قراءة في بلاغ الديوان الملكي حول الصحراء وفلسطين والخليج

 قراءة في بلاغ الديوان الملكي حول الصحراء وفلسطين والخليج
د.عبد النبي عيدودي
السبت 12 دجنبر 2020 - 17:28

قراءة في بلاغ الديوان الملكي حول الصحراء وفلسطينوالخليج، ليوم الخميس 10 دجنبر 2020

سيظل تاريخ الخميس 10 دجنبر راسخاً في صفحات الديبلوماسية المغربية، والتي يوجهها صاحب الجلالة الملك محمد السادس حفظه الله، بتبصر واتزان وجرأة ونَفَسٍ طويل. حيث صدر عن الديوان الملكي بلاغان اثنان اكتسبا فوراً طابع العالَمية، والأهمية الاستثنائية، بل التاريخية، بلا أدنى شك...

في هذا المقال، سنتطرق إلى البلاغ الأول المتصل بالصحراء والشرق الأوسط والخليج... وهو البلاغ الذي حمل ثلاثة قرارات حاسمة ونوعية في مسار المملكة المغربية، باعتبارها قرارات تنطوي على خيارات كبرى وأساسية تهم قضايا الوطن والأمتين الاسلامية والعربية، بل تهم العالَم بأسره... كما أنه بلاغٌ جاء على إثر إجراء صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله مباحثات عبر الهاتف مع السيد دونالد ترامب، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.

ولكي يتم فهمأبعاد القرارات والمواقف الثلاثة، قبل إخضاعها للقراءة والتحليل والاستنباط، لا بد أن نشير إلى المميزات العشر الأبرز للسياسة الخارجية للمملكة المغربية في عهد الملك محمد السادس، وهي، في تقديرنا، كالآتي:

  • وضع المصالح العليا للوطن والشعب فوق كل اعتبار؛
  • الثبات في الدفاع عن الوحدة الترابية للمملكة؛
  • عدم التفريط في القضايا المبدئية والعادلة للأمة، لا سيما منها القضية الفلسطينية؛
  • الحرص على استقلالية القرار السيادي للمملكة، في احترام للشركاء؛
  • تنويع الشراكات الاستراتيجية في جميع المجالات، وفي كافة القارات؛
  • التوجه نحو العمق الإفريقي ودعمه بشراكات مبدئية وفق منطق الربح المشترك: رابح-رابح؛
  • التركيز على تعدد أوجه التعاون: اقتصادي، سياسي، ثقافي، إيكولوجي، عسكري، حكومي/غير حكومي...
  • احترام سيادة جميع الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية؛ 
  • تقديم الدعم والمؤازرة للبلدان الصديقة في الأزمات، دون تدخل؛
  • العمل في العمق على المدى البعيد والتحضير الهادئ والجيد للقرارات المشتركة مع الشركاء.

و قد تأكدت،حقاًّ،هذه الميزات العشر من خلال بلاغ الديوان الملكي المذكور،والذي جاء في ثلاثة أجزاء: القضية الوطنية؛ الشرق الأوسط/فلسطين؛ ثم الخليج العربي.

أولا: قضية الصحراء المغربية

نعود الآن إلى البلاغ موضوع هذا المقال، تحديداً، ونبدأ بالقضية الأولى التي أثارها، والتي ليست سوى القضية الأولى للمغرب والمغاربة قاطبةً.. إنها قضية الصحراء المغربية.. التي تُعَدُّمن أسمى القضايا وأَجَلِّهَا شرعًا ووضعًا، لأن حب وحفظ الأوطان من الإيمان....ولأن صّوْنَ الأوطان يضاهي صون الأعراض.

ففي البداية كان مقترح الحكم الذاتي، وتلاه بلورة وتفعيل النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية المغربية الذي لا يزال يتقدم، ثم جاءت سلسلة كثيفة من سحب عشرات الدول لاعترافها بجمهورية الوهم، وذلك في سياق العودة المظفرة للمملكة المغربية إلى الاتحاد الإفريقي... وأيضاً إقرار المنتظم الدولي ومجلس الأمن بجدية ومصداقية السعي المغربي نحو إيجاد تسوية سياسية للنزاع المفتعل، في مقابل تلكؤ الخصوم....ثم أتى قرار عمليةإعادة فتح معبر الكركرات الذي حظيَ بدعم دولي غير مسبوق أفضى إلى عزلة قاتلة لأعداء بلادنا... وكان أيضا توالي فتح عشرات القنصليات بالعيون والداخلة المغربيتين..

