الإقصَاء!
■ إقصاءُ الآخَر، سُلوكٌ خارجَ القانُون.. أحيانًا يقُودُ لِهِجرةٍ جَماعيّة.. وهذه حالُ مَناطِقَ من العالم.. فيها يَتَحوّلُ الوَضعُ الاجتِماعي إلى "سياسةٍ إقصائية".. ويَنتُجُ عن هذا السّلُوكِ نوعٌ من التّوتّر، ثُمّ "عِقابٌ جَماعِي"، بسبَبِ صِراعاتٍ إتنيّةٍ وسيّاسيّة..
ويَتَحَوّلٌ الإكراهُ المَحَلّي إلى هِجرةٍ جَماعيّة، فِرارًا مِن اعتِداءاتٍ ونِزاعاتٍ وغَيرِها…
وفي هذه الحَالةِ "التّسْيِيسيّة" لِلمَفهُوم الإقصَائي، وهي منَ الظّروفِ اللاّطبِيعيّة، قد يُصيبُ اختِلالُ التّدبِير حتى مَجهُودَاتِ بعضِ الدُّولِ من أجلِ استِعادةِ التّوازُنات..
▪︎إنّ الإقصَاء، وهو إضرارٌ لِلفَرد، قد يَستَهدِفُ عائلاتٍ وجَماعاتٍ ومَصالحَ عُموميّة.. ويُشكّلُ في ذاتِه امتِداداتٍ وأبعَادًا ومُضاعَفاتٍ أعقَدَ وأخطَر..
وقد يُصِيبُ في الصّمِيمِ الوَعيَ التّضامُنِيّ والأخلاقِيّ العامّ.. وأكثرَ من ذلك، قد يُعتَبرُ الجميعُ في اختِلاطاتِ "الحابِلِ بالنّابِل"، مَسؤولاً بكِيفيّةٍ أو أخرى، عنِ التّهوُّرِ الإقصائي..
▪︎ويُصبِحُ الإقصاءُ سبَبًا في هجرةٍ جماعيةٍ من بلدٍ إلى آخَر، ومِن قارّةٍ لأُخرَى، بحثًا عن الحقّ في حياةٍ آمِنَة..
وفي بُلدَانِ المَهجَر، يُعاني الكثيرُونَ ظروفًا صَعبة، نتيجةَ هجرةٍ جَماعية، في خِضمّ صِراعاتٍ سياسيةٍ أصبحَت أزمةً اقتِصاديةً واجتِماعية..
■ وداخلَ بلدِ الإقصاء…
نَفسيةٌ مُهتَرِئةٌ للشّخصِ المُهمَّش..
نَفسيةٌ غيرُ مُتَوازِنة، عَقليّا وعَصبِيًّا وإنسانيًّا…
وعُقدةُ النّقصِ الاجتِماعي تَدفَعُ إلى الانكِفاء والابتِعادِ مِنَ الغَير..
و"مُجتَمعُ المُساواةِ" حُلمٌ للقَضاءِ على كابُوسِ التّهمِيش..
إنّهُم بَشَرٌ قد اختَارُوا أن يعيشُوا المُساواة، مع غيرِهم، في أضواءِ قِيّمٍ خاصةٍ بهِم، وأن يَتمكّنُوا في أجواء التّساوِي، في الحقوق والواجبات، منَ الوُصُولِ إلى المَواردِ الضّرورية، وإلى المُشاركةِ في القرار..
▪︎كيف يَتَسَنّى ذلك؟
كيف يَتَسَنّى بدُونِ وَحدةٍ وطنيّة، وبِلاَ تَنمِيّةٍ مُستَدامَة؟
▪︎على كل فئاتِ المُجتَمع أن تَقفَ صَفًّا واحدًا ضِدّ التّهمِيش، وعلى مُستَوَى القانُون، لكي يَتَمكّن أيُّ شَخصٍ منَ التغلّبِ على أزمةِ هُويّة، وعُقدةِ التّهميشِ للفَردِ الذي تُشعِرُه نظراتُ المُجتمع أنهُ ليس جيّدًا، بل المُجتمعُ قد يراه سيّئًا، رغم أنهُ لم يَختَر الحالةَ الاجتماعية التي هُو فيها..
