
تأملات في الموقف الإسباني من أحداث غزة وعلاقته بالمغرب
"برز الثعلب يوما في ثياب الواعظين... فمشى في الأرض يزهو ويسب الماكرين". هكذا افتتح أمير الشعراء أحمد شوقي قصيدته الخالدة التي رسخت في وجداننا منذ أيام الدراسة الابتدائية، محذرا من تلون الحرباءين وخبث المتكلمين باسم الفضيلة. واليوم وأثناء متابعتي لتحول لهجة الخطاب الرسمي الإسباني تجاه جرائم الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في غزة، لم أجد أبلغ من هذه الأبيات لاستحضار المفارقة الصارخة التي نعيشها.
فإسبانيا، التي تهاجم إسرائيل باسم القيم الإنسانية، لا تزال هي نفسها الدولة التي تحتل بشكل سافر سبتة، مليلية والجزر الجعفرية... المغربية وهي ذاتها التي خلفت وراءها سجلا استعماريا بشعا في أمريكا اللاتينية، وقصفت المدنيين بالغازات السامة في الريف المغربي خلال القرن العشرين. فهل يعقل أن تتحول فجأة إلى منارة لحقوق الإنسان؟!!!
ما يثير الاستغراب حقا هو انسياق بعض ذوي النوايا الحسنة في المغرب وحتى في العالم العربي خلف هذا الخطاب الإسباني، دون تمحيص في خلفياته وأهدافه. ذلك أن مواقف مدريد، وإن بدت في ظاهرها متضامنة مع الضحايا، تخفي في جوهرها رهانات جيوسياسية دقيقة، وتستبطن في طياتها قلقا متزايدا من تقارب الرباط مع تل أبيب في إطار اتفاقيات أبراهام.
هذا المقال لا يسعى إلى التشكيك في نبالة التضامن مع الشعب الفلسطيني، بل إلى قراءة أعمق في خلفيات الخطاب الإسباني، وموقعه داخل معادلة إقليمية متشابكة تجمع المغرب وفلسطين من جهة وإسبانيا وإسرائيل من جهة ثانية...، ضمن لعبة جيوسياسية واحدة.
يلاحظ في الآونة الأخيرة، أن النبرة الرسمية لإسبانيا أكثر حدة في إدانتها للجرائم الإسرائيلية في غزة، فقد صرحت وزيرة الحقوق الاجتماعية الإسبانية السابقة ورئيسة حزب بوديموس، إيوني بيلارا، بشكل غير مسبوق أوروبيا أن "إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة" كما أن المتابع لخطابات رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز حول الوضع المأساوي في غزة لا يفرق بين خطابه وبين خطاب الساسة في إيران... ومهما كان الدافع، فإن هذا الموقف يعد في ظاهره محمودا من حيث المبدأ، ويستحق التثمين من منظور الدفاع عن القيم الإنسانية...
غير أن هذا التحول الظاهري في الخطاب يطرح تساؤلات جوهرية: هل دخلت إسبانيا فعلا طورا جديدا كدولة تناهض الاحتلال وتسعى بصدق إلى إحقاق العدالة الدولية؟!!!
إذا كانت مدريد جادة في التزاماتها الأخلاقية الجديدة، فإن أول امتحان لمصداقيتها يتمثل في إنهاء احتلالها للأراضي المغربية فالدولة التي لا تزال تحتفظ بمواقع استعمارية في دولة مجاورة لها، والتي خلفت وراءها سجلا دمويا في أمريكا الجنوبية وأبادت سكانها، ولا تزال ملاحقة أخلاقيا وتاريخيا بسبب استخدامها للأسلحة الكيماوية ضد المدنيين في الريف المغربي، لا يمكن أن تتحول بين عشية وضحاها إلى رمز للفضيلة الإنسانية دون إثارة الشكوك.
ما يجري إذن لا يبدو نابعا من صحوة ضمير، بل يدخل على الأرجح في إطار براغماتية جيوسياسية تتقن إسبانيا توظيفها في لحظات التوتر الإقليمي. فقد جاء هذا التبدل في المواقف بعد التطورات المتسارعة التي أعقبت توقيع اتفاقيات أبراهام 2020، وما صاحبها من تواتر تقارير وأخبار عن تعاون عسكري واستخباراتي مغربي-إسرائيلي، وعن إمكانية نقل تكنولوجيا دفاعية متقدمة للمغرب، فضلا عن نوايا بعض الشركات الإسرائيلية للتنقيب عن النفط في المياه الإقليمية جنوب المملكة... وهي أخبار وتقارير صادرة بالأساس عن الصحافة الإسبانية.