ثم كان تتويج كل هذه الانتصارات والمكاسب والاختراقات بإعلانٍ رئاسي من الولايات المتحدة الأمريكية يعترف بمغربية الصحراء وسيادته التامة والكاملة عليها،مع قرار فتح قنصلية لهذه القوة العالمية العظمى بالداخلة عروس الصحراء وزينتها...

ومما لا شك فيه أبدا أن هذا القرار الأمريكي كان مسبوقاً بعمل هادئ وعميق امتد لسنوات ثلاث على الأقل، من قِبَل الديبلوماسية المغربية، بانخراطٍ مباشر وتوجيه دائم لجلالة الملك أيده الله.... قرار  لم يأتِ اعتباطاً أو سهلاً ... بل من الواضح أنه ثمرة عملٍ شاق...شاق جدا... يستحق عليه أمير المؤمنين كل التقدير والتحية والإجلال، وهو الذي يُجَسِّدُ فعلا الاضطلاع بأمانة صون السيادة الوطنية في أبهى تجلياتها.

القرارالأمريكي القاضي بالاعتراف بمغربية الصحراء هو قرار مهم وتاريخي، ويُحدث فارقا وتحولاً نوعيا في تعاطي العالم مع قضية وحدتنا الترابية، وهو قرار سيدفع العديد من البلدان إلى التصرف بشكل مماثل...وفي ذلكتعزيزللسيادة المغربية على صحرائه، ومقدمة نحو الطي النهائي لهذا النزاع المُــصطنع.

دلالةٌ أخرى يحملها القرار الأمريكي، تتجلى في كون المغرب أكد، بما لا يدع مجالاً لأي شك،على أنه فاعل دوليكبير ومُهِم وموثوق، إقليميا، قاريا، ودوليا... وعلى أنهشريك محوري لأمريكا وأوروبا،باستقلالية ونِدِّية تحفظ له حرية تنويع شراكاته... حيث لا يتعين هنا إغفال ما سبق أن جاء في أحد الخطب الملكية الساميةفي سنة 2016 من أنَّ"المغرب حر في قراراته واختياراته وليس محمية تابعة لأي بلد، وسيظل وفيا بالتزاماته تجاه شركائه الذين لا ينبغي أن يروا في ذلك أي مس بمصالحهم".

من جهة أخرى، فالقرار الأمريكي هام وحيوي جدا بالنسبة لبلادنا، أولا من حيث القيمة الدولية للولايات المتحدة ومكانتها في صُنع القرار العالمي. وثانيا من حيث أن القرار له أثر دائم ولا يتعلق بفترة رئاسية أو مدة زمنية محددة. وثالثا لأنه قرار أثار الموضوع التنموي والاستثماري والاقتصادي. ورابعا لأن القرار اعتبر مقترح الحكم الذاتي هو الطريق الوحيد نحو التسوية، أي استحالة قيام دويلة لا تملك قرارها وتهدد السلم الإقليمي والعالمي. ورابعا لأنه قرار ينطوي ضمنيا على إقرار أمريكا بفضل المغرب عليها حيث كانت المملكة أول بلد يعترف بالولايات المتحدة الأمريكية كدولة مستقلة.

إن هذا الاختراق المغربي التاريخي هو ما يمكن أن نطلق عليه "القوة الهادئة للمغرب"، الذي يهيئ مكاسبه على نار هادئة، ويتصرف على عكس أعدائه الذين لهم جعجعة...من دون طحين.

ثانيا: القضية الفلسطينية والوضع في منطقة الشرق الأوسط

البلاغ الأول الذي نحن بصدده، والصادر عن الديوان الملكي، أطلَــعَ الرأي العام، بشفافيةِ الكِبار ديموقراطيا ومؤسساتيا وتواصليا، بخصوص مواقف المملكة المغربية من القضية الفلسطينية، والتي عَـــبَّــرَ عنها جلالة الملك في محادثاته مع الرئيس الأمريكي. حيث أكد جلالته على أن المغرب يدعم حلا قائما على دولتين، وأن المفاوضات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي هي السبيل الوحيد للوصول إلى حل نهائي ودائم وشامل لهذا الصراع.

كما شدد أمير المؤمنين على ضرورة الحفاظ على الوضع الخاص للقدس، وعلى احترام حرية ممارسة الشعائر الدينية لأتباع الديانات السماوية الثلاث، وحماية الطابع الإسلامي لمدينة القدس الشريف والمسجد الأقصى.

