
الشرق الأوسط الجديد ما بعد طوفان الأقصى
في خضم الحروب المتلاحقة والتحولات الجيوسياسية الكبرى، برز مصطلح "الشرق الأوسط الجديد" كعنوان لمشروع متعدد الأبعاد، تتداخل فيه السياسة والاقتصاد والطائفية، ويُعاد من خلاله تشكيل خريطة المنطقة بما يتوافق مع مصالح القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة وإسرائيل. إذ تعود جذور هذا المشروع إلى اتفاقية سايكس بيكو 1916 عقب الحرب العالمية الأولى، والتي مثّلت بداية تقسيم المنطقة وفق مصالح استعمارية بحتة، لا تراعي مكونات الشعوب ولا تطلعاتها. وصولا لما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر لسنة 2001 التي تزعمت فيها الولايات المتحدة الأمريكية المشروع الجديد لهندسة الشرق الأوسط الجديد عبر نشر الديمقراطية المزعومة ومحاربة "الإرهاب".
لكن الواقع أثبت أن الهدف كان تفكيك الدول المركزية مثل العراق وسوريا، وإعادة تشكيل الكيانات السياسية بما يخدم مصالح الأمن القومي الأمريكي والإسرائيلي. بحيث تُوظف الصراعات الإقليمية المعاصرة لتعزيز رؤية جديدة للمنطقة، تُكرّس فيها إسرائيل كقوة إقليمية مركزية، وتُطوّع فيها الدول العربية ضمن أدوار وظيفية تُعيد إنتاج التبعية السياسية والاقتصادية. وقد عاد مصطلح الشرق الأوسط الجديد إلى الواجهة بعد طوفان الأقصى إذ أعادت المقاومة رسم خريطة المنطقة الجيوسياسية والتي تختلف بشكل جوهري على الخطة التي كانت تطمح إليها الإدارة الأمريكية والإسرائيلية. وهذا يقودنا لمعرفة ما هي الأهداف الاستراتيجية لمشروع الشرق الأوسط الجديد؟
الأهداف الاستراتيجية لمشروع الشرق الأوسط الجديد:
أولا: إضعاف إيران ومحور المقاومة
تتمثل أحد الأهداف الرئيسية للمشروع الأمريكي الاسرائيلي في تحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة، عبر استهداف امتداداته في اليمن، والعراق، وسوريا، ولبنان. فإيران تُعد العقبة الأبرز أمام تثبيت الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية، ومحور المقاومة يُشكّل بدوره التحدي الوجودي المباشر للمشروع الامبريالي في المنطقة بدءا من حزب الله في لبنان والفصائل المسلحة في العراق وصولا للحوثيين في اليمن وحركات المقاومة الفلسطينية بحيث تشكل ايران عبر هذا المحور طوقا تحاصر به إسرائيل وتخلق من خلالها مخاوف أمنية تهدد الاحتلال ولذلك يعد القضاء على النظام الإيراني المعادي للغرب ولإسرائيل باعتبارها امتدادا للاستعمار الغربي في المنطقة بمثابة تجفيف لمنبع محور المقاومة وبسقوطه قد تسقط بقية الأطراف في هذا المحور.
ويمكن القول بأن سقوط نظام بشار الأسد كان ضربة موجعة للمحور وللنظام الإيراني خاصة فبسقوط نظام موال لإيران وقيام نظام جديد بداله خاصة وأن الأخير كان قد أكد أنه لن يدخل في مواجهة مباشرة مع إسرائيل قد فتح المجال للكيان بالتوسع داخل الراضي الحدودية بينها وبين سوريا مستغلة حالة الفوضى والاضطراب التي تمر بها المنطقة في هذه الفترة. فبعد سقوط نظام بشار الأسد بسويعات قليلة وقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على حافة هضبة الجولان المحتلة ونظر إلى سوريا. وقال في رسالة مصورة إن هذا السقوط التاريخي سيخلق "فرصاً مهمة للغاية" لإسرائيل.
