النفوذ المتآكل.. كيف حاول عطّاف صناعة سردية جزائرية خاصة بالقرار الأممي الأخير حول الصحراء
منذ بداية نونبر، وحتى قبل أن تهدأ ارتدادات قرار مجلس الأمن الأخير حول الصحراء، اتخذت الدبلوماسية الجزائرية نبرة دفاعية مغايرة لما ألفته المنطقة، فالوزير أحمد عطاف، الذي ظهر في ندوة صحافية بالجزائر أمس الثلاثاء ليعلن استعداد بلاده لـ"دعم أي مبادرة وساطة" بين البوليساريو والمغرب "ضمن الإطار الأممي" كان يبدو كما لو أنه يتحدث بلغة تعود إلى زمن آخر سابق لتاريخ 31 أكتوبر الماضي، حين منح مجلس الأمن لأول مرة، شرعية واضحة لمبادرة الحكم الذاتي المغربية باعتبارها "الحل الأكثر قابلية للتحقق".
ومنذ يوم 31 أكتوبر، أصبح النزاع حول الصحراء يتحرك في هندسة دولية جديدة لم تعد تُلائم السردية الجزائريّة التي تشكلت خلال العقود الخمسة الماضية، حين كان الحديث عن "تقرير المصير" يقدَّم باعتباره القاعدة الصلبة التي لا يمكن لأي وساطة أن تتجاوزها، فيما هذا التحول الأممي أعاد صياغة قواعد اللعبة التي حكمت النزاع منذ سنة 1975، بل انتقل إلى تقييم الحلول الواقعية، مع تأكيد صريح على أولوية المقاربة المغربية.
وبالتالي، فإن ما تغيّر ليس النص فقط، بل الفلسفة التي تقف خلفه، وهو ما تدركه العواصم الكبرى التي صوّتت لصالح القرار، وتدركه الجزائر نفسها التي وجدت نفسها أمام لحظة دولية لم تعد تسمح بإعادة تدوير خطاب "تقرير المصير" بصيغته القديمة.
وساطة في لحظة تراجع النفوذ
حين تقترح الجزائر وساطة بين طرفين، وهي نفسها طرف ثالث معلن في نزاعهما، يظهر واضحا أن الخطاب لم يعد يطمح إلى التأثير بقدر ما يسعى إلى البقاء داخل المشهد فمنذ أن قطعت الجزائر علاقاتها مع الرباط سنة 2021، وتبنّت خطابا عدائيا صريحا تجاه المغرب، لم يعد وضعها يسمح بالحديث عن "مسافة" أو "حياد".
ومع ذلك، أعلنت الجزائر الاستعداد للوساطة أمس الثلاثاء، بقول عطاف خلال ندوة صحافية "لن تدّخر الجزائر أي جهد لدعم أي مبادرة وساطة بين طرفَي النزاع إذا كانت تندرج في الإطار الأممي" ويجب أن تسفر أي وساطة محتملة، بحسب قوله، "عن حل عادل ودائم ونهائي لقضية الصحراء" يكون "متوافقا مع قرارات الأمم المتحدة".
ويأتي ذلك، في سياق تحوّل أعمّ، بعدما تحولت الأمم المتحدة من هندسة "حل قانوني" إلى البحث عن "حل عملي" وتحوّلت العواصم الكبرى من تسوية "نزاع إقليمي" إلى ضبط "منطقة استراتيجية" تمتد من المتوسط إلى الساحل.
والمفارقة هنا، أنّ الجزائر تعلن الوساطة في لحظة يبدو فيها النفوذ الإقليمي المغربي أعلى من أي وقت مضى من خلال اتفاقيات دفاع مشتركة، شراكات اقتصادية مع الاتحاد الأوروبي، حضور قوي في الساحل، انفتاح إفريقي متزايد، واعترافات متلاحقة بسيادة المغرب على الصحراء فيما وأمام هذا الزخم، تبدو الوساطة الجزائرية أشبه بتصريح رمزي، محاولة لترميم دورٍ لم يعد قابلا للاستعادة.
تفنيد ادعاءات "المكاسب" التي تحدث عنها عطاف
وحين أكد عطاف أن القرار الأممي حقق "مكاسب كبرى" للبوليساريو، فإن القراءة الدقيقة لمضامين القرار تثبت العكس القرار الأممي الذي يزعج الجزائر، عمليا انتقل من منطق "التفاوض المفتوح" إلى منطق "الحل القابل للتحقق"، حيث أقرّ بحكمٍ ذاتي واسع تحت السيادة المغربية باعتباره الخيار الأكثر واقعية، مع تجاهل شبه كامل لسيناريو "الاستفتاء".
هذا، ووُجّه من مجلس الأمن إلى الأطراف دعوة للعودة إلى المفاوضات على أساس "حل سياسي واقعي وعملي ودائم"، وبالتالي لم تُحقق الجزائر ما اعتبرته "انتصارا" حين قالت إن المجلس لم يعتبر الحكم الذاتي "الأساس الوحيد للمفاوضات" فالمجالس الأممية لا تُدرج عادة كلمة "وحيد" في النصوص حفاظا على طابع التوافق، لكن الجوهر بقي ثابتا هو أن الحكم الذاتي هو الحل الذي يعتبره المجلس قابلا للتحقق، فيما باقي السيناريوهات تُذكر شكليا دون أن تكون محل اشتغال عملي.
