من المسطرة الجنائية إلى قانون الإضراب.. نصوصٌ تُمرر في ظل غياب مئات النواب واختفاء الوزراء وتجميد مبدأ "ربط المسؤولية بالمحاسبة"
يتواصل مشهد الغياب الصارخ لنواب الأمة عن الجلسات التشريعية داخل مجلس النواب، في وقت تُعرض فيه قوانين مفصلية تمس بشكل مباشر حياة المواطنين، وتطال المنظومة القانونية والحقوقية والإعلامية في البلاد، الأمر الذي تنضاف إليه أيضا ظاهرة غبار وزراء حكومة عزيز أخنوش عن البرلمان.
ففي جلسة عمومية عُقدت يوم أمس الثلاثاء، خُصصت للدراسة والتصويت على مجموعة من النصوص التشريعية الجاهزة، غاب عنها أكثر من 300 نائب من أصل 395، رغم أن جدول الأعمال شمل قوانين توصف بـ"الاستراتيجية"، من بينها مشروع قانون المسطرة الجنائية، ومشروع قانون التراجمة المحلفين، إضافة إلى مشروع القانون المتعلق بإعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة.
ومع أن هذه النصوص تُعد حيوية، لتأثيرها المباشر على العدالة وحقوق المتقاضين وضمانات الترجمة القضائية وتنظيم القطاع الإعلامي، إلا أن التعامل البرلماني معها افتقر إلى الجدية المطلوبة، فقد تم اعتماد مشروع قانون المسطرة الجنائية بموافقة 47 نائبًا فقط، مقابل معارضة 15، دون تسجيل أي امتناع، رغم أن هذا النص يشكل أحد أهم مرتكزات العدالة الجنائية، ومن المفترض أن يُعزز مبادئ المحاكمة العادلة ويقوي العلاقة بين المواطن ومؤسسات القضاء.
الظاهرة لم تعد معزولة أو استثنائية، بل تحولت ربما إلى قاعدة يتكرس حضورها في كل محطة تشريعية كبرى، بل حتى في اللحظات التي يُفترض أن يجتمع فيها البرلمان بكامل هيئته لمناقشة قضايا تهم حاضر المغاربة ومستقبلهم، ففي جلسة سابقة خصصت لمناقشة مشروع قانون الإضراب، لم يحضر سوى 104 نواب من أصل 395، بينما غاب عنها حوالي 291 نائبا، رغم أن النص يهم حقا دستوريا طالما شكل موضوع توتر اجتماعي مستمر، وصوت خلاله 84 نائبًا لصالح المشروع مقابل 20 معارِضًا، في استعراض جديد لـ"ديمقراطية الحد الأدنى".
أما الجلسة المخصصة لمناقشة مشروع قانون المالية لسنة 2025، وهي اللحظة التشريعية السنوية الأهم، فقد شهدت بدورها نسبة غياب قاربت 52% من النواب، في استهانة غير مسبوقة بإحدى المحطات الدستورية التي يُفترض أن تشكل فضاء لتقاطع الرؤى ومساءلة الحكومة حول أولوياتها المالية والاجتماعية والاقتصادية.
ولم يقتصر الغياب على النواب، بل امتد إلى أعضاء الحكومة أنفسهم، بعدما سُجل غياب لافت لعدد من الوزراء عن جلسة الأسئلة الشفهية ليوم الاثنين الماضي، ما اضطر رئاسة الجلسة إلى رفعها طبقًا لأحكام الفصل 100 من الدستور ومقتضيات النظام الداخلي لمجلس النواب، في مشهد يُجسد ضعف التفاعل الحكومي مع آلية دستورية أساسية تتيح للمواطنين، عبر ممثليهم، مساءلة السلطة التنفيذية حول السياسات العمومية.
الواقعة جاءت بعد أسابيع قليلة فقط من توجيه مكتب مجلس النواب لمراسلة رسمية إلى الحكومة، عبر الوزير المكلف بالعلاقات مع البرلمان، في بداية شهر يوليوز الجاري، طالب فيها بضرورة احترام الجلسات المخصصة للأسئلة الشفهية، وحثّ الوزراء على الحضور المنتظم، إلا في الحالات الطارئة، لكن رغم هذا التنبيه، ظل الغياب سيد الموقف.
ويُخلف هذا الغياب المتكرر، سواء من طرف النواب أو الوزراء، أثرًا بالغ السلبية على صورة المؤسسة التشريعية لدى الرأي العام، ويُعمق من أزمة الثقة بين المواطن وممثليه داخل البرلمان، ففي وقت تنتظر فيه فئات واسعة من المجتمع أن تُناقش قضاياها العاجلة في قبة البرلمان، تجد نفسها أمام مشهد كراسي فارغة، وقرارات تُمرّر دون نقاش يُذكر، ما يعزز الإحساس بأن العمل البرلماني بات منفصلا عن الواقع الاجتماعي، ولا يعكس حجم التحديات التي تعيشها البلاد.