استثمارات بـ243 مليار درهم وإنجاز 75% من مشاريع تقليص الفوارق.. هل ينجح المغرب في تجاوز مفارقة "مغرب السرعتين"؟
في الوقت الذي يتقدم فيه النقاش العمومي بالمغرب نحو مساءلة النموذج التنموي من زاوية العدالة المجالية وقدرته على كسر منطق "مغرب السرعتين" قدّم وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت معطيات رسمية حول حصيلة البرامج التي تستهدف تقليص الفوارق الترابية والاجتماعية، كاشفا عن حجم استثماري غير مسبوق يلامس مجموع جهات المملكة الإثني عشر.
لفتيت، وفي جواب كتابي على سؤال للبرلمانية عن الفريق الحركي حول ضمان العدالة المجالية في تنزيل مشاريع النموذج التنموي الجديد، أعلن الوزير أن مجموع الاعتمادات المالية المعبأة لبرامج التنمية الجهوية يبلغ 243,293 مليار درهم، من ضمنها 74,829 مليار درهم كمساهمات مالية مباشرة لفائدة الجهات، تغطي تنفيذ 2101 مشروعا تمت المصادقة عليها ضمن برامج التنمية الجهوية للجهات الاثنتي عشرة، وذلك تفعيلا لمقتضيات القانون التنظيمي المتعلق بالجهات الذي جعل من التنمية الترابية أحد أعمدته الأساسية.
وتأتي هذه الأرقام محمولة بخلفية سياسية واضحة، يمكن ربطها بالتوجيهات الواردة في الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش الأخير الذي شدد فيه الملك محمد السادس على أن تحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية ومحاربة الفوارق لا يعد خيارا تقنيا أو ظرفيا، بل "توجها استراتيجيا ورهانا مصيريا" يحكم مختلف السياسات العمومية.
بهذا المعنى، تحاول وزارة الداخلية أن تُظهر أن الدولة لم تعد تتعامل مع الفوارق الترابية بمنطق التدخل الجزئي أو الحلول الظرفية بل ضمن رؤية أوسع تسعى إلى إعادة هندسة العلاقة بين الدولة والمجالات الترابية على أساس الإنصاف وتكافؤ الفرص.
وفي هذا الإطار، أكد لفتيت أن الوزارة تولي عناية خاصة للمناطق الأكثر هشاشة في ضوء خصوصياتها الاجتماعية والجغرافية والاقتصادية عبر تفعيل آليات متعددة تشمل التنمية المستدامة للسواحل الوطنية، وتوسيع نطاق برنامج "المراكز القروية الناشئة" بما يسمح بتقريب الخدمات الإدارية والاجتماعية والاقتصادية من المواطنين في العالم القروي إلى جانب محاولة "تدارك الفوارق" بالانتقال من المقاربات التقليدية التي أثبتت محدوديتها إلى مقاربة "التنمية المجالية المندمجة" التي تتعامل مع المجال باعتباره وحدة متماسكة تتقاطع داخلها البنيات التحتية والخدمات الأساسية والاستثمار العمومي.
وبعد سنوات من النقاش حول الجهوية المتقدمة باعتبارها إطارا مؤسساتيا لإعادة توزيع السلطة والموارد، يبدو أن الدولة تحاول إعطاء مضمون عملي لهذا الورش إذ يشير وزير الداخلية إلى مواكبة الوزارة لمجالس الجهات في إعداد مشاريع التصاميم الجهوية لإعداد التراب باعتبارها وثائق مرجعية استراتيجية على مدى خمسة وعشرين عاما.
وقد تم بالفعل التأشير على 12 مقررا غطت جميع جهات المملكة، مع التنسيق المستمر مع قطاع التعمير لتتبع المخططات التوجيهية للتهيئة العمرانية، في إطار مقاربة تشاورية تهدف إلى ضمان انسجام المشاريع المندمجة وقابليتها للتنفيذ السريع والأثر المباشر على الساكنة. هذا الربط بين التخطيط الترابي الطويل المدى وبين مشاريع التنمية يهدف، وفق الخطاب الرسمي، إلى كسر منطق التنمية المبعثرة وغير المتناسقة.