ثانيا: تصفية القضية الفلسطينية وتوسيع الاستيطان
يسعى مشروع الشرق الأوسط الجديد إلى إنهاء القضية الفلسطينية نهائيًا من خلال عزل غزة عن محيطها العربي والإسلامي وتدميرها بشكل ممنهج وقد تبين ذلك في عدوان إسرائيل الأخير على القطاع إذ صرح قادة الاحتلال أكثر من مرة عن رغبتهم في جعل غزة مكان غير صالح للحياة، بل واعادته للعصور الحجرية متباهين بذلك وكأنه انتصار عسكري. وتدمير المقاومة ونزع سلاحها من أجل تجنب أي تكرار لسيناريو السابع من أكتوبر والتخلص من الجيب العسكري الأخير داخل الأراضي المحتلة.
إضافة إلى سيطرة الاحتلال على الضفة الغربية عن طريق التنسيق الأمني مع السلطة والتوسع في بناء المستوطنات في خرق واضح للقوانين الدولية وفي هذا السياق لا يمكننا أن ننسى صفقة القرن التي نادى بها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أثناء فترته الرئاسية الأولى واعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل ضاربا بعرض الحائط حل الدولتين. كذلك التشجيع على تطبيع العلاقات مع إسرائيل تحت ما يسمى بالاتفاقيات الابراهيمية.
كل هذا يأتي في إطار تصفية القضية الفلسطينية وجعل العرب يقبلون بتطبيع مع إسرائيل قبل قيام الدولة الفلسطينية والاعتراف بها من قبل إسرائيل. ولذلك جاءت عملية طوفان الأقصى تحديًا كبيرًا لهذا التوجه، إذ أعادت للقضية الفلسطينية بعدها التحرري، وزخمها الإعلامي والعالمي خاصة في أوساط الشباب والطلبة ووصولا للأكاديميين في الجامعات الغربية الأمر الذي دفع العديد من الدول الأوروبية بالاعتراف بالدولة الفلسطينية مثل اسبانيا وايرلندا. علاوة على تعريته لهشاشة الكيان الإسرائيلي رغم كل الدعم الدولي الذي يتلقاه.
ثالثا: التطبيع الإقليمي والتحالفات الجديدة
يُستخدم التطبيع كوسيلة لتكريس خارطة التحالفات الجديدة. فبعدما كانت إسرائيل "عدوًا"، صار يتم الترويج لها في المخيال الشعبي العربي والسياسي باعتبارها "شريكًا" و"حليفا" في العديد من المشاريع الاقتصادية والأمنية. ففي خطابه بالأمم المتحدة، عرض نتنياهو خريطة "الشرق الأوسط الجديد" حيث اختفت فلسطين تمامًا، وظهرت الدول المطبّعة بلون "السلام"، في تكريس تداولي لفكرة الهيمنة، ونهاية القضية الفلسطينية كقضية سياسية.
إذ امتد التطبيع ليشمل دولًا كانت تُعد مركزية في العالم العربي، فبعد أن طبعت مصر بما تحمله من ثقل سياسي في العالم العربي علاقاتها مع الكيان من خلال ابرامها لاتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل جاءت الآن المحاولة لتوسيع هذه الدائرة وضم أطراف جديدة فيها مثل الامارات والمغرب ومحاولة تطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية غير أنه يمكن القول بأن الزخم الذي صاحب ما بعد السابع من أكتوبر قد أوقف هذه المساعي إذ أكدت المملكة في أكثر من مرة عن رفضها التطبيع مع إسرائيل قبل قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
إذ شكّلت اتفاقيات التطبيع، نقطة تحوّل مفصلية في مسار دمج إسرائيل في العلاقات الاقتصادية والاستراتيجية في المنطقة، وتسويقها كحليف أمني وتجاري موثوق لدول الخليج، وعلى وجه الخصوص دولة الإمارات العربية المتحدة. فمنذ انسحاب الإمارات من المقاطعة الاقتصادية العربية لإسرائيل عام 1995، ظل الحظر مقتصرًا على المعاملات المباشرة، مما أتاح نشوء علاقات تجارية غير رسمية بدعم من جهات حكومية ومصالح أمنية وإستراتيجية. وقدّرت قيمة التجارة بين إسرائيل ودول الخليج قبل التطبيع الرسمي بنحو 720 مليون دولار سنويًّا، من بينها صادرات إسرائيلية مباشرة إلى الإمارات تُقدَّر بـ 300 ألف دولار سنويًّا من حوالي 200 شركة إسرائيلية. ومع تعمق التعاون، برزت إسرائيل كمورد رئيسي للأسلحة المتقدمة منذ عام 2010، مما عزز صورة إسرائيل كحليف أمني فعال.
