المغرب يفتح بوابة جديدة للصناعة البحرية.. مشروع ضخم لحوض بناء السفن الأكبر في إفريقيا وسباق نحو السيادة الصناعية
في خطوة طموحة تعكس توجه المملكة نحو تعزيز سيادتها الصناعية والاقتصادية، أطلق المغرب مناقصة دولية لتشغيل أكبر حوض لبناء وصيانة السفن في القارة الإفريقية، يقع في ميناء مدينة الدار البيضاء، وهي المنشأة البحرية العملاقة، التي استثمرت فيها الدولة نحو 300 مليون دولار، وتمثل رهانًا استراتيجيًا جديدًا يعكس إرادة المملكة في تكرار نجاحها في قطاع السيارات، ولكن هذه المرة من بوابة الصناعات البحرية، في وقت تشتد فيه المنافسة العالمية على تموقعات الصناعة الثقيلة، وتتعاظم فيه أهمية استقلالية الدول في القطاعات الاستراتيجية.
ويدخل المغرب مرحلة جديدة من مشروعه الصناعي الطموح بإطلاقه مناقصة دولية لتشغيل أكبر حوض لبناء وصيانة السفن في إفريقيا، وهو المشروع الذي يمتد على أكثر من 52 فدانًا في قلب مدينة الدار البيضاء، يرسم معالم تحوّل جذري في السياسة الصناعية للمملكة، ويؤكد سعيها الجاد نحو تنويع قاعدتها الإنتاجية، وتقليص التبعية الاقتصادية، وتحقيق نوع من السيادة البحرية والصناعية في آن واحد.
من السيارات إلى السفن.. نفس الرهان، طموح متجدد
نجح المغرب خلال العقدين الأخيرين في تحويل نفسه إلى منصة صناعية إقليمية رائدة، لاسيما في قطاع السيارات، حيث أصبح أكبر مصدر لها في إفريقيا، وقد تحقق هذا الإنجاز بفضل استثمارات ضخمة من قبل شركات عملاقة مثل "رينو" و"ستيلانتس"، التي اختارت الاستقرار في المملكة بالنظر إلى تكاليف الإنتاج التنافسية، والاستقرار السياسي، والبنية التحتية المتطورة، خصوصًا في مجال الموانئ واللوجستيك، فيما اليوم، تسعى المملكة لتكرار هذا النموذج الناجح، ولكن في مجال أكثر تعقيدًا وخصوصية هو الصناعات البحرية، عبر بوابة أحواض بناء وصيانة السفن.
وأطلقت الوكالة الوطنية للموانئ، خلال الأسبوع الجاري مناقصة موجهة للمشغلين الدوليين ذوي الخبرة، قصد تطوير وتجهيز واستغلال هذا الحوض الضخم لمدة ثلاثين عامًا.
المنشأة التي تطل على الواجهة الأطلسية، تم بناؤها بكلفة تقديرية تناهز 300 مليون دولار، وستكون قادرة على استقبال وإصلاح مختلف أنواع السفن، من سفن الشحن التجارية إلى البوارج العسكرية، مرورًا بـ سفن الصيد، وهي مجهزة بحوض جاف يبلغ طوله 244 متراً وعرضه 40 متراً، إضافة إلى مصعد عمودي ضخم قادر على رفع سفن بوزن يصل إلى 9000 طن، مما يجعلها واحدة من أكثر المنشآت البحرية تطورًا في المنطقة.