أمام هذه التحولات، يبدو أن إسبانيا بدأت تتحسس موازين القوى الجديدة في غرب المتوسط، ولم تتردد في استيراد البروباغندا الدعائية الجزائرية حول نفس الموضوع مع بعض التعديلات، وتصدير خطاب حقوقي مزدوج الغاية، ظاهره الإدانة الإنسانية، وباطنه الضغط الجيوسياسي على المغرب وإسرائيل. وهكذا، تلتقي مواقف بعض الساسة والخبراء ووسائل الإعلام الإسبانية مع الأجندة الجزائرية في محاولة لإرباك المغرب من خلال استغلال التناقضات الداخلية حول ملف التطبيع.
وهنا تتجلى واحدة من أكثر المعادلات تعقيدا في المشهد السياسي المغربي المعاصر فالمعارضون للتطبيع مع إسرائيل، بدوافع إنسانية وأخلاقية سامية ومشروعة، يجدون أنفسهم دون قصد في موقع تقاطع حساس مع حسابات خصوم المغرب الإقليميين، ممن يسعون إلى عرقلة أي تحول استراتيجي قد يغير موازين القوى في غرب المتوسط لصالح الرباط. إنهم يُستَثمرون كأدوات لإجهاض دينامية عسكرية وتكنولوجية ناشئة، قد تمنح المغرب نافذة تاريخية لتعزيز أمنه الاستراتيجي والدفاعي في بيئة إقليمية شديدة التقلب.
وتكتسب هذه المفارقة بعدا أكثر مرارة عندما نستحضر لحظة مشابهة في التاريخ السياسي المغربي القريب، فقد اختار المغاربة في بداية الاستقلال دعم القضية الجزائرية ومناصرة حركات التحرر، مفضلين الأخوة والنبل على حساب المصلحة المباشرة، ورافضين مقايضة الأراضي المغربية التي تحتلها فرنسا في الصحراء الشرقية بدعمهم النبيل لأشقائهم الجزائريين. وكان الثمن باهظا جدا جزء من ترابهم الوطني ضاع، ونكران للجميل بل وعداء سياسي وجغرافي لازال مستمرا حتى اليوم.
هذا الطرح لا ينبغي أن يُفهم مطلقا كدعوة لإيقاف المبادرات التضامنية مع غزة، بل الغاية منه فضح خلفيات بعض الخطابات والمواقف التي تستغل لتشويش الداخل وتشويه أولويات الدولة. ويبقى للقائمين على تنظيم الأنشطة التضامنية كامل الحرية في التقدير، في انسجام مع قناعاتهم ومسؤوليتهم الوطنية...
إن الرهان الإسباني لا يقوم على تحقيق العدالة الدولية، بل على توظيفها تكتيكيا لمواجهة صعود المغرب، وهو ما يجعل من النقد المشروع للجرائم الإسرائيلية سلاحا ذا حدين، حين يتم استغلاله في سياق استراتيجي يتجاوز قيم التضامن ويستهدف موازين القوى في المنطقة. ويمكن استخلاص التوجسات الإسبانية التي تدعم قولنا من خلال أراء الخبراء والصحافة الإسبانية.
فمنذ توقيع المغرب على اتفاقيات أبراهام، انطلقت الصحافة الإسبانية، بمختلف توجهاتها، في حملة رصد دقيقة ومتواصلة لمسار التعاون العسكري والاستخباراتي بين الرباط وتل أبيب. وقد خصصت كبريات الصحف الإسبانية مثل El Pais، وEl Mundo، وLa Vanguardia، وABC Defensa ... عشرات المقالات والتقارير التحليلية التي تجمع، في خطوطها العريضة، على أن هذا التقارب العسكري يشكل تهديدا استراتيجيا للأمن الإسباني، ويحدث تحولا جذريا في موازين القوى بشمال إفريقيا وغرب المتوسط.