في نفس الوقت، قرر جلالة الملك عزم المغرب تسهيلَ الرحلات المباشرة لنقل اليهود من أصل مغربي والسياح الإسرائيليين من وإلى المغرب، واستئناف الاتصالات الرسمية الثنائية والعلاقات الديبلوماسية في أقرب الآجال، وتطوير علاقات مبتكرة في المجال الاقتصادي والتكنولوجي، والعمل بالتالي على إعادة فتح مكاتب للاتصال في البلدين، كما كان عليه الشأن سابقا ولسنوات عديدة، إلى غاية 2002.

وقد أكد جلالة الملك، في نفس الوقت، بأن كل هذه التدابير لا تمس بأي حال من الأحوال، الالتزام الدائم للمغرب في الدفاع عن القضية الفلسطينية العادلة، وانخراطه البناء من أجل إقرار سلام عادل ودائم بمنطقة الشرق الأوسط.

وهو، للإشارة فقط، نفس منحى البلاغ الثاني الصادر عن الديوان الملكي في نفس اليوم، والذي أعطى، من جانبه، تفاصيل الاتصال الهاتفي الذي أجراه جلالة الملك مع السيد محمود عباس أبو مازن، رئيس الدولة الفلسطينية، حيث أكد لهجلالته أن دعم للقضية الفلسطينية هو دعم ثابت، وأنالمغرب يدعم السلام والمفاوضات السياسية من أجل حل الدولتين. كما شدد جلالة الملك على أن المغرب يضع، وسيضع، دائما القضية الفلسطينية في مرتبة قضية الصحراء المغربية، ولن يتخلى أبدا عن الدفاع عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وأنه سيواصل انخراطه البناء من أجل إقرار سلام عادل ودائم بمنطقة الشرق الأوسط.

هذه المواقف التي عبر عنها جلالة الملك في ما يتعلق بموضوع القضية الفلسطينية تكتسي أهمية قُصوى، وتنم عن اتزان وتوازن وحنكة قل نظيرها، للاعتبارات التالية، في تقديرنا:

فمن جهة أولى، رسالة أمير المؤمنين واضحة لا غبار عليها: لا مقايضة في المواقف، ولا انسحاب للمغرب من مؤازرة الحق الفلسطيني، ولا تغيير في المواقف إزاء الشعب الفلسطيني ونضالاته المشروعة.... وفي هذا جواب استباقي وعملي على العدمية والشعبوية وخطاب المزايدة الذي توقف نموه منذ عقود ...وعلى مناهضي "التطبيع" كذلك...فالمغرب لا يُطَبِّع مع أي سلوك إسرائيلي ظالموغاشم...ولغة جلالة الملك الحازمة هنا لا تقبل أي تأويل مغرض... أما ممارسة المغرب لسياديته في قراراته المتعلقة بعلاقاته وطبيعتها وتوقيتها ونوعها ووتيرتها... فلا بد للجميع أن يحترمها كما يحترم المغرب الآخرين.... دون ذلك، سيكون الأمر مجرد حركات بهلوانية إيديولوجية غير محسوبة العواقب.

من جهة ثانية: القضية الفلسطينية وقضية الصحراء المغربية في المرتبة نفسها...وعلى الأشقاء الفلسطينيين، بالخصوص، أن يستوعبوا جيداً هذا الالتزام العظيم، بالنظر إلى قدسية قضيتنا الوطنية الأولى.

من جهة ثالثة: جلالة الملك لم يتنازل قيد أنملة عن الحل الذي تبناه الفلسطينيون أنفسهم، وهو حل الدولتين والقدس عاصمة لهما...وكل من يريد مناأن يروج لغير هذه الحقيقة فهو عدو لبلده ولنفسه.. يزرع الفتنة بالبلد والفتنةأشد من القتل...

ومن جهة رابعة: واضحٌ بجلاء أن الانفتاحات المغربية المُعلنة، إما أنها كانت واقعاً يُمارسُ على الأرض مثلما هو الحال بالنسبة للسياحة والزيارة... أو أنها تدخل في حكم المصلحة الوطنية مثلما هو الأمر بالنسبة لابتكار طرق جديدة في تطوير العلاقات الاقتصادية ..... وفي جمي الأحوال فإن الخصوصية المغربية هنا ساطعةٌ ... ولم يتصرف المغرب أبداً إلا وفق ذاك التوازن الذي لا يطاله سوى الأذكياء والحكماء ..بين المصلحة الوطنية وبين مبادئ التضامن الدولي ....في إطار السيادة والاستقلالية وحرية الإرادة والقرار