وتجلّى هذا التوجّه في صفقات كبرى مثل العقد الذي وقعته شركة Asia Global Technology، التي يملكها رجل الأعمال الإسرائيلي ماتي كوخافي، مع هيئة البنية التحتية الوطنية الحيوية التابعة لحكومة أبو ظبي بقيمة تجاوزت 800 مليون دولار عام 2008، لتزويدها بتقنيات أمنية متقدمة.
وانتعشت هذه العلاقات وأصبحت تمارس بشكل علني بعد سنة 2020 أي بعد ابرام اتفاقيات التطبيع. وكأن هذه الاتفاقيات عملت على تحقيق حلم الرئيس الإسرائيلي الأسبق شمعون بيريز الذي نادى به في كتابه الشهير "الشرق الأوسط الجديد" إلى إقامة سوق مشتركة شرق أوسطية عن طريق خلق علاقة تبعية اقتصادين بين الدول العربية وإسرائيل بحيث تكون الأخيرة منتجة والأولى مستهلكة. وتمثل هذه الرؤية امتدادًا لمشروع السيطرة الامبريالية من بوابة الاقتصاد بعد الفشل الأخلاقي للهيمنة العسكرية. ولكن ماهي الوسائل التي تم اعتمادها في سبيل تحقيق كل هذه الأهداف؟
وسائل تنفيذ المشروع
أولا: استخدام الطائفية والعرقية كأداة للتقسيم
يُعد تفجير الهويات الطائفية والعرقية أحد أبرز أدوات الفوضى الخلاقة والمعتمدة في تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد. إذ لم تعد الدولة الوطنية محمية بمنطق السيادة، بل أصبحت ساحة مفتوحة لإعادة التشكيل من الداخل، من خلال إذكاء الفتن الداخلية والصراعات المذهبية. فقد شهدنا كيف جرى تقسيم العراق على أساس طائفي، وكيف تم تأليب السنة على الشيعة، والأكراد على العرب وكيف أن مشروع انفصال إقليم كردستان عن العراق كان مدعوما من الولايات المتحدة واسرائيل، في إطار تفكيك البنية الوطنية لصالح كيانات هشة يسهل التحكم فيها.
ويُعاد اليوم إحياء سيناريو التقسيم الذي عرفته سوريا خلال الاحتلال الفرنسي، حين قُسمت إلى أربع دويلات على أسس طائفية. هذا السيناريو لم يعد مجرد ماضٍ بعيد، بل أصبح – وفق العديد من المحللين – جزءًا من الرؤية الإسرائيلية لمستقبل سوريا والمنطقة ككل. فكما أشار الدكتور عزمي بشارة، تسعى إسرائيل إلى فرض تسوية تُبقي سوريا منزوعة السلاح، وبلا جيش مركزي، وخاضعة لإملاءات خارجية تضمن أمنها ومصالحها، وتمنع قيام دولة وطنية موحدة قد تمثل خطرًا استراتيجيًا في المستقبل.
وتتجلى هذه الرغبة في مساعي إسرائيل لتكرار نموذج تحالفها مع بعض الأقليات، كما حدث سابقًا في جنوب لبنان، وكما تسعى لتطبيقه في بعض مناطق سوريا. الهدف هو إنشاء "مناطق عازلة" على حدودها، تكون خاضعة لنفوذها الأمني والاقتصادي، وتمنع أي تهديد محتمل من أنظمة مركزية مستقلة. وقد عبّر الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط عن هذه المخاوف بوضوح حين صرّح: "إسرائيل تسعى لاستخدام القبائل والطوائف والأديان لخدمة مصالحها الخاصة.
إنها تريد تفتيت المنطقة"، محذرًا من خطورة الانخراط في مشاريع مشبوهة تُعيد إنتاج سايكس بيكو جديد، ولكن هذه المرة بأدوات محلية وتحت شعارات ما بعد حداثية مثل "حكم الأقليات" و"الحماية الدولية". وفي ذات الصدد أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأن إسرائيل أصبحت الوصي على دروز سوريا وبأنها ستبسط حمايتها عليهم الأمر الذي قذ يتخذ كمطية من أجل التدخل الاسرائيل في سوريا.
