"الصناديق السوداء" بَين مطرقة حكامة التدبير وسندان تبذير المال العام
مع دنو موعد إعداد مشروع الميزانية السنوية، يتجدد الحديث عن الحسابات الخصوصية أو "الصناديق السوداء"، وفي كل مرة تتزايد مطالب إدراج هذه "الصناديق" تحت الرقابة البرلمانية، حتى يكون معلوما لدى المؤسسة التشريعية وعبرها الرأي العام كيفيات تمويلها وأوجه صرف ملايير الدراهم التي ترصد لها.
وبالرغم من تراجع عددها في قانون مالية 2019 إلى 67 حسابا خصوصيا، رصدت لها ما يقارب الـ85 مليار درهم، بعدما كان عددها سنة 2001 يصل إلى 156 حسابا خصوصيا، إلا أنها لا تزال تشكل مصدرا للبوليميك السياسي، بين الأغلبية الحكومية والمعارضة تارة، وبين الفاعلين المجتمعيين من هيئات حقوقية ونقابية ووسائل إعلام تارات أخرى.
فما بين قائل بأنها حسابات خصوصية منظمة بقانون ولها ضوابط ومساطر، وبين قائل بأن تسمية الصناديق السوداء بـ"الحسابات الخصوصية" ما هو إلا حق أريد به باطل، وأن هذه الصناديق هي في واقع الأمر تجسيد للفساد المستشري في المؤسسات العمومية والقطاعات الحكومية التي تدبر هذه الحسابات/الصناديق. ينتظر أن يعود ذات النقاش، وربما بحدة أكبر، إلى الواجهة في الأسابيع والأشهر المقبلة خصوصا مع قرب تعيين اللجنة التي ستكلف ببلورة التصور الخاص بالنموذج التنموي الجديد.
حزم في الرقابة أم شكليات قانونية؟
يرى الأستاذ الجامعي والخبير المحاسباتي المهدي فقير أنه لا وجود لما يسمى بـ"الصناديق السوداء"، وأن الأصل في التسمية هو الحسابات الخصوصية، وهي حسابات يصادق عليها في إطار الميزانية العامة للدولة، مشيرا إلى أن عملية إحداث هذه الحسابات وإغلاقها لا تتم وفق مضامين القانون التنظيمي للمالية العمومية، مما يعني أن كيفيات تمويلها وصرف الميزانيات المرصودة لها يكون معلوما ومضبوطا بمساطر ووثائق وآليات رقابة وتتبع.
مؤكدا في تصريح لـ"الصحيفة" أن هذه الحسابات تخضع في تسييرها لمسطرة جد مستقلة، وأنه لا وجود لأي رئيس مؤسسة عمومية يستيقظ صباحا ويجد مبلغا بالملايين رهن إشارته لصرفه في ذلك اليوم دون حسيب أو رقيب. مستدركا بالقول إن تدبير هذه الحسابات يتم من طرف المسؤول الذي توجد تحت مسؤوليته باستقلالية، بشرط أن يُقدِّم جميع الوثائق الثبوتية التي تبين أوجه صرف هذه الميزانية بالتفصيل، "وهنا يأتي دور المجلس الأعلى للحسابات والمفتشية العامة للمالية والمفتشيات الترابية للمالية، كما أن هناك قانون التصفية، ناهيك عن الخُزَّان الاقليميون والخازن العام للملكة والذين يثبتون مع كل عملية صرامة كبيرة بخصوص أوجه صرف أموال هذه الحسابات ومدى قانونية الوثائق المدلى بها"، يقول الخبير المحاسباتي.
من جهته أكد عبد الرفيع العلمي الناشط المدني في مجال رصد وتتبع المالية العمومية على أن كل الإجراءات القانونية الحالية لا تمنع المسؤول الفاسد من التلاعب بالوثائق من أجل تبرير مصاريف لا وجود لها في الواقع، مشيرا إلى أن بعض المسؤولين يستقدمون خبراء محاسباتيين من القطاعين العام والخاص للعمل إلى جانبهم لقدرتهم على تطويع القانون بالوثائق، وتبرير تلك المصاريف الخاصة من المالية العامة التي تمول منها "الصناديق السوداء".
وبخصوص مدى أهمية استمرار الاعتماد على هذه الصناديق/الحسابات خلال السنوات المقبلة، أكد العلمي أن المسؤولية ملقاة على عاتق اللجنة الملكية التي سيعهد لها أمر إعداد التصور الخاص بالنموذج التنموي، وسيكون من غير العادل أن ينطلق المغرب في العشرينية الثانية من حكم الملك محمد السادس باستمرار تكديس ملايير الدراهم في حسابات وصناديق ولا يتم استثمارها في القطاعات الاجتماعية أو ذات الأولوية.
ملايير مع وقف التنفيذ..
