كُلفة باهضة تدفعها الدبلوماسية الجزائرية في ملفات الصحراء وفلسطين ودول الساحل.. وتباعدٌ مع أوروبا وأمريكا بعد رهن السياسة الخارجية لـ"عقيدة" شنقريحة

 كُلفة باهضة تدفعها الدبلوماسية الجزائرية في ملفات الصحراء وفلسطين ودول الساحل.. وتباعدٌ مع أوروبا وأمريكا بعد رهن السياسة الخارجية لـ"عقيدة" شنقريحة
الصحيفة – حمزة المتيوي
الأربعاء 19 نونبر 2025 - 12:00

من شاهد عمار بن جامع، السفير الممثل الدائم للجزائر لدى الأمم المتحدة، وهو يُعبر عن "خالص الامتنان" للولايات المتحدة الأمريكية، أول أمس الإثنين، أمام مجلس الأمن بعد تصويته على القرار الداعم لخطة الرئيس دونالد ترامب في غزة، يصعب عليه ألا يلاحظ حالة التناقض بين هذا الخطاب وبين خطاب الشخص نفسه خلال الأشهر الماضية، حين كانت بلده تقدم نفسها على أنها داعم مركزي للفلسطينيين.

الأمر لا يتوقف عند صيغة الكلام، فقبل ذلك كان بن جامع يرفع يده مع مندوبي الولايات المتحدة الأمريكية و11 دولة أخرى، صوتت لصالح القرار رقم 2803، الذي يتبنى نزع سلاح فصائل المقاومة في غزة، ويفرض نشر قوات دولية داخل القطاع، كما يسمح ببقاء الجيش الإسرائيلي في أجزاء واسعة منه إلى تاريخ غير محدد، ومع إبقائه على إمكانية إقامة دولة فلسطينية مستقبلا فإنه يربط ذلك بضمان حق إسرائيل في الوجود.

تصويت يوم 17 شتنبر 2025، الذي اضطر وزير الدولة الجزائري في الخارجية، أحمد عطاف، إلى تبريره في ندوة صحفية، كان حلقة جديدة من حلقات "التيه" الذي تعيشه الدبلوماسية الجزائرية منذ قرابة ست سنوات، والذي لم يعد خافيا حتى على الجزائريين، بعدما تراكمت النكسات في قضايا حساسة، من الصحراء إلى الساحل مرورا بأوروبا، دون أن تُفلح الإعفاءات المتتالية لوزراء الخارجية في إعادة توجيه بوصلةٍ يحتكرها صانع القرار العسكري لا السياسي.

تصويت الجزائر على قرار مجلس الأمن الذي قدمته الولايات المتحدة الأمريكية، والذي ينبني على خطة ترامب التي أفصح عنها البيت الأبيض أواخر شهر شتنبر الماضي، كان معاكسا للخط الذي رسمته الجزائر لنفسها خلال سنتين مُقبلتين على الانتهاء، تمثلان عمر ولايتها داخل مجلس الأمن، والذي كان يمثل، حتى قبل 24 ساعة من لحظة التصويت "بارقة أمل" للفصائل الفلسطينية، التي عبّرت عن رفضها للقرار في بيان مشترك، حمل نداء مباشرا للجزائر بالتشبث بالرفض.

المثير للانتباه، هو أن تلك الفصائل لعبة ورقة "حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره"، وفق الصيغة التي وردت في البيان، وهي ليست خطوة عبثية، على اعتبار أن الجزائر تنطلق من هذه "القاعدة" للوقوف ضد أي مسعى لحل قضية الصحراء في إطار السيادة المغربية، لذلك اختارت، في 31 أكتوبر 2025، عدم المشاركة أصلا في التصويت على القرار رقم 2797، الذي يدعو جميع أطراف النزاع للتفاوض على أساس الحكم الذاتي المغربي، والذي مر بأغلبية 11 صوتا، ما مثل حينها ضربة دبلوماسية جديدة للسلطات الجزائرية.