والمثير أن هذه التغطية ليست هامشية ولا موسمية، بل تكاد تكون ممنهجة ومتكررة، وتشمل ملفات حساسة عادة ما يصعب الوصول إليها من الناحية الصحفية الصرفة. فبين الحين والآخر، تظهر تسريبات عن صفقات أسلحة متطورة، أو عن زيارة سرية لمسؤول عسكري إسرائيلي رفيع إلى الرباط، أو عن مفاوضات تجري خلف الأبواب المغلقة. وهي معلومات لا تنشر جزافا، ولا يبدو أنها من اجتهادات صحفيين استقصائيين بقدر ما تعكس، على الأرجح، توجيها استخباراتيا مقصودا يراد له أن يصل إلى جمهور معين داخل المغرب ليس فقط بهدف الإخبار، بل أيضا بهدف التأثير، وصياغة صورة إعلامية ضاغطة على صانع القرار المغربي.
وعلى غرار التناول الإعلامي الإسباني المكثف لملف التعاون المغربي-الإسرائيلي، عبّر عدد من الخبراء العسكريين والأمنيين الإسبان، في أكثر من مناسبة، عن قلقهم المتزايد من الدينامية الدفاعية الجديدة التي تشهدها المملكة المغربية. هذا القلق لا ينبع فقط من طابع التسليح، بل من دلالات التحول الاستراتيجي في توازن القوى بشمال إفريقيا، ومن طبيعة الشريك التقني الذي دخل على الخط.
ففي هذا السياق، حذر غوستافو دياز ماتاي، الخبير البارز في معهد إلكانو الملكي، من أن "حصول المغرب على أنظمة دفاع جوي متقدمة مثل "Barak MX"، إلى جانب الطائرات المسيّرة، يشكل عاملا لا يمكن لإسبانيا تجاهله، لما له من تأثير مباشر على قدرة المغرب في مراقبة مجاله الجوي وتعزيز منظومة ردعه". (the diplomatinspain)
أما العقيد المتقاعد مانويل موراتو ومدير معهد الحوار وتحليل السياسات الأمنية، فقد ذهب إلى أبعد من ذلك، معتبرا أن التعاون المغربي-الإسرائيلي "من منظور عسكري يمثل زيادة كبيرة في قدرات الرباط وهو ما يتطلب اهتمام الجيش الإسباني". (EL confidencial)
وفي تصريح نشرته صحيفة El Espanol بتاريخ 16 يوليو 2024، أشار الخبير الأمني روبين دياز إلى أن "تعزيز المغرب لترسانته الدفاعية بمساعدة إسرائيل لا يُقرأ فقط في تل أبيب، بل يُرصد بدقة من طرف مدريد، نظراً لما قد يترتب عنه من اختلال في ميزان القوى على الضفة الجنوبية للمتوسط."
من جهته، حذر المحلل العسكري أليخاندرو نونيز، في مقال له بصحيفة La Razon 14 يوليو 2025، من أن "تجاهل هذا التحول الجذري قد يضعف قدرة الردع الإسبانية في الثغرين المحتلين، ويعقد بشكل كبير إدارة أي نزاع مستقبلي محتمل مع المغرب."
هذه المواقف، وغيرها، تكشف أن التخوفات الإسبانية لم تعد حكرا على الدوائر الإعلامية أو السياسية، بل أصبحت محل يقظة متزايدة داخل المؤسستين العسكرية والأمنية، ما يشير إلى أن مدريد باتت تدرك أن مرحلة جديدة بصدد التشكل في المعادلة الجيوستراتيجية لغرب البحر الأبيض المتوسط.
وحتى هذه اللحظة، وبناء على ما سبق من معطيات وتحليلات، نأمل أن يكون قد اتضح أن التحول في الخطاب الرسمي الإسباني تجاه القضية الفلسطينية لا يمكن اعتباره موقفا نزيها خالصا أو اندفاعة أخلاقية مستقلة عن الحسابات الجيوسياسية. بل هو في جوهره محاولة مدروسة للضغط على إسرائيل والمغرب معا، في مسعى واضح إلى تقويض مسار التعاون العسكري والتكنولوجي بين الطرفين، الذي بات يقلق مدريد على أكثر من صعيد.