■ وأيةُ علاقةٍ لهُ مع "التّفَلسُفِ" الإقصائِي؟
نَماذِجُ في التاريخ الثقافي، لإقصائيّينَ لا هَمّ لهُم إلاّ الرّكُوب على ظَهرِ غيرِهم، كي يتَسلّقُوا إلى مَواقعَ انتهازيّة..
▪︎وهذا الصّراعُ الإقصائِي قد عالَجَهُ فلاسِفةٌ يُونانيُّون..
وَفيما بعد، عالجَهُ فلاسفةٌ ومُفكّرونَ آخَرُون من أورُبّا وغيرِها، عبرَ العُصورِ اللاّحقة..
▪︎ونَشَأَت صِراعاتٌ بين الكنيسةِ والعِلم..
ثم عِندَنا بينَ "رجال الدّين" والعَقل..
▪︎ووَصَلَ الفِكرُ الإقصائي إلينا، في زمنِ حكوماتِ حزبِ تُجّار الدّين، بإقصاءِ الفَلسفةِ من التعليم الثانوي..
قَرارٌ من وزارةِ التّربيةِ الوطنية والتكوينِ المِهني والتعليمِ العالي والبحثِ العلمي، (12 فبراير 2018).. قرارٌ يَقضِي بإقصاءِ الفلسفة، تدريسًا وتقويمًا في كُلّ مَسالِك البَكالوريا المِهنية، واستِبدَالِ مادّةِ الفَلسفةِ بمَادّة التّربيّة الإسلامية في الامتِحان الوَطني المُوحَّد للبكالوريا المِهنيّة..
والنّتِيجة: إقصاءٌ لِلعَقل عَن العبادة، ولِلعَقلِ عن دَورِهِ التّنوِيرِي..
▪︎ ولا نِسيَانَ للصَّرخَة الكُبرَى التي أطلقَها - من فاس - السُّوسيُولوجِيّ محمد جسُّوس، قائلاً: «إنهُم يُرِيدُون خلقَ أجيالٍ مِنَ الضِّبَاع»!
▪︎وقد سبَقَتنا اليُونانُ إلى هَذا التّراجُع..
تَراجُعٌ عن مَواقِفَ ضِدّ المَرأةِ في عصرِ الفَلسفةِ اليُونانية التي كان فيها فلاسِفةٌ كبارٌ يَرَون بنَظرةٍ دُونيّةٍ إلى الإناث:
5 من أبرَزِ الفلاسِفة اليُونانيّين الذين قِيلَ في حقّهِم إنّهُم عادَوْا المرأة: سُقراط، أفلاطون، أرِسطُو، نيتشه، شوبَنْهاوَر..
بينَما مُفكّرُون، مِنهُم الفَرنسي "جان جاك رُورسُّو"، وقَفُوا إلى جانبِ قضايا المَرأة..
وآخَرُون أبدَوا إقصاءًا مُتَعمَّدًا..
وَواجَهَت المَرأةُ هذه السّلبيةَ بالتحدّي المُضادّ..
وبعدَها برَزَت في العالَمِ نِسوةٌ فيلَسُوفات..
▪︎وفي بلادِنا أيضًا، تألّقَ الفِكرُ الفَيلسُوفي..
ونساءٌ ورِجالٌ في المَيدَان..
حُضورٌ في عالمِ الفِكر، بمُختَلفِ تَلاَوِينِه..
ومَكانةٌ مَعرِفيّةٌ مُتَميّزة..
■ وعِندَنا في نفسِ الوَقت، مُيُولاتٌ إقصائيّة..
تَنطلِقُ منَ التّعليم، وتَستَقِرُّ في الإدارة، وتَتَفَلسَفُ على الحقوقِ والواجِبات، وفي مَواقعَ ببَعضِ الجامِعات، وتُوَجِّهُ الناشِئةَ إلَى تَعلُّم سُوءِ التّسيِيرِ والتّدبير، والتَّمَوقُعِ في بعضِ مَراكزِ المَسؤولية..
ويَصِلُ "التّفَلسُفُ الإقصائِي" إلى جماعاتٍ مَحلّيةٍ وإلى البرلمان، وتلعَبُ دورًا رئيسيّا في إفسادِ مسارِ بلادِنا إلى ديمُقراطيةٍ حقيقيّة..
