عبد الحكيم الصفريوي.. قصّة فرنسي من أصل مغربي مُتهم بـ "التواطؤ في عمل إرهابي"، فهل هو مُتطرف أم ضحية لـ"حرب فرنسا الرمزية" التي تجمع بين الأمن والسياسة؟

 عبد الحكيم الصفريوي.. قصّة فرنسي من أصل مغربي مُتهم بـ "التواطؤ في عمل إرهابي"، فهل هو مُتطرف أم ضحية لـ"حرب فرنسا الرمزية" التي تجمع بين الأمن والسياسة؟
الصحيفة - خولة اجعيفري
الأربعاء 12 نونبر 2025 - 15:36

في مساء خريفي من أكتوبر 2020، هزّت فرنسا جريمة بشعة في ضاحية كونفلانس سانت أونورين قرب باريس، حيث قُطع رأس أستاذ التاريخ والجغرافيا صامويل باتي بعد أن عرض على تلاميذه رسوما كاريكاتورية للرسول محمد ﷺ في درس عن حرية التعبير.

في غضون ساعات، تحولت البلاد إلى حالة استنفار وأُطلقت حملة واسعة ضد ما سُمي بـ"التطرف الإسلامي" فيما ومن بين أسماء الموقوفين الذين طالتهم التحقيقات ظهر اسم عبد الحكيم الصفريوي، وهو ناشط فرنسي من أصل مغربي، كان حتى ذلك الحين معروفا في الأوساط الإسلامية والجمعوية أكثر مما كان معروفا لدى الرأي العام الفرنسي.

اعتُقل الصفريوي، الذي كان يبلغ من العمر حينها 61 عاما، وأدرج اسمه ضمن أحد عشر شخصا احتُجزوا في إطار التحقيق، لكن سرعان ما ثبت أن القاتل الشيشاني "عبد الله أنزوروف" تصرف بمفرده فيما بقي الصفريوي خلف القضبان إلى أن صدر خلال العام الجاري حكم قضائي يقضي بسجنه 15سنة بتهمة "التواطؤ في عمل إرهابي"، وذلك في واحدة من أكثر القضايا إثارة للجدل في فرنسا خلال السنوات الأخيرة.

قبل الحادثة بأسابيع، كان عبد الحكيم الصفريوي يعيش حياة عادية في مدينة "إيفري" وهو معروف داخل الجالية المسلمة كوجه نشيط في العمل الدعوي والجمعوي، وكمؤسس لـ"جمعية الشيخ ياسين"، التي استلهمت اسمها من مؤسس حركة حماس الفلسطينية. وبحسب أقاربه الذين التقتهم "الصحيفة" في بين رئيس الحكومة السابق عبد الاله بنكيران لم تكن الجمعية إطارا سياسيا أو أيديولوجيا بقدر ما كانت فضاء لنقاش قضايا المسلمين في فرنسا خصوصا في سياقات التوترات التي تثيرها الصحف والرسوم المسيئة للنبي.

في مطلع أكتوبر 2020، تلقى الصفريوي اتصالا من والد تلميذة في كلية بوا ديولن، يشكو له ما قال إنه تصرف "مهين" من الأستاذ تجاه الدين الإسلامي، وهنا رافق الرجل إلى المدرسة لمناقشة الإدارة، ثم نشر بعد ذلك فيديو على "يوتيوب" وصف فيه الأستاذ بأنه "وغد" وطالب بطرده، من دون أن يدعو إلى العنف أو يُهدد، لكن بعد عشرة أيام، وقعت الجريمة فقُتل صامويل باتي، ووجد الصفريوي نفسه في قلب عاصفة لا تشبه شيئا مما عاشه من قبل.

منذ اللحظة الأولى، وُضع اسمه على طاولة الإعلام، لا بوصفه شاهدا أو ناشطا، بل كـ"محرض"، رغم أن التحقيقات التي أعقبت الجريمة لم تثبت وجود أي تواصل أو علاقة بينه وبين القاتل.

