فاجعة مليلية.. حتى لا يدفع المغرب الضريبةَ وحده!

 فاجعة مليلية.. حتى لا يدفع المغرب الضريبةَ وحده!
الصحيفة - افتتاحية
الأثنين 27 يونيو 2022 - 18:40

يستحق يوم 24 يونيو 2022 أن يوصف بأنه يوم "الجمعة الأسود" بسبب الفاجعة التي شهدها سياج مدينة مليلية جراء الهجوم القياسي للمهاجرين غير النظاميين المنتمين للعديد من الدول الإفريقية، هؤلاء الذين أرادوا استغلال مرحلة عودة نشاط المعبر الحدودي للدخول إلى المدينة الخاضعة للسلطة الإسبانية والمتنازع على سيادتها مع المغرب، والمؤكد أن ما حدث يستحق وصف "المأساة" دون أدنى مبالغة، لكنه يستحق أيضا وقفة مطولة وموضوعية تجاه هذا الوضع غير الطبيعي ولا المنطقي، الذي تدفع الرباط الجزء الأكبر من ضريبته.

لنقف أولا عند بعض تفاصيل ما جرى، لأن الأمر سيُوضح الصورة أكثر وسيجعل الأحكام أقل راديكالية وشعبوية وأكثر إنصافا وواقعية.. إننا هذه المرة لا نتحدث عن محاولة المئات أو العشرات من المهاجرين غير النظاميين لاقتحام السياج الحدودي عُنوة وفقط، بل عن محاولة شديدة التنظيم، شارك فيها حوالي 2000 شخص وبدأت إرهاصاتها الأولى من يوم الخميس حين هاجموا القوات المغربية بواسطة العصي والحجارة والقضبان الحديدية وحتى "الخطافات"، وهي عبارة عن قطع معدنية حادة ومعقوفة يمكن أن تؤدي إلى إصابات قاتلة.

لقد قدم هؤلاء المهاجرين من الغابات المحيطة بإقليم الناظور، وتجمعوا بشكل منظم استقام فيه الكثيرون منهم في الصفوف الأولى باعتبارهم "المقاتلين" الذين سيواجهون القوات المغربية مباشرة، لأن الرغبة في دخول المدينة كانت هذه المرة جامحة، حتى لو أصبحت تكلفتها غالية جدا، وهو كلام لم يصدر عن وسائل الإعلام المغربية أو الإسبانية ولا عن سلطات البلدين، بل نقلته شبكة "دوتش فيله" الألمانية عن أحد المرشحين والذي قال "كان الأمر مثل حرب... جئنا حاملين الحجارة لنقاتل القوات المغربية لكنهم ضربونا".

السيناريو الذي شهده محيط مليلية هو بالتأكيد الأسوأ في تاريخ محاولات الاقتحام، والمؤكد أن ما أدى إلى سقوط 23 قتيلا لم تكن هراوات عناصر الأمن المغربي، أو على الأقل ليست وحدها، لأن ما نقلته صحيفة "إلباييس" في اليوم نفسه هو أن العديد من الضحايا ماتوا اختناقا ودهسا، وبعضهم سقطوا من أعلى السياج الحدودي المرتفع بعدما تمكنوا بالفعل من تسلقوه، لذلك يبدو تحميل المغرب وحده المسؤولية الإنسانية تجاه ما حدث ضربا من الكلام المُرسَل.

إن مسؤولية المغرب المباشرة على الواقعة المأساوية، ووصف تدخل قواتها بأنها "إعدامات" كما قالت الخارجية الجزائرية في تصريح سياسوي يستغل مأساة إنسانية لتسجيل نقاط دبلوماسية في المرمى غير الصحيح، هو أمر ساذج ولا شك، لأن رئيس الوزراء الإسباني، العارف جيدا بحجم المأساة وبطبيعة المنطقة، برأ المغرب فورا من أي مسؤولية، بل لفت إلى أن الأمر يتعلق بنشاط مافيا الاتجار بالبشر، وهو كلام يفسر الطريقة المنظمة غير المسبوقة التي تم بها الهجوم.

لكن في المقابل، فإن المغرب، قطعا، يتحمل المسؤولية غير المباشرة، والحديث هنا ليس عن الطريقة التي تم بها تدخل القوات والتي انتهت بإصابة العشرات منهم أيضا، لكن عن الفترة التي سبقت الهجوم، لأن الصغير والكبير كان يعرف أن محيط مليلية يعج بالمخيمات التي تأوي مهاجرين غير نظاميين ينظرون فقط الفرصة للتسلل إلى المدينة المحتلة، وبعضهم طال بهم الانتظار منذ سنوات لدرجة أن حياتهم أصبحت لديهم قابلة للمقامرة من أجل فرصة للوصول إلى ما يعتقدون أنها "قطعة من إسبانيا".

وتتحمل الرباط المسؤولية أيضا لأنها وافقت ولا زالت توافق على لعب دور الدركي للحدود الأوروبية، بما فيها حدود مدينتين تطالب تاريخيا بالسيادة عليهما، وتتعامل بالكثير من البرود مع خطابات اليمينيين الإسبان تارة، التي تتهمها بـ"ابتزاز" مدريد، وخطابات أقصى اليسار تارة، التي تستعين بالخطاب الحقوقي لإلصاق أوصاف انعدام الإنسانية بالمغرب، والحال أن الطرفين يطلبان المتناقضات دون أن يعلما بحقيقة الوضع المعقد في المنطقة.

إن أول من يجب أن يُلام في كل هذا هي إسبانيا، لأنها علمت في أحداث سبتة، شهر ماي من سنة 2021، أن ما يتصدى له المغرب أعنف وأصعب بكثير مما تعتقده، وهو ما تحققت منه مرة أخرى في مليلية، لكنها لا زالت تتعامل مع موضوع المهاجرين غير النظاميين كورقة مساومة معتقدة أن المغرب حين يقدم أرواح أبنائه لمواجهة الرغبات الجامحة لآلاف المهاجرين غير النظاميين في الوصول إلى الجانب الآخر، فإنه يقوم بواجبه الطبيعي لا أكثر.

والمؤكد أن مدريد اليوم والاتحاد الأوروبي معها، عليهما أن يتعاملا مع الأمر بكثير من الجدية والليونة، وأن يواجها حقيقة واضحة كالشمس لا يمكن لأي غربال أن يغطيها، وهي أن الحديث عن كون سبتة ومليلية جزءا من الحدود الأوروبية أمر غير منطقي، بل ضرب من الجنون والصبيانية... إننا أمام منطقة تنتمي إلى إفريقيا جغرافيا، والإصرار على اقتطاعها منها سياسيا يجعلها كالمغناطيس الذي يجذب مشاكل لا حصر لها، والإنصاف يقتضي ألا يتحمل مسؤولية ذلك إلا من يُصر على استمرار هذا الوضع لا من يرغب في تغييره.

هل الدولة الجزائرية عبارة عن "هجرة غير شرعية في التاريخ"؟

في حوار أجريناه في "الصحيفة" شهر غشت من سنة 2021 مع نور الدين بوكروح الذي يعتبر من السياسيين والمثقفين القلائل في الجزائر الذين ينتقدون "نظام الحكم" في البلاد المبني على ...