مليون شخص من سكان العاصمة الموريتانية نواكشوط مهددون بالعطش مع ارتفاع شديد لدرجات الحرارة
تواجه الحكومة الموريتانية تحدياً كبيراً يتمثل في أزمة عطش خانقة تضرب العاصمة نواكشوط، بالتزامن مع ارتفاع شديد في درجات الحرارة، ما فاقم معاناة نحو 2.5 مليون نسمة، يمثلون 54.5% من إجمالي سكان البلاد.
واستعصت الأزمة مؤخراً، مع تراجع نسبة توزيع المياه إلى أكثر من النصف، مما أثر بشكل مباشر على حياة أكثر من مليون شخص في العاصمة. وقد دفعت هذه الوضعية بعض السكان إلى التحرك، حيث انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي دعوات لتنظيم وقفات احتجاجية أمام شركة المياه. وبالفعل، خرج عشرات المواطنين إلى ساحة الحرية وسط العاصمة، حاملين عبوات مائية فارغة، تعبيراً عن أزمة العطش التي تدخل أسبوعها الثالث في بعض المناطق.
وأثارت الأزمة جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والشعبية، ووفرت فرصة للمعارضة لانتقاد النظام على خلفية “عدم القدرة على حل معضلة توفير ماء الشرب”، خصوصاً في أحياء تعاني من انقطاع المياه منذ أكثر من ثلاثة أسابيع، بحسب شهادات مواطنين نقلتها الصحافة.
وفي محاولة للتعامل مع الوضع، ألزمت الشركة الوطنية للماء أصحاب الصهاريج بشراء طن الماء بسعر 372 أوقية قديمة (أقل من دولار)، وبيعه بسعر 2000 أوقية (حوالي 6 دولارات). ورغم الإشادة بهذه الخطوة، اعتبر كثيرون أنها غير كافية لتغطية حاجة السكان المتضررين.
وتؤكد وزارة المياه والصرف الصحي أن توزيع المياه سيشهد تحسنا تدريجيا في مدينة نواكشوط خلال الأيام المقبلة، وذلك بعدما دخلت المنشأة الجديدة الخدمة الثلاثاء الماضي، وبدأ تشغيلها تدريجيا، حيث ساهم ذلك في معالجة المياه الخام المحملة بالطمي، ومكّن من استعادة جزء من القدرة الإنتاجية، تمهيدا لاستعادتها كليا بإذن الله.
وقالت الوزارة في بيان صادر عنها إن القطاع عبّأ كافة طواقمه وطاقاته الفنية لضمان استمرارية تشغيل المنشآت القديمة، رغم تراجع مستويات الإنتاج، وذلك من خلال مراقبة مستمرة على مدار الساعة. كما ساهمت أعمال الصيانة التي خضعت لها هذه المنشآت خلال الأشهر الماضية في تعزيز جاهزيتها وقدرتها على التكيف
مع الوضعية الطارئة.
وتعيد هذه الأزمة إلى الأذهان أزمة العطش التي شهدتها نواكشوط في صيف 2023، حين تفقد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني محطات المعالجة والضخ في مدينة كرمسين، مؤكدًا ضرورة إيجاد حلول عاجلة ومستديمة.
لكن مشروع آفطوط الساحلي، الذي يؤمن تزويد العاصمة بالمياه عبر شبكة تمتد 200 كيلومتر من نهر السنغال، يواجه تحديات متكررة بسبب الطمي، الذي يعيق تدفق المياه إلى محطات المعالجة مع كل موسم أمطار.
وتاريخياً، واجهت نواكشوط منذ تأسيسها عام 1959 مشاكل في التزود بالمياه. ووفق ما ورد في مذكرات الرئيس الراحل المختار ولد داداه، فإن فرنسا حفرت آباراً في إديني، لكن الكميات لم تكن كافية، ليتم لاحقاً بناء مصنع لتحلية مياه البحر أُغلق بسبب التكلفة، ثم اتجهت الدولة إلى الصين لحفر آبار ومد أنابيب ذات سعة مضاعفة.
وفيما تسعى الحكومة للتغلب على أزمتي الماء والكهرباء، وفي ظل وجود نصف أعضاء الحكومة في عطلتهم السنوية، تصاعدت حدة الانتقادات الموجهة للنظام من طرف أحزاب المعارضة ومدونين غاضبين، بين من يرى الواقع مريراً، ومن يعتبر أن خطاب السلطة يعرض إنجازات لا يلمسها المواطن في حياته اليومية.