الجزائر، التي ترفع شعار "مع فلسطين ظالمة أو مظلومة"، الذي جاء على لسان الرئيس عبد المجيد تبون، اختارت هذه المرة المضي مع واشنطن في طرحها المدعوم من المملكة المتحدة وبريطانيا، بل إنها لم تلجأ حتى إلى الامتناع عن التصويت على غرار ما فعلته روسيا والصين، الأقرب إليها تقليديا، ما جعلها تتبنى مضمون القرار الذي يربط إعادة إعمار غزة بإنشاء قوة دولية يتم نشرها في القطاع، ومجلس للسلام له الحق في استخدام القوة، تمتد ولايته إلى غاية متم 2027، بالإضافة إلى نزع سلاح فصائل المقاومة وتأجيل الانسحاب التام للجيش الإسرائيلي.

لم ترغب الجزائر في أن تبدو وكأنها تقف في وجه "الإرادة الأمريكية" مرة أخرى، ولا أن يُفسر موقفها على أنهُ تحدٍ لترامب، بعدما رفضت المشاركة في التصويت على القرار الأممي الأخير بخصوص الصحراء، قبل أسبوعين ونيف، حتى لا يُحسب عليها أيضا أنها صوتت ضده، على الرغم من أنها خاضت حملة طويلة للتصدي له، مُعولة على "فيتو" لم يأتِ من روسيا والصين، ولإعادة تسويق الأمر بعد ذلك، تحدث وزير الخارجية أحمد عطاف عن "عدم نجاح المغرب في فرض الحكم الذاتي".

الحذر الجزائري من واشنطن، تُرجم، قُبيل القرار الخاص بالصحراء، إلى تجنب توجيه سهام النقد لإدارة ترامب، والتركيز على فرنسا والإمارات العربية المتحدة بالإضافة إلى المغرب، لكنه بعد القرار الخاص بغزة اتخذ منحى أكثر وضوحًا، حين برر عمار بن جامع تصويت بلاده بـ"دعم كافة الأطراف للخطة"، موجها الشكر للرئيس الأمريكي الذي أثنى على "انخراطه الشخصي" في مساعي وقف إطلاق النار في القطاع، مضيفا أن القرار كان "ضروريا لحماية المدنيين الفلسطينيين".

"المبررات" التي ساقتها الخارجية الجزائرية، لم تكن مقنعة حتى بالنسبة للداخل الجزائري، على غرار عبد الرزاق مقري، الرئيس السابق لـ "حركة مجتمع السلم" المتماهية عادة مع الرؤية الرسمية للملفات الدبلوماسية، بما في ذلك قضية الصحراء، إلا أنه هذه المرة هاجم التصويت لصالح القرار، معتبرا ذلك مؤشرا على أن "السلطة الجزائرية تتجه نحو تغيير مواقف الدولة المبدئية التاريخية"، وأضاف أن "تصدر الجزائر  للتعبير عن القرار في مجلس الأمن باسمها وباسم غيرها سيخلد في التاريخ بشكل غير مشرف".

مع ذلك، فإن ملامح انهيار التأثير الدبلوماسي الجزائري، ليس وليد اليوم ولا الشهور الماضية، بل إن تمرير قرار مجلس الأمن الأخير بخصوص الصحراء، نفسه، لم يكن، في نظر العديد من المتتبعين، سوى نتيجة حتمية للمسار الذي اتخذته الجزائر منذ سنوات، وأحد أبرز المقتنعين بذلك هو نور الدين بوكروح، الوزير الجزائري الأسبق وأحد المرشحين السابقين للانتخابات الرئاسية، الذي اعتبر أن بلاده "وُضعت في أسوأ موقف ممكن، في عزلة عن جيرانها المباشرين، وعن العالم العربي، والاتحاد الأوروبي"، وذلك في مقال نشره أواخر يوليوز الماضي.

بوكروح، الذي اختار مُكاشفةَ الدبلوماسية الجزائرية، في سياق كانت فيه الأمور تسير تدريجيا نحو تبني مجلس الأمن للقرار الداعم لمقترح الحكم الذاتي المغربي في الصحراء، أورد حينها أن "الأمور تبدو وكأنها تسير بسلاسة، والتبادلات دبلوماسية مهذبة، غير أن النتيجة لا مفر منها، سنخسر القضية الصحراوية"، التي قال إن الجزائر خسرت على ذلك الملف 50 مليار دولار خلال نصف قرن، مستغربا أيضا من ربط مصيرها بالقضيتين "الصحراوية والفلسطينية" دون نتيجة تذكر.