المغرب يعيد رسم خرائط الصناعة البحرية جنوب المتوسط
من الواضح أن المشروع المغربي لا يقتصر على تلبية الاحتياجات المحلية في مجال صيانة وإصلاح السفن، بل يتجاوز ذلك ليحمل أبعادًا إقليمية ودولية، ويضع المملكة في موقع منافس مباشر لأحواض السفن الكبرى في جنوب أوروبا، مثل تلك المتواجدة في إسبانيا وإيطاليا واليونان، والتي باتت تعاني من ضغط كبير بفعل تزايد الطلب، وارتفاع تكاليف التشغيل، ونقص اليد العاملة المؤهلة، فالمغرب يسعى لاقتناص هذا الهامش التجاري الدولي، عبر تقديم خدمات ذات جودة عالمية بتكلفة أقل وبأجندة زمنية أسرع، وهو ما يجعل منه وجهة مغرية لشركات الشحن البحري التي تبحث عن بدائل عملية وسريعة دون المساس بمعايير الجودة والسلامة.
وفي هذا السياق، تلعب الموقع الجغرافي الاستثنائي للمملكة دورًا محوريًا فهي تتربع على مفترق بحري استراتيجي يربط بين ضفتي الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط، وتشرف على أهم الممرات البحرية الدولية، خصوصًا في مضيق جبل طارق هذا الموقع يجعل من المغرب ليس فقط ممراً تجارياً، بل نقطة ارتكاز مثالية للخدمات البحرية العابرة للقارات.
إضافة إلى ذلك، يمتلك المغرب اليوم شبكة مينائية متطورة تؤهله لمنافسة أبرز الفاعلين في المجال، على رأسها ميناء طنجة المتوسط، الذي يُصنف ضمن أكبر الموانئ في العالم من حيث الربط البحري، إلى جانب موانئ الدار البيضاء، أكادير، الداخلة والناظور غرب المتوسط قيد الإنشاء، وهي جميعها توفر بنية استقبال قوية ومنظومة لوجستيكية متقدمة.
كما لا يمكن إغفال الدينامية الاستثمارية المغربية في ما يتعلق بتحفيز المستثمرين الأجانب، من خلال تقديم تسهيلات ضريبية، وتبسيط الإجراءات الإدارية، وتوفير مناطق صناعية خاصة بالقرب من الموانئ كل هذه الحوافز تجعل التكلفة التشغيلية في المغرب أقل بكثير مقارنة مع نظيراتها في أوروبا الغربية، في ظل ارتفاع تكاليف الطاقة واليد العاملة هناك.
وفي أفق استكمال هذه الحلقة الصناعية، يسعى المغرب إلى ترسيخ موقعه كـ"محطة صناعية وخدماتية أولى" للسفن الإفريقية المتجهة إلى أوروبا أو العائدة منها" فعدد كبير من السفن التجارية العابرة بين إفريقيا وأوروبا تمر بالضرورة عبر المياه الإقليمية المغربية، وهو ما يمنح المملكة فرصة ثمينة لتقديم خدمات الصيانة والإصلاح والتزود، دون الحاجة إلى التوجه نحو موانئ أوروبا.
ويرمي المغرب إلى خلف منظومة تكاملية ذكية، لتحويل المملكة إلى حلقة وصل صناعية بين الجنوب والشمال، واستثمار موقعه في خدمة اقتصاده، عبر جذب شركات الشحن والتصدير والخدمات البحرية متعددة الجنسيات التي تبحث عن مواقع أكثر مرونة وجودة وأقل تكلفة وهو ما يُعيد، تدريجيًا، رسم خرائط النفوذ الصناعي واللوجستي جنوب المتوسط، مع ميل الكفة نحو الجنوب، وتحديدًا نحو المغرب.
وفي هذا الإطار، يرى الخبير في الاقتصاد البحري والجيو-استراتيجية اللوجستيك، عادل الرهوني، أن المشروع يعكس تحركًا استباقيًا من المغرب لاحتلال موقع متقدم في سلاسل القيمة المرتبطة بالصناعات البحرية، قائلاً: "إن إنشاء أكبر حوض لبناء وصيانة السفن في إفريقيا، وتوجيهه نحو جذب الطلب الأوروبي والإفريقي معًا، يضع المغرب أمام فرصة تاريخية لفرض نفسه كفاعل لوجستي وصناعي لا غنى عنه جنوب المتوسط. نحن نشهد بداية تحول نوعي، حيث لم يعد المغرب مجرد معبر تجاري، بل فاعلًا يقدم خدمات أساسية ذات طابع صناعي وتقني عالي القيمة."
