د.محمد كرواوي
الأربعاء 27 غشت 2025 - 1:13

الأبعاد الاستراتيجية لمشروع القانون الأمريكي H.R.4119 حول الصحراء المغربية

لم يكن إدراج مشروع القانون الأمريكي H.R.4119 في الرابع والعشرين من يونيو 2025 إجراء تقنيا عابرا، بل إشارة سياسية كثيفة الدلالة تفصح عن انتقال واشنطن من مقاربة نزاع الصحراء بوصفه ملفا تفاوضيا طويل النفس إلى إدراجه في لغة الردع والأمن ومكافحة الإرهاب.

فالمبادرة التي تقدم بها النائب الجمهوري جو ويلسون، وقد لاقت التفاتا عابرا للانقسام الحزبي، لا تعامل البوليساريو باعتبارها فاعلا سياسيا متنازعا على تمثيله فحسب، بل تضعه ضمن شبكة التهديدات العابرة للحدود التي تتداخل فيها موارد الدعم، وقنوات التمويل، وخطوط الاتصال مع فاعلين غير دوليين وشبكات إقليمية. بهذا المعنى، يتحول النص من اقتراح داخل الكونغرس إلى أداة تأطير استراتيجية: فهو يرفع النزاع من حيز التفاوض إلى حقل الأمن، ومن منطق التزاحم الدبلوماسي إلى منطق تقنين المخاطر وإدارتها.

أولا، الكونغرس الأمريكي يفتح جبهة جديدة في ملف الصحراء المغربية:

على خلاف ما شاع في بعض القراءات الأولية، فإن مهلة التسعين يوما المنصوص عليها في المشروع ليست ساعة تشريعية بدأت تدق منذ تاريخ الإيداع، بل هي مهلة تنفيذية مؤجلة لا تنطلق إلا من تاريخ النفاذ؛ أي بعد استكمال المسار التشريعي (مرورا باللجان والتصويت في مجلسي النواب والشيوخ) وتوقيع الرئيس، أو تجاوز الفيتو وفقا للإجراءات الدستورية.

عندئذ، وفقط عندئذ، يلتزم وزيرا الخارجية والخزانة بتقديم التقييمات والإخطارات المطلوبة خلال تسعين يوما من تاريخ سن القانون، وهي أيام تقويمية لا تؤخر إلا إذا نص القانون النهائي على تاريخ نفاذ مختلف أو فواصل تنفيذية خاصة.

وإلى جانب ذلك، يلزم المشروع الإدارة برفع تقرير أوسع خلال مئة وثمانين يوما يغطي القيادة، وشبكات الدعم، والارتباطات المحتملة، وأنماط استهداف المدنيين. أما قبل النفاذ، فلا عداد يعمل ولا التزام قانوني قائم؛ يوجد فقط أثر سياسي معتبر ناتج عن دخول النص القانوني إلى سجل التشريع وما يخلقه من توقعات وسلوكيات احترازية لدى الفاعلين.

لكن أهمية المشروع لا تختزل في تقنياته الزمنية؛ فوظيفته الأعمق هي إعادة تعريف الشرعية في النزاع. إذ يربط المشروع، بين احتمال التصنيف والعقوبات من جهة، وبين الاستعداد الجدي للانخراط في مسار الحكم الذاتي من جهة مقابلة. هكذا تنتقل مبادرة الحكم الذاتي المغربية من كونها عرضا تفاوضيا مطروحا على مائدة الأمم المتحدة إلى معيار مقنن تقاس به النوايا والسياسات، وتبنى عليه قرارات الردع والحوافز. إننا أمام تحويل هادئ لكن حاسم: القانون لا يستهدف تجريم طرف بقدر ما يسعى إلى تقنين مسار الحل، بحيث يصبح الالتزام بالحكم الذاتي بوابة الإعفاء، ويغدو رفضه سببا مولدا للمساءلة.

وتتبدى الأبعاد الاستراتيجية لهذا التحول حين ننظر إلى قنوات الأثر التي يفتحها المشروع، حتى قبل إقراره النهائي. أولا، على مستوى الدبلوماسية، يرفع المشروع سقف الاصطفاف الغربي حول المقاربة المغربية، إذ يحول الدعم السياسي إلى التزام مؤسسي قابل للتفعيل. ثانيا، على مستوى الامتثال المالي والاقتصادي (compliance)، يبعث المشروع بإشارة مبكرة إلى المصارف، وشركات الشحن، والوسطاء اللوجستيين، بأن مخاطر السمعة والعقوبات الثانوية قد تطال كل كيان يسهل تمويل الجبهة أو يمرر مواردها، بما يضيق عمليا شرايين الحركة غير الرسمية.