وفي قلب هذه الدينامية، يبرز برنامج تقليص الفوارق المجالية والاجتماعية بالوسط القروي، الذي انطلق تبعا للخطاب الملكي في 30 يوليوز 2015، بميزانية إجمالية تقارب 50 مليار درهم، فبحسب المعطيات التي قدّمها لفتيت، تم وضع سبعة مخططات عمل جهوية سنوية لتنمية المجال القروي والمناطق الجبلية بقيمة إجمالية تناهز 49,25 مليار درهم، رُصد منها فعليا 45,57 مليار درهم، أي بنسبة تعبئة مالية تبلغ 99 في المائة من الميزانية الإجمالية.
وعلى مستوى التنفيذ الميداني، تشير الأرقام إلى إتمام 8170 مشروعا من أصل 10939 مشروعا مبرمجا، أي بنسبة إنجاز تصل إلى 75 في المائة، بينما تظل 1464 مشروعا في طور الإنجاز بنسبة 13 في المائة.
وتغطي هذه المشاريع سلسلة واسعة من القطاعات الحيوية بما فيها 2511 مشروعا للطرق والمسالك القروية، 1981 مشروعا لتأهيل قطاع التعليم، 1273 مشروعا لقطاع الصحة، و943 مشروعا للتزود بالماء الصالح للشرب وهي قطاعات ليست ثانوية في حياة سكان القرى والجبال، بل تمثل شروط العيش الأساسية وإمكانية البقاء داخل المجال دون اضطرار إلى الهجرة نحو المدن الكبرى.
ولم تكتف وزارة الداخلية بهذه البرامج، بل أعلنت أيضا إصدار دورية وزارية بتاريخ 31 ماي 2024 تتعلق بمنهجية إعداد العقود بين الدولة والجهات لتنزيل برامج التنمية الجهوية الخاصة بالعهدة الانتدابية 2022-2027، في محاولة لإرساء نموذج تعاقدي جديد يهدف إلى تجويد محتوى البرامج وتأطير المجالس الجهوية مع الالتزام بأن تكون المضامين متلائمة مع برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية وتصاميم التهيئة العمرانية وباقي الوثائق المرجعية للتخطيط الترابي وبهذا، تحاول الدولة الانتقال من منطق التمويل المجرد إلى منطق التعاقد المرتبط بالأهداف، في إطار حكامة يُفترض أن تكون أكثر وضوحا ومساءلة.
وشدد وزير الداخلية على أن ضمان العدالة المجالية يرتكز على تفعيل مبدأ الجهوية المتقدمة وتثمين الخصوصيات المحلية، مع اعتماد عمل اللجن الوطنية والجهوية كآلية لتسريع وتيرة الإنجاز وتوجيه الاستثمارات نحو المناطق الأقل نموا بناء على خرائط تقنية توثق تموضع الفوارق وتحدد الأولويات والاحتياجات بدقة.
ويرى إدريس المنصوري، أستاذ الحكامة الترابية وسياسات التنمية، أن "ما نراه اليوم هو محاولة لإعادة كتابة العقد الترابي للدولة أكثر مما هو مجرد تنفيذ لبرامج استثمارية ظرفية".
وأوضح المنصوري، في تصريح لـ "الصحيفة" أن "القضية الجوهرية ليست في حجم الغلاف المالي ولا في عدد المشاريع المعلن عنها بل في الكيفية التي تُصاغ بها القرارات على المستوى الجهوي، ومن يملك سلطة ترتيب الأولويات وكيف تُراقَب النتائج على المدى المتوسط والبعيد" معتبرا أنه "إذا ظلت المبادرة والتخطيط متمركزة في الإدارة المركزية وظلت الجهات مجرد منفذة لبرامج جاهزة سنكون أمام تحديث شكلي للخطاب دون تغيير حقيقي في بنية السلطة الترابية".
وشدد المتحدث على أن "العدالة المجالية تقتضي إعادة توزيع الفعل السياسي والقدرة على القرار وإدماج الفاعلين المحليين والمنتخبين والمجتمع المدني في صياغة البرامج ومساءلتها وإلا ستظل الفوارق تتجدد بصيغ مختلفة حتى ولو تغيرت لغة التقارير والأرقام" مضيفا: "الرهان الحقيقي هو الانتقال من منطق تعميم المشاريع إلى منطق تعميم القدرة على صناعة التنمية وهذا هو الفارق بين دولة تُقلّص الفوارق بشكل مستدام، ودولة تُديرها تكتيكيا كلما اشتد الضغط الاجتماعي أو السياسي".