ويضيف الرهوني في تصريح للصحيفة: "الموقع الجغرافي وحده لم يعد كافيًا في معادلات السوق الدولية، ما يميز المغرب اليوم هو تكامله بين البنية التحتية المينائية، والقدرات الصناعية، والإطار التشريعي المحفز. وهذا ما يسمح له ليس فقط بمنافسة أحواض أوروبا المشبعة، بل حتى باستقطاب طلب دول الجنوب، خاصة من بلدان غرب إفريقيا التي تبحث عن شركاء صناعيين قريبين ومتعاونين."
ويختم الخبير تصريحه بالتأكيد على أن: "هذا النوع من المشاريع لا يعزز فقط التنافسية الاقتصادية للمغرب، بل يرفع من مناعته الجيو-استراتيجية، ويُمكّنه من لعب أدوار جديدة في موازين القوى الإقليمية، خصوصًا في ظل تزايد أهمية البُعد البحري في الأمن والاقتصاد الدوليين."
سيادة بحرية وتقليص الفاتورة بالعملة الصعبة
من بين الأهداف الأساسية لهذا المشروع، وفق عبد اللطيف لهواوي، مدير التواصل في الوكالة الوطنية للموانئ تقليص اعتماد المغرب على الخارج في ما يتعلق بـ صيانة وإصلاح السفن العسكرية، فالقيام بهذه العمليات في الخارج لا يُثقل فقط الميزانية العامة، بل يُبقي على هشاشة سيادية في مجال حساس كالدفاع، والحوض الجديد سيمكن من تنفيذ هذه العمليات داخل التراب الوطني، وبالتالي توفير العملة الصعبة وتعزيز الاستقلالية الصناعية.
ويكتسي هذا البُعد أهمية مضاعفة، خصوصًا في سياق عجز تجاري مزمن تعاني منه المملكة، وسعي الحكومة إلى التحضير لمرحلة جديدة من تحرير سعر صرف الدرهم المغربي في أفق عام 2026، ما يجعل التحكم في النفقات الخارجية أحد الأولويات الاستراتيجية للمرحلة المقبلة.
ودفتر الشروط الذي طرحته الوكالة الوطنية للموانئ، يفتح الباب أمام الشركات المتنافسة لتقديم مقترحات تتجاوز التشغيل والصيانة، وتشمل حتى إمكانية بناء السفن محليًا، وهو ما وصفه لهواوي في تصريح لموقع "بلومبرغ" بـ"النشاط المتخصص"، مضيفًا: "نريد أن نكرر قصة نجاح صناعة السيارات، ولكن هذه المرة في قطاع السفن".
زيارة رسمية إلى كوريا الجنوبية.. استلهام من عمالقة الصناعة
في سياق موازٍ يعكس حرص المغرب على مواكبة التكنولوجيات العالمية المتقدمة، يقوم وزير الصناعة والتجارة رياض مزور بزيارة رسمية إلى كوريا الجنوبية، حيث حل بمدينة أولسان، موطن أكبر حوض لبناء السفن في العالم، ورافقه خلال هذه الجولة كل من سانغ-كيون لي، الرئيس التنفيذي لشركة هيونداي للصناعات الثقيلة (HHI)، ويونغ-يول بارك، نائب الرئيس التنفيذي، حيث ناقش الطرفان آفاق التعاون بين المغرب وكوريا في مجالات صناعة السفن والطاقة البحرية والتصنيع المتقدم.