ثالثا، على مستوى الأمن والتعاون الاستخباري، يضع المغرب، باعتباره شريكا في مكافحة الإرهاب وحارسا لواجهة المتوسط والساحل، في موقع تفاوضي أمتن داخل منظومات المشاركة المعلوماتية، وصفقات التسليح، والبرامج المشتركة لحماية الحدود. ورابعا، على مستوى الشرعية الأممية، يمنح المشروع دفعة للمسار الأممي عبر تغيير البيئة المحيطة به: فحين يصير الحكم الذاتي معيارا تشريعيا لدى القوة المهيمنة دوليا، تتحول المرجعية الواقعية للمفاوضات من سوق مقترحات مفتوح إلى نقطة جذب يعيد عندها الوسطاء والأطراف ترتيب هوامشهم. بهذا التفصيل، يتبدى أن مشروع H.R.4119 ليس مهلة تعد، بل رافعة استراتيجية تعيد توزيع الأوزان على رقعة النزاع.

ثانيا، مبادرة الحكم الذاتي تتحول إلى مرجعية قانونية دولية:

الأهمية الأكبر للمشروع الأمريكي تكمن في كونه يضع مبادرة الحكم الذاتي المغربية في موقع المعيار. فهو لا يكتفي بتهديد الجبهة بالعقوبات، بل يربط مصيرها السياسي والأمني بمدى استعدادها للانخراط في تنفيذ هذا المخطط. هنا نلمس التحول الجوهري: المبادرة التي قدمها المغرب سنة 2007 بوصفها حلا تفاوضيا أصبحت الآن معيارا دوليا ضمن نص تشريعي في الكونغرس. وهذا الارتقاء يعني أن المقاربة المغربية لم تعد مجرد خيار سياسي من بين خيارات، بل باتت الشرط الذي يحدد مشروعية الأطراف.

على المستوى الإقليمي، يفتح هذا التطور نافذة استراتيجية أمام المغرب. فهو لم يعد يواجه الجبهة وحدها، بل جعل من التشريع الأمريكي نفسه سندا إضافيا لشرعيته. وهنا تبرز إحدى أهم المكاسب: أن الرباط باتت تستطيع أن تعرض مقترحها باعتباره مدعوما ليس فقط بتأييد سياسي متزايد من العواصم الغربية، بل أيضا بمسار تشريعي قادر على فرض عقوبات وردع. وهذا يعزز موقعها الدبلوماسي ويضع الجزائر في موقف حرج؛ فدعمها للجبهة لم يعد خطابا سياسيا مشروعا في نظر واشنطن، بل أصبح رهينة لشبهة ارتباط بالإرهاب.

إن مكسب المغرب يتجاوز الدعم المباشر ليطال صورته الدولية. فهو لم يعد مجرد طرف في نزاع حدودي، بل أصبح يقدم كشريك استراتيجي في الاستقرار الإقليمي. هذه النقلة تظهر كيف أن مشروع H.R.4119 لا يقتصر على استهداف البوليساريو، بل يعيد توزيع الأدوار في المنطقة: المغرب في موقع الشريك الموثوق، والجزائر في موقع الداعم المشكوك فيه. وهذا التوزيع يعكس رؤية غربية ترى أن مستقبل الأمن في المنطقة مرتبط بمصداقية الفاعلين وقدرتهم على المساهمة في محاربة الإرهاب.

كما أن للمشروع أبعادا دولية أوسع. فحين يتبنى الكونغرس الأمريكي مبادرة الحكم الذاتي كمرجعية، فهو يبعث بإشارة إلى شركاء واشنطن في أوروبا وإفريقيا بأن هذا هو الإطار الواقعي للحل. وبذلك، لا يعود النزاع موضوعا لتوازنات مفتوحة، بل يصبح الحل المغربي هو القاعدة التي تبنى عليها المواقف. وهنا يظهر أثر النص حتى قبل أن يقر: إنه يعيد صياغة النقاش الدولي ويحوله من خلاف مفتوح إلى مسار يتبلور حول حل واحد.

ثالثا، الجزائر في قلب المساءلة: من داعم سياسي إلى طرف معرض للعقوبات:

لم يعد بالإمكان اليوم النظر إلى موقع الجزائر في النزاع كما كان ينظر إليه في السابق، أي باعتبارها بلدا جارا يدعم "حق تقرير المصير" من زاوية سياسية أو أيديولوجية. فمع إدراج مشروع القانون الأمريكي H.R.4119، بات الدعم الجزائري للجبهة موضوعا قابلا للتأويل في لغة الأمن والإرهاب، لا في لغة السياسة وحدها.