ثانيا: دعم الأنظمة أو الجماعات الموالية
ضمن مسار إعادة تشكيل المنطقة وفق الرؤية الأمريكية–الإسرائيلية، تتّبع القوى الخارجية سياسة قائمة على دعم الأنظمة والجماعات التي تتماهى مع مشروعها، سواء بشكل مباشر عبر التحالفات السياسية والأمنية، أو بشكل غير مباشر من خلال رعاية الحركات الانفصالية وتغذية النزاعات الداخلية التي تُضعف الدول وتُفرغ مفهوم السيادة من مضمونه .فعلى مستوى الأنظمة، يُمنح الدعم السياسي والدبلوماسي لأنظمة سلطوية، لا تُبدي اعتراضًا على السياسات الإسرائيلية أو الأمريكية في المنطقة، بل تذهب أحيانًا إلى حدّ التطبيع العلني والترويج لخطاب جديد يتجاوز ثوابت القضية الفلسطينية، تحت شعار "السلام الإقليمي" أو "الاستقرار الاقتصادي".
مثل هذه الأنظمة، رغم انتهاكها المستمر للحريات وحقوق الإنسان، تُقدَّم دوليًا كنماذج للتقدم والاعتدال، لأنها ببساطة لا تُعارض المشروع الأكبر، بل تشكل جزءًا وظيفيًا منه. أما على صعيد الجماعات، فالدعم يتخذ منحى أكثر تعقيدًا وخطورة، يتمثل في تشجيع الحركات الانفصالية التي تُهدد وحدة الدول العربية، بحجة حماية حقوق الأقليات أو "التمثيل السياسي العادل".
ففي الشمال السوري، تحظى الجماعات الكردية المسلحة بدعم مباشر من الولايات المتحدة، مما مكّنها من فرض أمر واقع انفصالي، يتحدى الدولة السورية المركزية، وكذلك دعم المشروع الانفصالي الكردي في العراق إذ لم يعد من المستغرب دعم إسرائيل لانفصال إقليم كردستان العراق ودعمه إعلاميا وسياسيا. وفي ذات الصدد يُعدّ السودان نموذجًا صارخًا لهذا النهج التقسيمي للمنطقة فقد ظلّت السياسات الإسرائيلية تسعى منذ عقود إلى إضعاف الدولة السودانية، عبر دعم الحركات الانفصالية في الجنوب، والتي تُوّجت بانفصال جنوب السودان عام 2011. غير أن الأمر لم يتوقف عند ذلك الحد، بل امتد إلى دارفور وشرق السودان، حيث استُخدمت النزاعات الداخلية لتقويض وحدة البلاد، وإطالة أمد أزماته.
كما دعمت شركات السلاح الإسرائيلية طرفي الصراع في جنوب السودان – قوات الرئيس سلفا كير وقوات نائبه رياك مشار – في لعبة عبثية تهدف إلى استنزاف مقدرات الدولة الوليدة ومنعها من الاستقرار. وفي سياق متصل، اتخذ التآمر على السودان بعدًا استراتيجيًا تمثّل في دعم إسرائيل العلني وغير العلني لمشروع سد النهضة الإثيوبي، وهو مشروع يُهدّد الأمن المائي لكل من مصر والسودان، ويُعرض مصالحهما الاستراتيجية لأضرار جسيمة. ورغم التحذيرات الإقليمية، ظلت تل أبيب تدفع باتجاه استكمال المشروع دون أي اعتبار لمبدأ التعاون أو التفاهم مع دول المصب، ما يعكس البُعد السياسي للمشروع المائي، بوصفه أداة جديدة لإعادة رسم موازين القوة في حوض النيل.
ويؤكد الكاتب المصري فهمي هويدي، في هذا السياق، أن الرؤية الصهيونية منذ نشأتها قامت على مبدأ التحالف مع الأقليات داخل العالم العربي، إدراكًا منها أن هذه الأقليات تمثل نقاط ضعف يمكن استغلالها ضمن سياسة "فرّق تسد". هذا النهج القديم المتجدّد لا يهدف فقط إلى خلق تحالفات تكتيكية، بل إلى إعادة تشكيل النسيج الوطني للدول العربية، وتحويلها إلى كانتونات متنازعة يسهل احتواؤها والتأثير على قراراتها السيادية.