إننا لا نرى جدوى من تعداد الخطوات "العقابية" التي قامت بها إسبانيا تجاه إسرائيل، إذ ليست محل اهتمامنا في هذا المقام، فنحن في نهاية المطاف، مع القضايا العادلة في كل مكان، وعلى رأسها قضية فلسطين التي لا نقايضها ولا نساوم على رمزيتها. لكننا في ذات الوقت، لسنا من السذاجة بحيث تنطلي علينا حِيل الخصوم، ولا نقبل أن تستغل عواطفنا الأخلاقية في معارك تدار ضد مصالح وطننا أو وحدتنا الترابية، تحت أقنعة إنسانية مخادعة.
وفي المقابل، وبينما ندعو إلى تجاوز الخطابات العاطفية والانفعالات السطحية في تحليل العلاقات الدولية، من الضروري أن نبقي على قدر عال من اليقظة في فهم طبيعة التحالفات الجديدة، خصوصا حين يتعلق الأمر بإسرائيل؛ إذ لا أحد يظن، عن وعي، أن تل أبيب ستنخرط في دعم المغرب عسكريا أو في نقل تكنولوجيا عسكرية نسبية من باب الإحسان أو النوايا الطيبة؛ بل الأمر يخضع لحسابات دقيقة تخدم مصالحها الاستراتيجية ومكاسبها الاقتصادية والجيوسياسية...
هذا لا يعني أن المغرب مطالب برفض كل تعاون، بل على العكس، فقد أثبت التاريخ أن كل الدول التي قفزت في سلم التقدم العسكري والصناعي اغتنمت فرصا مشابهة، ولو من مصادر متناقضة. فإسرائيل نفسها صدرت تقنيات إلى الصين في مراحل معينة، وساعدت نظام الشاه في إيران على تطوير أنظمته الصاروخية في فترة ما قبل الثورة، ما يدل على أن منطق الغاية والمصلحة هو المحرك الحقيقي لهذه السياسات.
لكن هنا تكمن حكمة الدولة وحنكة صانع القرار فعلى المغرب أن يدرك أن نوافذ التاريخ لا تفتح كل يوم، وأنه حين تفتح، يجب اقتناصها بعين يقظة ويد حذرة. فالتفاوض مع القوى الكبرى، أو مع الفاعلين المتقدمين تكنولوجيا، يجب أن يدار دائما بلغة الأرقام والعقود المالية القابلة للمراجعة، لا بلغة الانبهار أو التنازلات الثابتة.
فكل خطأ تقديري في المجال المالي يمكن تعويضه، وكل اتفاق قابل للتفاوض قد يراجع، أما التفاوض أو التهاون حول الثوابت الوطنية من أرض أو هوية أو سيادة استراتيجية فلا يملك أحد أن يعبث به، لأن خسارته غير قابلة للاسترجاع. لذا فإن بناء شراكات ذكية، مرنة، لكنها مشروطة ومحدودة الأجل، هو الخيار الذي يضمن للمغرب تعزيز قوته دون أن يفقد وضوح بوصلته.
أخيرا إن فهم التوظيف الإسباني للقضية الفلسطينية، لا ينقص من عدالة هذه القضية، وإنما يفضح الازدواجية الكامنة في خطاب بعض الأطراف الدولية، ويكشف كيف يمكن للقيم أن تستخدم تكتيكيا في لعبة النفوذ. لذا، فإن التضامن الصادق مع غزة لا يجب أن يختطف من قبل خصوم المغرب، كما أن الدفاع عن مصالح المملكة لا ينبغي أن يختزل في مجرد اصطفاف، بل في بناء موقف وطني متزن، يزاوج بين الوفاء للقضايا العادلة والاستعداد لحماية الأمن القومي بكل الوسائل الممكنة.
وبينما يحق للمغرب أن يبحث عن تعزيز قدراته الدفاعية في عالم تسوده التحالفات المعقدة والمصالح المتقاطعة، فإن الرهان على أي شراكة، يجب أن يدار بعقلانية سيادية صارمة، تحصن القرار الوطني من الانزلاق إلى تبعية تقنية أو سياسية غير محسوبة، فالذكاء الاستراتيجي لا يقف عند حدود عقد الاتفاقات، بل في ضبط إيقاعها بما يخدم المصالح العليا للبلاد دون التفريط في الثوابت.