مجلة أمريكية: المغرب قاد تحولا استراتيجيا في ملف الصحراء حينماجعل من الاقتصاد عقيدة ديبلوماسية فعّالة لترسيخ سيادته على الأقاليم الجنوبية
قالت مجلة وورلد بريس ريفيو (WPR) الأمريكية، إن المشهد الدبلوماسي والاستراتيجي يعكس تحوّلا عميقا في عقيدة المغرب الدبلوماسية وطريقة إدارته لملف الصحراء، حيث برز الاقتصاد خلال السنوات الأخيرة كسلاح فعّال بيد الرباط لترسيخ سيادتها الوطنية، بعدما ظل البعد الأمني هو الإطار المهيمن على النقاشات لعدة عقود.
وهذا التحول، الذي رصدته مجلة وورلد بريس ريفيو (WPR) الأمريكية في تقرير تحليلي موسع، جاء نتيجة قراءة جديدة للواقع الجيوسياسي والاقتصادي حسبها، حيث أدركت المملكة أن المعركة على الصحراء لا تكسب فقط بالتحالفات السياسية والشرعية التاريخية والقانونية، بل أيضا بالحقائق التنموية التي يمكن أن تراها العيون وتلمسها الأيدي على الأرض.
المجلة، أوضحت أن الرباط استفادت إلى أقصى حد من إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، في 10 دجنبر 2020، اعترافه بسيادة المغرب على الصحراء لتحوّل ذلك الاعتراف إلى نقطة انطلاق لهجوم دبلوماسي مضاد هدفه كسب تأييد أوسع لموقفها لكن الجديد في هذه المرحلة هو نقل النقاش من زاوية أمنية ضيقة، ظلت لعقود تُقدَّم فيها الصحراء باعتبارها ملفا يتعلق بالصراع العسكري والسياسي، إلى خطاب جديد يضع التنمية الاقتصادية في صدارة المشهد، باعتبارها دليلا عمليا على قدرة المغرب على إدارة الإقليم وتنميته، وضمان استقراره ودمجه في الاقتصاد العالمي.
وهذا التوجه، وفق المصدر ذاته لم يأتِ من فراغ; بل يرتكز على إرث من المبادرات والمشاريع التي سبقت اعتراف واشنطن مشيرة إلى أن الملك محمد السادس، بتاريخ 7 نونبر 2015، كان قد ترأس بمدينة العيون وفي مناسبة رمزية تمثلت في الذكرى الأربعين للمسيرة الخضراء، حفل إطلاق "النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية"، وهو برنامج ضخم بميزانية 77 مليار درهم، يهدف إلى تحويل هذه الأقاليم إلى قطب اقتصادي متكامل من خلال مشاريع في البنية التحتية، الموانئ، الطاقات المتجددة، والربط الطرقي واللوجستي.
محمد لوليشكي، الممثل السابق للمغرب لدى الأمم المتحدة والباحث الرئيسي في" بوليسي سنتر فور ذا نيو ساوث"، أكد للمجلة الأمريكية أن هذا التغيير الاستراتيجي لعب دورا محوريا في تقوية مصداقية مقترح الحكم الذاتي، مشيرا إلى أن مشروع ميناء الداخلة الأطلسي يعد نموذجا لمبادرات البنية التحتية التي "تعزز بشكل ملموس سيادة المغرب، وتقدم رؤية بعيدة المدى للاستقرار، والربط الإقليمي، والتكامل الاقتصادي" فالميناء، إلى جانب دوره التجاري، يمثل رسالة جيو-اقتصادية مفادها أن الصحراء ليست منطقة نزاع جامدة، بل فضاء استثماري متحرك وجاذب.
وهذا التحول في المقاربة المغربية حسب المصدر ذاته، لاقى تجاوبا لدى قوى عالمية وازنة فالمملكة المتحدة، على سبيل المثال، حين أعلنت في يونيو الماضي دعمها لمبادرة الحكم الذاتي المغربية، لم تكتف بإصدار موقف سياسي بل ربطت ذلك، كما تقول وورلد بريس ريفيو، باستراتيجية اقتصادية تهدف إلى تعميق الروابط التجارية مع المغرب، وتوسيع الأسواق أمام الشركات البريطانية الباحثة عن فرص جديدة في إفريقيا وأوروبا.
فرنسا بدورها دخلت على الخط بدعم واضح لهذا التوجه، ففي رسالة موجهة إلى الملك محمد السادس بتاريخ 30 يناير 2024، وصف الرئيس إيمانويل ماكرون التنمية الاقتصادية والاجتماعية للأقاليم الجنوبية بأنها "أمر حتمي"، متعهدا بأن فرنسا ستواكب المغرب في هذا المسار لفائدة الساكنة المحلية، وهذا الالتزام الفرنسي يعكس وفق المصدر ذاته "وعيا بأن الاستثمار في الصحراء المغربية لا يقتصر على الربح الاقتصادي، بل يسهم في ترسيخ الاستقرار الإقليمي، وهو ما يخدم مصالح باريس كذلك".
