرنسي توصيفا قانونيا حادا بوصفه "جريمة دولة لا تسقط بالتقادم" ويُدرج قائمة واسعة من "الجرائم الاستعمارية" تشمل المجازر والتهجير القسري، وتجريد السكان من الأراضي والتجارب النووية في الصحراء وما خلفته من آثار صحية وبيئية، إلى جانب التعذيب والعنف الجنسي الممنهج.

كما ينص النص على مطالبة فرنسا بإعادة الأرشيف والآثار والرفات البشرية، خصوصا رفات المقاومين الجزائريين، مع إلزام باريس بتسليم الخرائط التفصيلية لمواقع التجارب النووية وتنظيف المناطق الملوثة إشعاعيا وكيميائيا.

إضافة إلى ذلك، يقرّ القانون عقوبات بالسجن بين 5 و10 سنوات في حق أي شخص في الجزائر "يمجّد" الاستعمار الفرنسي أو يبرّره، سواء في الفضاء العمومي أو في المنشورات الأكاديمية أو على المنصات الرقمية، مع تجريم الإضرار برموز الثورة والحركة الوطنية والخطاب "ذي الحمولة الاستعمارية".

بهذا المعنى، ينقل النص معركة الذاكرة من مستوى الخطاب السياسي والتكريمات المتبادلة إلى مستوى القانون الجنائي الدولي، ويضع فرنسا، كخلف قانوني للدولة الاستعمارية، في مرمى مساءلة ذات بعد عالمي، وليس ثنائيا فقط.

في قراءته لهذه الخطوة، يرى كزافييه دريانكور السفير الفرنسي السابق لدى الجزائر أن الرئيس تبون لا يخاطب باريس فقط، بل يخاطب أيضا المجتمع السياسي الفرنسي من خلال قانون يتوقع أن يثير انقساما حادا بين اليسار واليمين.

وقال دريانكور في مداخلة على إذاعة "أوروبا 1" إن أحد أهداف الرئيس الجزائري هو "إرباك اللعبة السياسية في فرنسا" مضيفا: "هو يعلم جيدا أن هذا القانون سيُحدث انقسامات في فرنسا جزء من اليسار واليسار المتطرف سيقول: الجزائر على حق تماما في الاحتجاج على جرائم الاستعمار في المقابل، سيستنكر جزء من اليمين واليمين المتطرف هذا النص ويعتبره استفزازا غير مقبول".

وبالنسبة للديبلوماسي السابق، تتحول الذاكرة الاستعمارية إلى نوع من "الوقود السياسي" داخل الجزائر، حيث يشير إلى ما سبق أن سماه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بـ"الريع الذاكرتي" خطاب معادٍ لفرنسا يسمح للنظام بتأمين تعبئة داخلية في سياق اجتماعي واقتصادي هش يطبعُه الركود الاقتصادي وارتفاع البطالة وهشاشة الأفق لدى قطاعات واسعة من الشباب.

تكتسب هذه الخطوة الجزائرية معناها الكامل حين تُقرأ في ضوء مسار طويل من المد والجزر في ملف الذاكرة بين باريس والجزائر فحتى وقت قريب، كانت الصيغة الرسمية المفضلة لدى تبون هي "الاعتراف بالوقائع" وليس "الاعتذار" ولا "التعويض" كما ذكّر بذلك تقرير لصحيفة "لوموند" مبرزا أن الرئيس الجزائري رفض لسنوات تحويل مسألة الاعتذار إلى مطلب رسمي مباشر.

لكن اعتماد قانون يصف الاستعمار بـ" جريمة دولة غير قابلة للسقوط بالتقادم" ويطالب بتعويضات شاملة، يشكل قطيعة واضحة مع مرحلة الحوار الهادئ نسبيا التي عرفتها العلاقات الثنائية قبل تفجر التوترات حول ملفات أخرى، وفي مقدمتها اعتراف ماكرون في يوليوز 2024 بمغربية الصحراء وما تبعه من تصعيد جزائري وتراجع في مستوى التمثيل الدبلوماسي وتوتر في ملفات الطاقة والهجرة.

هذا الانتقال من خطاب "الذاكرة المشتركة" ومحاولات المصالحة الرمزية إلى قانون تجريم يحمل في طياته لغة الاتهام الجنائي، يعبّر عن تدهور غير مسبوق في العلاقات بين البلدين منذ استقلال الجزائر سنة 1962.

القانون الجديد لا ينزل في فراغ، فهو يتزامن مع مرحلة تراجع ملحوظ في المبادلات التجارية بين فرنسا والجزائر وتحول جزء من الشراكات الطاقية والاستثمارية نحو شركاء آخرين في سياق تعددية متزايدة في الخيارات الخارجية للجزائر، بما في ذلك التقارب مع روسيا والصين وتركيا ودول خليجية.