هذا الربط "المصيري" بين العمل الدبلوماسي الجزائري وقضية الصحراء، الذي تفوق حتى على "اهتمام" سلطات البلد المغاربي بالقضية الفلسطينية، هو أبرز مؤشر على أن جهاز التحكم في السياسة الخارجية يوجد بين يدي الجيش، وتحديدا رئيس الأركان السعيد شنقريحة، صاحب توصيف المغرب بـ"العدو الكلاسيكي"، والذي يعتبر أن الصحراء مسألة "سيادة" بالنسبة لبلاده، إذ ينتظر العسكري الثمانيني الذي لم يستسغ بعد مرارة حرب الرمال، "انتصارا" دبلوماسيا أو ميدانيا قبل رحيله.

هذا المسار، جعل الجزائر تفقد البوصلة على مستوى السياسة الخارجية، مع ما لذلك من تأثير داخلي واضح، حيث أصبحت علاقاتها بالدول الأخرى رهينة بمواقفها من ملف الصحراء، لذلك، نجد أنها قررت سنة 2021 قطع علاقاتها مع المغرب بعدما استحضرت كل أوجه الصراع منذ الستينات دون إغفال ملف الصحراء، ثم سحبت سفيرها من إسبانيا سنة 2022 لهذا السبب، مقررة قطع العلاقات من طرف واحد، قبل أن تعيدها بشكل فردي أيضا دون تسجيل أي تراجع من حكومة بيدرو سانشيز عن إعلان دعمها لمقترح الحكم الذاتي المغربي.

الأمر نفسه تكرر مع فرنسا سنة 2024، حين كان إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في رسالة إلى الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لجلوسه على العرش، اعترافَ باريس بالسيادة المغربية على الصحراء، نقطةَ البداية لصدام طويل وغير مسبوق مستمر إلى الآن، ما دفع وزير الداخلية الفرنسي السابق، برونو روتايو، إلى تذكير وسائل الإعلام قبل أيام، بمناسبة إطلاق سراح الكاتب بوعلام صنصال، أن قضية الصحراء هي سبب الأزمة مع باريس، وليس هو.

هذا الزواج الكاثوليكي بين قضية الصحراء ومصير الجزائر، أدى إلى حالة من التخبط في تعاملها مع العديد من الملفات الدبلوماسية والأمنية والاستراتيجية الحساسة، وهو أمر منطقي في ظل تعيين 3 وزراء للخارجية منذ وصول عبد المجيد تبون لرئاسة الجمهورية، وبعده مباشرة وصول شنقريحة إلى قيادة الجيش أواخر 2019.

وهكذا غادر صبري بوقدوم الوزارة أشهرا بعد الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، ثم أُقيل رمطان العمامرة بعد سنة بالضبط من رسالة سانشيز للملك محمد السادس التي غيرت الموقف الإسباني التقليدي من الصحراء، ثم جاء أحمد عطاف الذي رقي من وزير إلى وزير دولة، الذي في عهده جاء الاعتراف الفرنسي والدعم البريطاني والبرتغالي والبلجيكي للحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، والقرار الأممي 2797.

وبالموازاة مع ذلك، كانت الجزائر تخسر تدريجيا موقعها الدبلوماسي في القارة السمراء، المُكتسب منذ زمن "دعم حركات التحرر" في الستينات، ودخلت في صدام مباشر مع محيطها بالكامل تقريبا، وخصوصا منطقة الساحل، حيث أوقفت النيجر مشاركتها في مشروع خط الغاز، ثم بدأ العداء مع مالي التي تتهم قصر المرادية بدعم الحركات الانفصالية، أما في الصحراء، فإن العيون والداخلة تستقبلان منذ 2020 العديد من قنصليات دول القارة السمراء، في تعبير علني عن أن المغرب أصبح الأكثر تحكما في أوراق اللعب.

القفطان.. وأزمة الهوية عند الجزائريين

طُويت معركة أخرى أرادت الجزائر أن تخوضها ضد المغرب، وهذه المرة ليس في مجلس الأمن بخصوص قضية الصحراء، بل داخل أروقة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو"، التي تعقد ...

استطلاع رأي

مع قُرب انطلاق نهائيات كأس إفريقيا للأمم "المغرب2025".. من تتوقع أن يفوز باللقب من منتخبات شمال إفريقيا؟

Loading...