وتشير المجلة الأمريكية إلى أن هذه الدينامية مرشحة للتصاعد في الأشهر المقبلة، خاصة بعد قرار إدارة ترامب تمويل مشاريع لشركات أمريكية في الأقاليم الجنوبية، ما يمنح زخما إضافيا للانخراط الدولي في تنمية المنطقة، ويؤكد أن الرؤية المغربية لم تعد محصورة في الإطار الإقليمي، بل تحولت إلى مشروع تنموي دولي يشارك فيه مستثمرون من عدة قارات.
لكن في مقابل هذا الزخم، تواجه هذه المقاربة حسب المصدر ذاته مقاومة شرسة من جبهة البوليساريو ومنظماتها الموالية في أوروبا، خاصة في بلجيكا وفرنسا وبريطانيا وهذه الجهات لجأت إلى تهديد الشركات الأوروبية التي تستثمر في الصحراء المغربية بمقاضاتها أمام المحاكم، كما أطلقت الجبهة تهديدات مباشرة بتنفيذ هجمات إرهابية ضد المؤسسات الأجنبية التي تنشط في المنطقة.
ورغم هذه التحذيرات، تكشف الوقائع على الأرض أن هذه الحملات لم تحقق أهدافها، إذ واصل مستثمرون عالميون افتتاح مكاتب لهم في مدينتي العيون والداخلة، في إشارة واضحة إلى الثقة التي تحظى بها بيئة الأعمال في الأقاليم الجنوبية.
ولفت المصدر ذاته، أن ما يميز هذا التحول في الخطاب المغربي أنه يجمع بين الواقعية والطموح فبدلا من الاكتفاء بالدفاع عن الموقف التاريخي والسياسي أمام المجتمع الدولي، يضع المغرب بين يدي العالم حقائق اقتصادية تنبض بالحياة وهو طرق سريعة، موانئ، مشاريع طاقة، مناطق لوجستية، واستثمارات أجنبية مباشرة، وهذه الإنجازات تمنح الموقف المغربي قوة إضافية، إذ يصعب المجادلة في شرعية السيادة حين تكون معززة بقدرة فعلية على تنمية الإقليم ودمجه في الاقتصاد العالمي.
إن الاقتصاد، كما تصفه وورلد بريس ريفيو، أصبح السلاح الجديد للمغرب في معركة الصحراء، ليس فقط لإقناع العواصم الكبرى، بل أيضا لتغيير الصورة النمطية التي حاول خصومه تكريسها لعقود، وبينما تستمر المشاريع التنموية في التوسع، يترسخ في أذهان الشركاء الدوليين أن الصحراء المغربية لم تعد ورقة مساومة سياسية، بل قصة نجاح تنموي تُكتب فصولها على مرأى ومسمع من العالم.
في السياق الأوسع للتحولات الجيوسياسية في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل، يمكن القول وفق المصدر ذاته، إن المقاربة الاقتصادية التي تبناها المغرب في إدارة ملف الصحراء تشكّل عنصرا فاعلا في إعادة تشكيل ميزان القوى الإقليمي فبينما تواصل الجزائر الداعم الرئيسي لجبهة البوليساريو، الاعتماد على خطاب سياسي-أمني جامد يربط الصحراء حصرا بالنزاع المسلح والمرافعات الدبلوماسية، يراكم المغرب أوراق قوة عملية على الأرض من خلال الاستثمار في البنية التحتية وربط الأقاليم الجنوبية بشبكات التجارة الإقليمية والدولية.
وهذا التحول يُضعف منطق "المناطق المتنازع عليها" الذي سعت الجبهة وأنصارها إلى تثبيته، ويستبدله بصورة "الأقاليم المندمجة" في النسيج الوطني والمحيط الاقتصادي العالمي ومع مرور الوقت، تصبح الاستثمارات الأجنبية والمشاريع الكبرى في الصحراء المغربية وقائع يصعب على أي طرف سياسي أو قانوني تجاهلها، بما يفرض على الفاعلين الدوليين التعامل مع الإقليم كجزء فعلي من الخريطة الاقتصادية للمغرب.
كما أن هذه الاستراتيجية، تمنح الرباط أداة ضغط ناعمة على المستوى الدبلوماسي، إذ تتجاوز لغة المطالبة بالاعتراف إلى لغة المصالح المشتركة، حيث يجد الشركاء الدوليون من باريس إلى لندن وواشنطن أن دعم خطة الحكم الذاتي والانخراط في التنمية المحلية يخدم أيضا مصالحهم التجارية والاستراتيجية في إفريقيا وأوروبا والأطلسي.
في المقابل، فإن غياب مشاريع تنموية بديلة لدى خصوم المغرب، والاكتفاء بخطاب التهديد أو اللجوء إلى المنازعات القضائية، يعمّق الفجوة بين خطابهم والحقائق الميدانية. هذا الواقع يجعل من المقاربة الاقتصادية المغربية ليس فقط استراتيجية لتعزيز السيادة، بل أداة لإعادة صياغة التوازنات الإقليمية، بما يكرس حضور المغرب كقوة استقرار ونمو في منطقة مضطربة جيوسياسيا، ويمهد لإغلاق تدريجي لملف الصحراء على قاعدة الحل الواقعي الذي يطرحه الحكم الذاتي.