التقرير السنوي للمجلس الأعلى للقضاء الذي عُرض أمام البرلمان لمناقشته مع مستهل يونيو من سنة 2017، كشف أن ملايير الدراهم المرصودة للحسابات الخصوصية تظل جامدة ولا تُصرف نسب مهمة منها، وذلك بالرغم من الحاجة الماسة إليها في مجالات اجتماعية كالصحة والتعليم وغيرها، مطالبا وزارة المالية بإجراء دراسة بخصوص مدى نجاعة الحسابات الخصوصية ومستوى أدائها، وذلك بعد ما كشف عنه ذات التقرير من اختلالات في طريقة تدبير هذه الحسابات.
في ذات السياق استحضر عبد الرفيع العلمي المثل الشعبي القائل: "المال السايب كايعلم السرقة"، في إشارة إلى أن الملايير التي يتم رصدها لهذه الصناديق السوداء لا رقابة عليها غير الإجراءات المحاسباتية الروتينية المتعلقة بمراجعة الوثائق التي تثبت أوجه صرف تلك الميزانيات، وذلك دون الوقوف عند حكامة صرفها وغاية وجدوى كل عملية ومدى خدمتها للصالح العام.
ضاربا المثال بحالات عديدة من الصعب إثبات نوايا وخلفيات صرف تلك الأموال فيها، مثل ما يتم تخصيصه من مبالغ مهمة لدعم أجور الموظفين والخبراء في الدواوين، والمكافآت المالية والعينية التي يتم توزيعها بمناسبة وبدونها. ناهيك، يضيف ذات المتحدث، عن فواتير الاستقبالات والحفلات التي في حالات كثيرة تكون ذات طابع عائلي أو حزبي، لكن ميزانيات القطاعات الحكومية أو المؤسسات العمومية وما لها من صناديق سوداء هي من تتحمل تلك التكاليف، هذا دون إغفال الهدايا الفاخرة التي يتنافس عدد من المسؤولين في رفاهيتها، ويحددون هم أنفسهم قوائم المؤسسات والهيآت والأشخاص الذين سيتوصلون بها، وذلك بحسب درجة القرب منهم وتشابك العلاقات والمصالح فيما بينهم.
ليظل واقع الحال يؤكد أن هذه الاعتمادات المالية المخصصة للحسابات الخصوصية ذات الأهداف والغايات المحددة، تصرف في غير ما رُصِدت لأجله، وهو ما يستدعي التعجيل بتحيين القوانين المنظمة والرفع من آليات التتبع والرقابة بما يضمن الحكامة في صرف وحسن استثمار هذه الميزانيات وسلاسة إعادة جدولتها وتحويلها لقطاعات ذات أولوية أكبر.
فواتير سوداء..
وقد استفاق الرأي العام الوطني غير ما مرة على حالات تعسف في صرف ميزانيات هذه "الصناديق السوداء"، والأكيد أن الجميع يتذكر ما رافق تسريب عقد كراء وزير الشباب والرياضة في حكومة عباس الفاسي، منصف بلخياط، من نقاش عمومي بعدما تبين أنه أقدم على اكتراء سيارة من نوع "أَوْدِي A8" لتنقلاته.
حيث تبين أن قيمة الصفقة التي كشف عنها عقد الكراء الموقع بين الوزارة والشركة المعنية، تصل إلى مجموع يعادل الـ3،24 مليون درهم على امتداد ثلاث سنوات التي حددها العقد.
ثـم "فاتورة الشوكولاته" التي شغلت الرأي العام، حين تسرب للأعلام أداء الوزير عبد العظيم الگروج، عن حزب الحركة الشعبية، فاتورة شوكولاته لحفل عقيقة ابنه بقيمة 40 ألف درهم من ميزانية وزارة الوظيفة العمومية وتحديث الإدارة التي كان يرأسها خلال النسخة الأولى من حكومة عبد الإله بنكيران.
وأخيرا وليس آخرا، ما كشفت عنه التحقيقات التي باشرتها لجنة المراقبة التابعة لهيئة مراقبة التأمينات والاحتياط الاجتماعي "أكابس"، حين شرعت في افتحاص فواتير الجموع العامة للتعاضدية العامة لموظفي الإدارات العمومية، ومن بينها الفاتورة "الضخمة" الخاصة بالجمع العام الـ69 المنعقد بمدينة ورزازات. وما تلا ذلك من سلسلة فضائح مرتبطة بتدبير التعاضدية العامة لموظفي الإدارات العمومية.
هو غيض من فيض من حلالات، وغيرها كثير، تبذير يطال المال العام يكشف تلبس أو شبهة استبداد المسؤول في صرف الميزانيات العمومية سواء تلك المرتبطة بميزانيات القطاعات الحكومية أو المؤسسات العمومية أو تلك ذات الارتباط المباشر بالحسابات الخصوصية التي اشتهر جزء منها باسم "الصناديق السوداء".