ثالثا: الخليج العربي

ورد في الجزء الثالث من بلاغ الديوان الملكي تطرقُمباحثات جلالة الملك والرئيس الأمريكي للجهود المبذولة من أجل حل الأزمة الخليجية...بهذا الصدد، فقد عبر جلالته عن أمله في أن تفضي التطورات الإيجابية المسجلة إلى تحقيق المصالحة الخليجية المنشودة، بما يساهم في استثباب الأمن والاستقرار بمنطقة الخليج العربي، وتحقيق الأمن العربي الشامل، والنهوض بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، لما فيه صالح شعوب المنطقة العربية.ونظرا للعلاقات الخاصة والاستراتيجية التي تجمع المغرب بدول الخليج العربي، فقد عبر جلالة الملك عن تثمينه للدور الكبير الذي قامت به الولايات المتحدة الأمريكية، في الخطوات الهامة التي تم تحقيقها، مجددا دعمه للوساطة الكويتية بهدف إنهاء هذا الخلاف.

وفي تقديرنا، فإن هذا الجزء الثالث من بلاغ الديوان الملكي فيه ثلاثة عِــبَــرٍ أساسية: أولاها أن مجرد الحديث عن الموضوع في حد ذاته، إلى جانب موضوع الصحراء وموضوع فلسطين، إنما يدل على الأهمية القصوى التي يوليها المغرب لعلاقاته مع بلدان الخليج العربي.

أما العبرة الثانية، فهي أن المغرب، بقيادة جلالة الملك، يعتبر نفسه معنياً بشكل مباشر بتسوية وإنهاء الخلافات الخليجية الخليجية، بالنظر إلى التقارب الوجودي ووحدة المصير المشترك.

الدرس الثالث، أن المغرب مؤمن تماما أن تنمية المنطقة العربية إنما هي رهينة بالدور المحوري لبلدان الخليج العربي ومدى اتفاقها على بعث نَفَسٍ جديد في الدينامية العربية العامة.

ثم العبرة الرابعة، فهي أن التوافقات الخليجية هي صمام أمان ليس فقط لمستقبل الأمة العربية، ولكن هي إسهام مؤثر أيضا في مسلسل السلم والأمن والنماء بالنسبة للعالم بأسره، بالنظر إلى عديد الاعتبارات من بينها الموقع الجيوسياسية والمكانة الطاقية العالمية.

ثم الرسالة الخامسة: كون المغرب مهتم تماما بالوفاق العربي العربي، ولا يُدير ظهره إلى المشاكل الناشئة بين الأشقاء، أي أنه ينهج حيادا إيجابيا وليس سلبيا في هذا الشأن....ولنا في دور المملكة المغربية في حل الأزمة الليبية خير مثال متشابه.

في الختام

إنالرؤية الملكية الثاقبة والمتبصرة تنطلق من الأمانة العظمى التي عقدت لها من طرف أهل الحل والعقد، وهي بيعة تطوق عنق أمير المؤمنين،وتجعله دائم التفكير والمُبادرة إلىابتكار الحلول لقضايا الوطن والشعب جمعاء... وهو ما تجلى، في أبدع صورة،من خلال الجزء الأول من البلاغ الذي خصصه جلالته لوحدتنا الترابية. 

ثم إن الأمانة التي يضطلع بها أمير المؤمنين جلالة الملك إزاء رعاياه تتعدى الديانة الواحدة، حيث أكد جلالته على تيسير حق المغاربة اليهود في التواصل مع بلدهم الأم، المغرب، وهم أزيد من مليون يهودي مغربي يقيم بإسرائيل...وهو ما يتم استخلاصه من الجزء الثاني من البلاغ...وهو الجزء الذي نستشف منه التزام أمير المؤمنين، قولا وفعلا، بقضايا الأمة العربية والإسلامية، وبقضايا فلسطين والقدس.

أما الجزء الثالث الذي خصصه البلاغ لوحدة دول الخليج الشقيقة وتوافقها، فهو جزء يحمل دلالة الأخوة العربية، والمصلحة المشتركة، والمصير الواحد، والاضطلاع بواجب الوساطة، أو دعم الوساطات من أجل تقريب وجهات نظر الإخوة في حال اختلافهم الطبيعي والوارد.ذ

* - باحث في الشوؤون السياسية - مدير المركز المغربي للقيم والحداثة

- دكتوراه في القانون الدستوري وعلم السياسية - دكتوراه في العقائد والأديان السماوية

هل الدولة الجزائرية عبارة عن "هجرة غير شرعية في التاريخ"؟

في حوار أجريناه في "الصحيفة" شهر غشت من سنة 2021 مع نور الدين بوكروح الذي يعتبر من السياسيين والمثقفين القلائل في الجزائر الذين ينتقدون "نظام الحكم" في البلاد المبني على ...