والأهم أنّ الدول التي امتنعت عن التصويت وهي الصين وروسيا وباكستان لم تعارض القرار، بل اختارت موقفا وسطا يجنّبها التصادم مع واشنطن وباريس ومدريد، ويعكس إدراكا بأنّ الزمن الدولي لم يعد يحتمل الاستثمار في نزاع طويل الأمد يُهدّد استقرار شمال إفريقيا والساحل معا.
"المينورسو" والاستفتاء.. سردية متآكلة
حين تحدث عطاف عن "مكسب" تجديد ولاية المينورسو، فقد قدّمها كما لو أنها إعادة إحياء مشروع الاستفتاء، بدا واضحا أن الخطاب يوظّف ذاكرة نصية تعود إلى 1991 وليس إلى 2025، فمنذ 20 عاما، تحوّلت وظيفة المينورسو من "التحضير للاستفتاء" إلى "حفظ وقف إطلاق النار" ومواكبة الجهود السياسية وجميع الأمناء العامين للأمم المتحدة كوفي عنان، بان كي مون، أنطونيو غوتيريش أكدوا في تقارير متتالية استحالة تنفيذ الاستفتاء وضرورة البحث عن حل سياسي واقعي.
أما التشبث الجزائري بالمينورسو بوصفها "بعثة الاستفتاء" فهو محاولة لإعادة تنشيط جزء من الخطاب الرسمي الذي تبخّر مع الزمن، وهو خطاب لم يعد يجد صدى داخل دوائر صنع القرار الدولية. فالعواصم المؤثرة ترى في الاستفتاء سيناريو غير قابل للتحقق تقنيا وسياسيا وديمغرافيا، وتدرك أن الإصرار عليه لا يخدم إلا إطالة أمد الجمود.
الزمن الدولي تغيّر… والجزائر ما زالت في خطاب السبعينات
التحول الذي حدث في 31 أكتوبر لم يكن تحوّلا لغويا فقط، بل تحوّلا في ميزان القوى الدولي. فالمغرب، الذي نجح في عقد تحالفات واسعة، من واشنطن ولندن إلى مدريد وبرلين، بات يُنظر إليه كشريك استراتيجي في قضايا الطاقة، الأمن، مكافحة الإرهاب، والهجرة.
في المقابل، تواجه الجزائر عزلة متزايدة في الساحل حيث انهارت شبكات نفوذها التقليدية، وارتباكا داخليا منذ 2019 جعل المؤسسة العسكرية تبحث عن "عدو خارجي" يعيد لخطابها شرعية كانت تتآكل.
في هذا السياق، يصبح ملف الصحراء أداة داخلية بقدر ما هي ملف خارجي لكن المشكل يكمن في أنّ العالم لم يعد يتعاطى مع هذا النوع من السرديات فالعواصم تبحث عن استقرار إقليمي، خطوط أنابيب طاقة، شراكات استراتيجية، وتأثير فعلي على قضايا الساحل والنزاع الذي يُعطّل هذه المقاربات لم يعد مرغوبا فيه.
ماذا يعني قرار 31 أكتوبر؟
يعني أربع نقاط مركزية في مقدمتها اعتراف أممي ضمني بسيادة المغرب، عبر التركيز على الحكم الذاتي باعتباره الحل الأكثر واقعية، وانهيار عملي لسردية الاستفتاء التي تعتمد عليها الجزائر، مع تحييد سياسي للبوليساريو رغم استمرار ذكرها بروتوكوليا، وكذا إعادة تموضع استراتيجي للمنطقة يجعل المغرب فاعلا مركزيا في الشراكات الدولية.
وفي ظل هذا التحول، يصبح ما يقوله عطاف محاولة لملء الفراغ الذي أحدثه القرار وإعادة صياغة صورة الجزائر باعتبارها "فاعل وسطي" في وقت باتت فيه أقرب إلى طرف مباشر في النزاع.
ومن هذا، تُدرك الجزائر أن ما بعد 31 أكتوبر ليس كما قبله فالتوازن القديم الذي ظلّ قائما لعقود، والذي كان يسمح لها بتوجيه سردية النزاع لم يعد صامدا ليس لأن المغرب حقق انتصارا دبلوماسيا فقط، بل لأن المسرح الدولي تغيّر بكامله وأوروبا تبحث عن شركاء مستقرين، الساحل يبحث عن معادلات أمنية جديدة، والولايات المتحدة تعيد رسم هندسة القوى في شمال إفريقيا.
وفي هذا المشهد، تظلّ تصريحات عطاف محاولة لإعادة إنتاج سردية فقدت شروط بقائها الموضوعية وخطابٌ يدافع عن الماضي بينما يتقدم العالم نحو حل سياسي يأخذ أشكالا عملية واضحة وهي حكم ذاتي واسع داخل السيادة المغربية.
وهذا هو السياق الذي يجعل الجزائر اليوم، رغم صخب تصريحاتها في موقع المتلقي أكثر من موقع الفاعل، وفي مواجهة زمن دولي لم يعد يشبه السردية التي بنت عليها مسارها الدبلوماسي لنصف قرن.