ويرى مراقبون أن أزمة الماء والكهرباء تعكس أعطاباً بنيوية تراكمت على مدى سنوات، ما وضع الحكومة الحالية أمام “تركة ثقيلة” من الإهمال وسوء التخطيط. ومنذ وصول الرئيس الغزواني إلى الحكم، حاولت الحكومة الموازنة بين إصلاح الواقع وتأمين الحاجات الأساسية، في ظل هشاشة البنى التحتية وارتفاع الضغط السكاني، إلا أن خصوم النظام يحمّلونه مسؤولية غياب الاستباق وضعف المعالجات.
وفي الوقت الذي تتحدث فيه الحكومة عن حصيلة إيجابية بعد عام من المأمورية الثانية، ترى المعارضة أن الوضع الخدمي المأزوم يكشف عن إخفاقات واضحة في تسيير أبسط الملفات المرتبطة بحياة الناس.
وفي ذروة الأزمة، أصدر حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية (تواصل) بياناً نارياً حمّل فيه النظام مسؤولية “الإهمال والتقصير الخطير”، واصفاً الوضع بـ”الانحدار المهين في الحد الأدنى من الخدمات”. وأكد الحزب أن “واجهة نواكشوط السياسية تغرق في ظلام دامس، بينما يلهث الناس خلف سراب ماء لا يُدرك”.
واعتبر الحزب التبريرات الرسمية حول الطمي الموسمي “واهية ومكررة”، مشيراً إلى أن الظاهرة معروفة ومتكررة، ولا يمكن استخدامها لتبرير الإخفاق في الاستعداد.
ودعا الحزب إلى فتح تحقيق جدي وشفاف للكشف عن الأسباب الحقيقية للأزمة، ومحاسبة كل من يثبت تقصيره. كما شدد على ضرورة تزويد الأحياء المتضررة بالماء، خاصة الواقعة في أطراف المدينة، والتي تسكنها فئات هشة تعاني الفقر والتهميش.
وطالب الحزب أيضاً بانتقال جذري من المعالجات المؤقتة إلى حلول مستدامة تضمن توفير خدمات الماء والكهرباء بشكل دائم، باعتبارها من أساسيات العيش الكريم.
واعتبر بيان تواصل أن التعامل مع الأزمات يجب أن يتم ضمن رؤية شاملة لإصلاح قطاع الخدمات العمومية، تضع المواطن في صلب السياسات الحكومية.
ولقي البيان تفاعلاً واسعاً، خاصة في المقطع الذي انتقد التناقض بين الاحتفالات الرسمية بمرور عام على المأمورية الثانية، ومعاناة المواطنين، حيث جاء فيه: “في الوقت الذي تنشغل فيه السلطة بتنظيم مهرجانات كرنفالية، يجوب مئات النساء والأطفال شوارع العاصمة بحثاً عن شربة ماء أصبحت أغلى من الخبز”.
هذا التوصيف اعتُبر من قبل خصوم النظام “ضربة رمزية قوية”، تجسد التناقض بين الخطاب الرسمي وواقع المواطن المعيشي.
وعلى مواقع التواصل، أطلق مدونون وسوماً تطالب بإقالة مسؤولي شركتي الماء والكهرباء، وسط اتهامات بفشل التخطيط وغياب الرقابة. كما انتقدت منشورات عديدة ما وصفته بـ”الفجوة” بين الخطاب الوردي والواقع الصعب، في وقت تتحدث فيه وسائل الإعلام الحكومية عن إنجازات في البنية التحتية.
ويرى متابعون أن هذه الأزمة قد تكون بداية تآكل في الثقة بين الشارع والسلطة، خاصة إذا استمرت حالة التجاهل للمطالب العاجلة. ويحذر البعض من أن الأزمات الخدمية قد تشكل أرضية لإعادة تعبئة المعارضة، وتوسيع فجوة الانقسام السياسي.
وفي نهاية المطاف، تؤكد المعارضة أن الخدمات الأساسية لم تعد رفاهية، بل حق يومي ومؤشر مباشر على مصداقية أي خطاب سياسي أو مشروع إصلاحي.





تعليقات
بإمكانكم تغيير ترتيب الآراء حسب الاختيارات أسفله :