وفي الواقع، خلصت المخابرات الفرنسية لاحقا إلى أن منفذ الهجوم لم يشاهد الفيديو الذي نشره الصفريوي أصلا غير أن هذا المعطى لم يكن كافيا لوقف المدّ العاطفي والسياسي الذي اجتاح البلاد، ولا لوقف قناعة عامة مفادها أن أي صوت ينتقد رموز الدولة أو يناقش مسائل دينية، لا بد أن يكون جزءا من "المشكلة".

القضية لم تُناقش فقط داخل أروقة العدالة، بل في البرلمان والإعلام، وفي الشارع أيضا، وكل ذلك في بلد مثقل بتاريخٍ دموي مع الإرهاب منذ هجمات 2015 حيث كانت فرنسا تبحث عن رموز لتُظهر من خلالها صرامتها في الدفاع عن قيم الجمهورية.

ومع تصاعد خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حول "محاربة الانفصالية الإسلامية"، صار اسم عبد الحكيم الصفريوي جزءا من خطاب أكبر عن علاقة الدولة بالمسلمين أكثر منه ملفا جنائيا خالصا.

محاميه حكيم الشركي، الذي يتابع القضية منذ البداية يرى أن "العدالة تأثرت بضغط سياسي غير مسبوق"، مؤكدا أن موكله لم يتورط لا في عنف ولا في تحريض، بل في ممارسة حقه في التعبير ،وأنه اليوم معتقل سياسي مغربي في فرنسا.

ويقول الشركي في مداخلة له عبر تقنية "زوم" خلال ندوة صحافية عقدت ببيت رئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران صبيحة اليوم الأربعاء: "عبد الحكيم معروف في فرنسا منذ عقود، نظم مئات المسيرات بترخيص رسمي مع السلطات الفرنسية وتحدث في قضايا العدالة والحرية، وخصوصا عن فلسطين، لم يكن يوما متطرفا، بل ناشطا ملتزما بالقانون، لكن المناخ السياسي جعل منه نموذجا لمعاقبة الإسلاميين حتى لو لم يكونوا عنيفين."

وأضاف المتحدث: "في فرنسا 2025 اذا كنت مسلم وتظهر علنا أنت معرض للمتابعة والمراقبة ووضعك حساس، وحتى لو أن الفيديو التي قمت به لم يشاهده الإرهابي، ولكن تحاكم بـ 15 عام فيما الشخص الذي اقتنى السكين مع الإرهابي حكم عليه بـ 16 سنة أي فرق سنة واحدة هل تعرفون المفارقة الان وحجم الظلم الذي تعرض له هذا الرجل؟".

وزاد المتحدث: "هذا خطير على وضعية الحرية وحرية التعبير.. ولا أريد أن يدفع الصفريوي ثمن التمييز والعنصرية في فرنسا وهو بريء، بل هو فخر لنا جميعا، مغاربة، ومسلمين وعرب.. وعدد من المراقبين يرون أنه معتقل سياسي مغربي في فرنسا".

من جهة أخرى، يؤكد محيط الصفريوي أن الحكم عليه جاء نتيجة الخوف الجماعي، لا بناء على أدلة قانونية، وتقول زوجته إكرام حومادا بهذا الخصوص "القاضي نفسه قال لنا إنهم لا يؤاخذونه إلاّ على الفيديو، ومع ذلك حكموا عليه بخمس عشرة سنة.. هل لأن الفيديو حمل انتقادا لمُدرس؟ أم لأن صاحبه مسلم معروف بمناصرته لفلسطين؟ على ما يؤاخذ بالضبط زوجي؟"

في المقابل، يرى قطاع واسع من الفرنسيين أن الصفريوي كان ينبغي أن يتحمل مسؤوليته الأخلاقية، إن لم تكن القانونية، ففي نظر هؤلاء، كان لفيديوهاته وسلوكه تأثيرٌ غير مباشر في خلق مناخ تعبوي يسبق الجريمة، حتى لو لم يكن هناك تحريضٌ صريح، إذ كتبت بعض وسائل الإعلام المحافظة آنذاك أن "خطاب الصفريوي، وإن لم يدعُ للعنف غذّى بيئة من الكراهية ضد أستاذ قام بواجبه"، وأنه كان من الطبيعي أن يُساءل قانونيا في هذا السياق.