إن الجزائر، التي كانت تستثمر خطاب "التضامن مع حركات التحرر"، تجد نفسها الآن أمام احتمال أن يقرأ هذا التضامن نفسه باعتباره توفيرا لمأوى ورعاية لكيان ينظر إليه دوليا كتهديد أمني. وهنا يتحول الدعم السياسي إلى مخاطرة قانونية، ويتحول الموقف الأيديولوجي إلى عبء استراتيجي يهدد صورتها الدولية.

فالمشروع الأمريكي، حتى قبل إقراره، يفتح الباب أمام استخدام أدوات قانونية صريحة مثل قانون "ماغنيتسكي" العالمي، التي تتيح فرض عقوبات على أفراد أو مؤسسات أو شبكات يثبت تورطها في تقديم دعم مالي أو لوجستي لجهات مصنفة إرهابية. وهذا يعني أن الجزائر، بوصفها الدولة التي تستضيف قيادة البوليساريو وتوفر لها قواعد خلفية، قد تعرض نفسها، أو على الأقل بعض أجهزتها ومؤسساتها، إلى شبهة التواطؤ مع تنظيم تلاحقه القوانين الدولية.

ولئن كان المشروع لا يصرح علانية باستهداف الجزائر، فإن المنطق القانوني الذي يحكمه يجعلها في موقع الشريك الضمني الذي قد يحاسب على أفعاله إذا تطور المسار إلى تصنيف رسمي.

إن المخاطر لا تتوقف عند الجانب القانوني، بل تمتد إلى المجال السياسي والدبلوماسي. فإذا تحولت البوليساريو إلى منظمة مصنفة إرهابية بموجب القانون الأمريكي، فإن أي دعم معلن أو غير معلن من الجزائر سيصبح ورقة ضغط في يد خصومها، وحجة بيد شركائها الغربيين لتقييد هامش تحركها. ستجد نفسها مضطرة للدفاع عن موقعها أمام شركاء اقتصاديين وسياسيين كانوا إلى الأمس القريب يسايرون خطابها أو يتغاضون عنه. بل قد يعاد تعريف علاقتها بالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في ضوء هذه الشبهة، ما يضعف قدرتها على المناورة، ويجعل من النزاع الذي طالما قدمته كقضية "تحرر وطني" مشكلة أمنية تعود بالضرر عليها.

وفي هذه الصورة الجديدة، يظهر أن مشروع H.R.4119 ليس مجرد سيف مسلط على البوليساريو، بل هو أداة ضغط غير مباشرة على الجزائر نفسها. فهو يعيد صياغة قواعد اللعبة بحيث لا يمكن للجزائر أن تواصل تقديم الدعم من دون كلفة. إما أن تعدل سياستها لتجنب شبهة التواطؤ مع كيان مصنف إرهابي، وإما أن تستمر في النهج نفسه فتواجه تبعات سياسية وقانونية لا قبل لها بها. في الحالتين، تجد نفسها في موقع دفاعي، بينما ينجح المغرب في تثبيت موقعه كشريك استراتيجي للغرب في مكافحة الإرهاب والاستقرار الإقليمي. وهكذا يكشف المشروع أن النزاع لم يعد مواجهة متكافئة بين سرديتين، بل صار معادلة جديدة تعيد توزيع الأدوار والأعباء، ليصبح العبء الأكبر على عاتق الجزائر.

وهكذا، فإن مشروع H.R.4119 لا يضع البوليساريو وحدها في دائرة الاتهام، بل يحول الجزائر من مجرد داعم سياسي يجادل بخطاب التحرر إلى طرف تسائله القوانين الدولية بلغة المسؤولية والمحاسبة. فبمجرد أن يصبح التصنيف واقعا، لن يكون بمقدور الجزائر أن تفصل نفسها عن نتائج رعايتها للجبهة، بل ستحمل تبعاتها كاملة، ما يجعلها أمام خيار حاسم: إما أن تعيد صياغة استراتيجيتها، وإما أن تتحمل كلفة عزلة دولية متزايدة.

الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة

القفطان.. وأزمة الهوية عند الجزائريين

طُويت معركة أخرى أرادت الجزائر أن تخوضها ضد المغرب، وهذه المرة ليس في مجلس الأمن بخصوص قضية الصحراء، بل داخل أروقة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو"، التي تعقد ...

استطلاع رأي

مع قُرب انطلاق نهائيات كأس إفريقيا للأمم "المغرب2025".. من تتوقع أن يفوز باللقب من منتخبات شمال إفريقيا؟

Loading...