في المقابل، ترى باريس في هذه المبادرة "خطوة عدائية بوضوح" وفق توصيف مصادر دبلوماسية فرنسية نقلتها عدة وسائل إعلام، من بينها صحف فرنسية على غرار "لوبوان" اعتبرت أن النص "يغلق أكثر باب الحوار الهادئ حول الذاكرة، ويدفع العلاقة إلى منطقة توتر مزمن"؟

وتدرك فرنسا أن القانون، حتى لو كان موجها قانونيا ضد "الدولة الاستعمارية" وليس ضد الشعب الفرنسي كما حرصت الجزائر على التأكيد، فإنه يمنح خصومها السياسيين في الداخل والخارج مادة جاهزة لمهاجمة "الإرث الاستعماري" لباريس، ووضعها في خانة الدول المتهمة بارتكاب “جرائم ضد الإنسانية” في زمن الاستعمار.

ما يثير قلق جزء من النخبة الفرنسية هو الأثر الداخلي لهذا القانون أكثر من أثره الخارجي فالنص الجزائري يأتي في لحظة تشهد فيها فرنسا تصاعدا في الخطاب الهوياتي وتزايدا في الأطروحات التي تميل إلى التقليل من فظاعة الاستعمار أو إعادة تأويله في اتجاه أكثر "تبييضا" كما أظهرت ذلك نقاشات تلفزيونية حول سؤال بسيط ومفخخ في الآن ذاته: "هل الاستعمار جريمة" والذي انتهى بعض المسؤولين السابقين إلى الإجابة عنه بـ لا صريحة، ما أثار موجة استياء في الجزائر وأعاد تأجيج الجدل حول "إنكار الجرائم الاستعمارية" في فرنسا.

في هذا السياق، يبدو واضحا أن تبون يراهن، كما يقول دريانكور، على خلق "انقسام متوقع" في فرنسا جزء من اليسار واليسار الراديكالي سيجد في القانون فرصة لتجديد مطالبه باعتراف صريح بالجرائم الاستعمارية وبإصلاح سياسي وأخلاقي لخطاب الدولة في حين سيتعامل جزء من اليمين واليمين المتطرف مع النص بوصفه "ابتزازا ذاكراتيا" و"إهانة" للهوية الوطنية الفرنسية، ويستثمره لتغذية الخطاب المعادي للهجرة وللعرب وللمسلمين.

من جهة أخرى، يقرأ دريانكور القانون في ضوء ما يسميه "اقتصاد الريع الذاكرتي" في الجزائر أي توظيف ملف الاستعمار كأحد أعمدة الشرعية السياسية للنظام فكلما اشتدت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، صار من الأسهل العودة إلى خطاب "الاستعمار، والضحايا، والعدو الخارجي" من أجل إعادة تعبئة الداخل وإعادة ترتيب الأولويات.

وهذا لا يعني أن المطالبة باعتراف تاريخي غير مشروعة أو غير مؤسسة، لكن طريقة توظيف هذا الملف وتوقيته والصيغة القانونية الحادة التي اتُّخذت كلها عناصر تجعل كثيرين في فرنسا يرون في الخطوة أكثر من مجرد قانون ذاكرة يرون فيها مناورة سياسية محكومة بمنطق "تصدير الأزمة" وتثبيت الجبهة الداخلية في بلد يواجه تحديات اجتماعية واقتصادية معقدة.

وتكشف هذه الحلقة الجديدة من الأزمة أن ملف الذاكرة الاستعمارية يطفو على سطح العلاقات الثنائية بين الحين والآخر باعتباره عنصرا بنيويا في تعريف العلاقة بين باريس والجزائر وفي رسم صورة كل طرف لدى الآخر ولدى الرأي العام الدولي.

فالقانون الجزائري الذي يجرّم الاستعمار الفرنسي، كما يقرأه كزافييه دريانكور، يحمل في طياته ثلاث رسائل متزامنة هي رسالة داخلية موجهة للرأي العام الجزائري مفادها أن الدولة لا تزال "حارسا للذاكرة" وحاميا لرمزية حرب التحرير، ورسالة خارجية لبناء موقع تفاوضي أعلى مع فرنسا في سياق تصاعد المساومات السياسية حول ملفات الصحراء، الهجرة، الطاقة، والتعاون الأمني، ورسالة ثالثة للطبقة السياسية الفرنسية، قوامها أن زمن "إدارة ملف الاستعمار بصمت أو بنصف اعتراف" قد ولّى وأن أي انقسام داخلي في فرنسا حول هذا الموضوع يمكن أن يتحول إلى ورقة إضافية في يد الجزائر.

القفطان.. وأزمة الهوية عند الجزائريين

طُويت معركة أخرى أرادت الجزائر أن تخوضها ضد المغرب، وهذه المرة ليس في مجلس الأمن بخصوص قضية الصحراء، بل داخل أروقة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو"، التي تعقد ...

استطلاع رأي

مع قُرب انطلاق نهائيات كأس إفريقيا للأمم "المغرب2025".. من تتوقع أن يفوز باللقب من منتخبات شمال إفريقيا؟

Loading...