في المغرب، يتابع أقارب الصفريوي الملف بقلق وحزن شقيقته سلوى الصفريوي، تصف أخاها بأنه "إنسان طيب ومحب للحياة"، وتقول إن الحكم عليه "غير عادل" لأنه "لم يُعرف عنه يوما التحريض أو العنف، بل على العكس تماما هو مرح جدا والجميع يحب مجالسته وسمعته طيبة جدا، ويترافع ويدافع دائما عن قضايا الوطن والأمة الاسلامية".

وتضيف: "عبد الحكيم عاش بين فرنسا والمغرب، يأتي إلى وطنه ثلاث أو أربع مرات في السنة، يزور العائلة ويساعد المحتاجين المخابرات الفرنسية نفسها قالت إن القاتل لم يشاهد الفيديو، فكيف يُدان على أساس فعل لم يترتب عليه شيء؟".

وزادت المتحدثة بنبرة حزينة: "والدنا هو عبد الحق الصفريوي كان من المقاومين المغاربة الذين ناضلوا ضد الاستعمار الفرنسي، وغرس في أبنائه حب الوطن والإيمان بعدالة القضايا الإنسانية، لقد نشأ عبد الحكيم في فرنسا، حيث استقر منذ خمسين سنة، فكان من الجيل الذي حاول أن يبني جسور التعايش بين الانتماء المغربي والإسلامي، وبين واقع المجتمع الفرنسي العلماني، وعرفه الناس رجلا مبادرا ودودا، متواضعا، نشيطا جمعويا، زد أنه مارس مهنة التعليم العالي لمدة 15 سنة، وهو مهندس التسويق، ولديه دار النشر باسم الرسالة لترجمة الكتب، وله مكتبة تحمل إسم La Force Des Mots، وينظم محاضرات ومسيرات قانونية دفاعا  عن فلسطين وعن قضايا المسلمين دون أن يسجل عليه يوما خرق للقانون أو تحريض على العنف".

أما شقيقه جواد الصفريوي يعبّر بدوره عن استغرابه من الحكم قائلا: "عشنا معه طفولتنا وشبابنا، ولم نعرف عنه سوى حب الناس، والاستماع للآخرين لم يكن متشددا يوما والقضية أكبر منه، هي قضية عدالة ومبادئ.”

حتى عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة المغربية الأسبق، دخل على الخط، موضحا أن الصفريوي "كان قريبا منه عائليا"، ومؤكدا أنه "رجل مبادر ومحب لوطنه، شارك في الحركة الإسلامية في بداياتها، ثم اختار العمل الجمعوي في فرنسا دون أي سلوك عنيف".

وقال بنكيران "ما حدث مؤلم لا علاقة له بالقاتل ولا يعرفه، لكن الرأي العام الفرنسي خلط الأوراق كنا ننتظر براءته، لكن يبدو أن السياسة سبقت العدالة، ونأمل أن يُنصفه الاستئناف، أنا اعرف عبد الحكيم شخصيا وزرته مرارا في فرنسا وما لمست فيه يوما تحريضا على الكراهية أو عنف أو غيره وقد راسلت المحكمة الفرنسية وأكدت ذلك في رسالة خطية جرى تلاوتها".

القضية لم تكن معزولة عن السياق الفرنسي الأوسع حيث نقاشٌ حادّ حول العلمانية، حرية التعبير، وحدود انتقاد الرموز الدينية ومنذ مقتل باتي، اتخذت الحكومة الفرنسية إجراءات صارمة ضد عشرات الجمعيات الإسلامية، بعضها حلّ، وبعضها الآخر وُضع تحت المراقبة.

تحدث وزير الداخلية جيرالد دارمانان وقتها عن "حرب ضد أعداء الجمهورية"، وأُدرج اسم الصفريوي ضمن تلك "الحرب الرمزية" التي تجمع بين الأمن والسياسة.

لكن هذا النهج أثار أيضا جدلا حقوقيا واسعا داخل فرنسا نفسها فقد رأى باحثون وصحافيون فرنسيون أن تحويل كل تعبير ديني أو نقد لسياسة الدولة إلى تهمة تحريض أو إرهاب يهدد أسس الجمهورية العلمانية التي تُفترض أن تحمي حرية الرأي.