الوزير المغربي وصف الزيارة بأنها "فرصة ثمينة لتعزيز التعاون الصناعي"، مؤكدًا أن المغرب يرى في كوريا نموذجًا صناعيًا يُحتذى، ويطمح إلى الاستفادة من خبراتها المتقدمة، سواء في صناعة السفن أو الطاقة النظيفة والرقمنة الصناعية.
ولا تنحصر مجالات الشراكة المغربية الكورية في الصناعة البحرية فقط، بل تشمل أيضًا النقل السككي، حيث فازت شركة هيونداي روتيم بصفقة ضخمة لتزويد المكتب الوطني للسكك الحديدية بـ قطارات ذات طابقين، بقيمة مالية تقارب 1.54 مليار دولار (ما يعادل 2.2 تريليون وون كوري).
وتم التوقيع على اتفاقية التمويل مع بنك التصدير والاستيراد الكوري، بحضور المدير العام للمكتب الوطني للسكك الحديدية محمد ربيع الخليع، وذلك في إطار استراتيجية المغرب لتوسيع وتحديث شبكته السككية، وتوفير قطارات سريعة وعالية الكثافة تستجيب للطلب المتزايد على النقل الحضري وشبه الحضري.
المغرب يُرسخ مكانته كفاعل صناعي إقليمي
وما بين حوض السفن العملاق، وصفقات السكك الحديدية، والانفتاح على الشراكات الآسيوية المتقدمة، يبدو أن المغرب لا يراهن فقط على جلب الاستثمارات، بل على تحول بنيوي في نمط اقتصاده الصناعي فقد أصبح جليًا أن المملكة تُخطط لتكون ليس فقط منصّة إنتاج، بل أيضًا مركزًا إقليميًا لتطوير وتصدير التكنولوجيا والخدمات ذات القيمة المضافة، سيما في عالم يتسم بتوترات جيوسياسية وتقلّبات اقتصادية متسارعة، تجعل أن استثمار المغرب في الصناعات الاستراتيجية – مثل بناء السفن – لا يُعد ترفًا تنمويًا، بل خيارًا استباقيًا لتأمين موقعه ضمن خرائط النفوذ الإقليمي والصناعي الجديدة.
وفي تعليقه على الخطوة المغربية، قال الخبير الاقتصادي والمحلل الصناعي ياسين بنعيسى، الأستاذ في المعهد العالي للتجارة وإدارة المقاولات "إن مشروع الحوض البحري بالدار البيضاء يعكس إدراك المغرب لأهمية الصناعات الثقيلة، وعلى رأسها الصناعات البحرية، كركيزة للتموقع الجيو-اقتصادي وتعزيز الأمن الصناعي الوطني في ظل تزايد التحديات البحرية المرتبطة بالتجارة والأمن، يصبح امتلاك بنية تحتية متقدمة لصيانة وبناء السفن، ليس مجرد خيار اقتصادي، بل ضرورة استراتيجية."
وأضاف بنعيسى في تصريح لـ"الصحيفة": "المغرب يحاول من خلال هذا المشروع أن يملأ فراغًا إقليميًا واضحًا في سوق خدمات السفن، ويستفيد من موقعه الجغرافي المثالي على مفترق طرق بحرية تربط أوروبا بإفريقيا وأمريكا كما أن انفتاحه على الشراكات مع بلدان ككوريا الجنوبية، المعروفة بريادتها في صناعة السفن، يعزز فرص نقل التكنولوجيا والتكوين مما قد يُسرع من بناء منظومة بحرية متكاملة."
وختم تصريحه بالتأكيد على أن: "إذا واكب هذا المشروع إصلاحات في التكوين المهني البحري، وتوفير بيئة أعمال مرنة وجاذبة، فإن المغرب سيكون في موقع جيد ليُنافس ليس فقط على الصعيد الإفريقي، بل حتى في أسواق البحر الأبيض المتوسط وأطلسي غرب أوروبا."
تعليقات
بإمكانكم تغيير ترتيب الآراء حسب الاختيارات أسفله :