ثالثا: التدخلات العسكرية والعقوبات الاقتصادية
في السياق العسكري، لا تزال المنطقة العربية مسرحًا لتدخلات مباشرة، كما حدث في العراق عام 2003، حين قامت الولايات المتحدة بغزو البلد تحت ذرائع مرتبطة بأسلحة الدمار الشامل، لتتضح لاحقًا الأهداف الحقيقية المتمثلة في إسقاط نظام غير تابع وإعادة هندسة المجتمع العراقي وفق أسس طائفية هشّة. وبدلًا من بناء "نموذج ديمقراطي"، أدّت الحرب إلى تدمير البنية التحتية، وحلّ الجيش، وإشعال صراعات داخلية ما زالت آثارها ماثلة إلى اليوم.
أما على المستوى غير المباشر، فتمارس إسرائيل سياسة الضربات الجوية المنتظمة، لا سيما في سوريا ولبنان وقطاع غزة، وتستهدف هذه الضربات مراكز استراتيجية ومنشآت حيوية، كالطرقات والمطارات والمستودعات، مما يُضعف من قدرة هذه الكيانات على التماسك الداخلي أو تشكيل أي قدرة ردعية مستقبلًا. في سوريا، تُبرّر إسرائيل ضرباتها بمزاعم تتعلق بـ"الوجود الإيراني"، لكنها في الواقع تعمل على منع استعادة الدولة السورية لعافيتها، وإبقاءها في حالة استنزاف دائم. وفي غزة، تتحول كل دورة تصعيد إلى تدمير واسع للبنية المدنية، ما يُبقي القطاع في حالة إنسانية مأساوية تمنع نهوض أي مشروع مقاومة فعّال أو مستقل.
في المقابل، يُستكمل الضغط العسكري بعقوبات اقتصادية شاملة، تُفرض تحت ذرائع سياسية أو حقوقية، لكنها تُترجم عمليًا إلى خنق اقتصادي شامل يستهدف المواطن أولًا. ففي إيران، شكّلت العقوبات الأمريكية عقبة كبرى أمام التنمية والرخاء، وضربت قطاعات حيوية كالصحة والطاقة، في محاولة لتركيع النظام من خلال تجويع الشعب. وفي سوريا ولبنان، أثّرت العقوبات – مثل قانون قيصر – بشكل مباشر على الاقتصاد، وأدت إلى انهيار العملة وارتفاع نسب الفقر والبطالة، ما عمّق من الأزمات السياسية والاجتماعية. هذه العقوبات، رغم تبريرها بأنها تستهدف "الأنظمة"، إلا أنها في واقع الأمر تُصمَّم بطريقة تُضعف بنية الدولة ككل، وتُهيئ البيئة لانفجار داخلي قد يُفضي إلى تفكك المجتمعات من الداخل، أو إلى ثورات غير مستقرة يُعاد من خلالها رسم شكل النظام وفق المقاسات المطلوبة دوليًا.
لقد شكّل "طوفان الأقصى" صدمة استراتيجية أربكت الحسابات الغربية والإسرائيلية، وأعادت خلط أوراق مشروع "الشرق الأوسط الجديد" الذي سعت القوى الغربية، منذ بداية الألفية، إلى فرضه على المنطقة وفق تصوّرات تُعيد رسم الجغرافيا السياسية على أسس جديدة من التبعية والتطبيع والتفكيك. فقد كشفت العملية عن حدود القوة العسكرية الإسرائيلية، وهشاشة منظومة الردع الغربية أمام إرادة الشعوب وقوى المقاومة. كما عرّت وهم الاستقرار الذي بُني على تغييب القضية الفلسطينية وتهميشها، لتُعيدها إلى صدارة المشهد بصفتها جوهر الصراع في المنطقة. وهكذا، بدلاً من أن تُفضي هندسة الشرق الأوسط إلى شرق خاضع ومطوّع، جاءت النتائج عكسية تمامًا، إذ عزز "طوفان الأقصى" من حضور رواية المقاومة، وفتح الباب واسعًا أمام مراجعة شاملة لمشروع الغرب في المنطقة.
باحثة تونسية في العلوم القانونية والسياسية.