واليوم، وبعد خمس سنوات من اعتقاله، ينتظر عبد الحكيم الصفريوي جلسة الاستئناف المقررة في يناير المقبل فيما هو في السجن تقول أسرته إنه يتمتع بمعنويات قوية يقرأ ويكتب، ويراسل أبناءه وزوجته باستمرار.

محاموه يعولون على أن يعيد القضاء النظر في الملف بمعزل عن الضغوط السياسية، خصوصا بعد أن بدأت شخصيات فرنسية، مثل فرانسوا دوكارد، تطالب بإعادة تقييم الأدلة، ويرى بعض المراقبين أن الحكم القاسي الصادر بحقه كان إشارة سياسية أكثر منه قرارا قضائيا متينا.

لكن في المقابل، لا تزال قطاعات واسعة من الرأي العام الفرنسي تعتبر القضية "مغلقة" وترى في أي تخفيف للعقوبة تراجعا عن موقف صارم تجاه من تعتبرهم "حاضنة فكرية للتطرف".

في النهاية، يجد الصفريوي نفسه في موقع رمزي بالغ الحساسية بين حقه في حرية التعبير، وخطاب الجمهورية الذي يرى في أي نقد للدولة تهديدا، وبين قاضٍ محاصر بملف مشحون، وجمهور غاضب لا ينسى مشهد الجريمة.

وهكذا، تبدو قضية عبد الحكيم الصفريوي مرآة تعكس مأزق فرنسا في التعامل مع الإسلام، مع حرية التعبير ومع نفسها أيضا فمن جهة، هناك بلد يريد أن يثبت أنه لا يتهاون مع أي خطاب يُنظر إليه كتحريض، ومن جهة أخرى هناك نظامٌ قضائي مطالب بالتحرر من ضغط السياسة والإعلام.

وبين هذين القطبين، يقف الصفريوي، الرجل الستيني، من أصول مغربية، وقد وجد نفسه فجأة في قلب معادلة أكبر منه، بين العدالة والرأي العام، بين الدين والسياسة، وبين ذاكرة فرنسا الجريحة، وضميرها الجمهوري.

يُذكر أنه منذ هجمات شارلي إيبدو عام 2015، دخلت فرنسا مرحلة جديدة من علاقتها المعقدة مع مواطنيها المسلمين فيما الخطاب الرسمي لم يعد يتحدث عن "إدماج الجالية"، بل عن "محاربة الانفصالية"، والمقاربة الأمنية صارت تمتد إلى ما هو أبعد من الفعل الإرهابي لتشمل الخطاب والنوايا، والرموز.

وفي هذا السياق، وُلدت قضايا مثل قضية عبد الحكيم الصفريوي، لا باعتبارها ملفات جنائية صرفة، بل كجزء من منظومة ردّ سياسي وأمني متكاملة تحاول من خلالها الدولة الفرنسية أن تعيد تعريف حدود حرية التعبير عندما يتعلق الأمر بالإسلام.

وفي السنوات التي تلت مقتل صامويل باتي، توسعت أدوات المراقبة والمساءلة لتشمل كل من يُظهر نشاطا دعويا أو يعبّر عن رأي مخالف للسردية الرسمية.

وقد جرى حلّ عشرات الجمعيات الإسلامية، ووُضعت المساجد تحت المراقبة الإدارية، وأُدرجت أسماء الأئمة والدعاة في قوائم تصنيفية تحمل عنوان "خطر على الأمن العام" فيما لم يعد الفعل الإرهابي وحده هو المستهدف بل المجال الرمزي المحيط به أي الخطاب الذي قد يُفهم ولو نظريا على أنه تغذية فكرية للتطرف.

القفطان.. وأزمة الهوية عند الجزائريين

طُويت معركة أخرى أرادت الجزائر أن تخوضها ضد المغرب، وهذه المرة ليس في مجلس الأمن بخصوص قضية الصحراء، بل داخل أروقة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو"، التي تعقد ...

استطلاع رأي

مع قُرب انطلاق نهائيات كأس إفريقيا للأمم "المغرب2025".. من تتوقع أن يفوز باللقب من منتخبات شمال إفريقيا؟

Loading...