▪︎"إقصَاءُ الآخَر" قد يكُونُ نِتاجَ سُلوكٍ اندِفاعِي.. ولكنّ تَحوِيلَ الإقصاءِ إلی سياسةٍ تُمارَسُ في العَلَن، لفائدةِ أقلّيةٍ ضدّ أكثَريّةٍ اجتماعية، هذا يُشكّل في ذاتِهِ تحيُّزًا مَقصُودًا، وبالتّالي قُنبُلةً مَوقُوتةً تُهَدّدُ استقرارَ البَلد..
وهذا الإقصاءُ المُتَعَمَّد يُشكّلُ في ذاتِه تحريضًا على الكراهيةِ والعُنصُريّةِ ضدّ الغَير..
كما يُزِيحُ مِنَ السّاحةِ أغلبيةَ الفُقَراءِ والأمّيّين والعجَزةِ والناسِ الأشَدِّ هشَاشة، لتقدِيمِ ما تبَقَّى مِن طاقتِهِم إلى فئةٍ مَحدُودة..
وهذا هو التّهميشُ والإقصاء..
▪︎طريقةٌ يتمُّ بها تسيِيسُ وتحويلُ الفَقرِ والعجزِ والاحتيّاجِ الشّدِيدِ إلى ثَروةٍ لفائدةِ أقَلّيّةٍ بشَريّة..
ويَنقَسِمُ المُجتَمعُ إلى شَرخَيْن: مُستَغِلٌّ ومُستَغَلّ..
ثُلّةُ من الوُصوليّين والانتهازِيّين يُقسّمون البلدَ إلی انتِفاعيّين وعُملاءَ وإقطاعيّين، تَستَغِلُّ أغلبيةً ساحِقَةً ضائِعةً مُضَيَّعَة..
▪︎وهذه مِنْ أسوَءِ الآفات: إلغاءُ الآخَر، وكأنّهُ غيرُ مَوجُود..
عَقليةُ إقصائيةٌ هي آفةُ المُجتَمع التّعدُّدِي، وخَطَرُها أشدُّ شراسةً منَ أيِّ خَطَرٍ آخَر..
إنها نِتاجُ "ثقافةٍ إقصائيةٍ" هي تشويهٌ لصُورة الآخَر، بقَصدِ إقصائِه أو تهميشِه..
العقليةُ الإقصائيةُ تُحاوِلُ التّقليلَ مِن شأنِ الأشخاص الذين لا تتَطابَقُ وجهاتُ نَظرِهِم مع الرّأيِ المُخالِف..
■ بين هؤلاء وأولئك!
أَوَليسَ عِندَنا حتى مَن يُهّمِّشُونَ أنفُسَهُم؟ وحتّى سياسيّين مُهَمَّشِين؟
أليست في بعضِ المراكزِ كائناتٌ لا دَورَ لها إلاّ التّهمِيش؟ ألَم يَتَحوّل مُثقّفون في “دَوائرَ مَركزية” إلى كائناتٍ تحَكُّّميّة؟
لعلّ مَشهَدَنا الثّقافي مُقبِلٌ على ما آلَ إليهِ المَشهَدُ الحِزبي مِنْ تهميشٍ وتهميشٍ مُضادّ، في حقّ مُناضلاتٍ ومُناضِلينَ عانَوا الأمَرّيْن على يدِ زعاماتٍ لا تَعبَأ إلاّ بمَصالحِها، على حِساب مُهَمّشين ومُهَمّشات تحتَ الإجبارِ والإكرَاه..
■ لا يُقبَلُ في بِلادِنا أنْ تَستمرَّ مَشاهِدُ إقصائية، سياسيّا واقتِصاديّا، مع حِرمانٍ مِنَ الحُرّياتِ الفَرديّة، أو تهمِيشٍ لِذوِي الاحتياجاتِ الخاصّة..
ضرُورةُ إسماعِ صَوتِ اللاّتهمِيش.. واللاّإقصاء..
هذا صَوتُ الضميرِ الوطني يُنادِينَا جميعًا إلى دولةِ المُؤسّسات..
أوراشٌ فعّالةٌ في طريقِ بلادِنا..
إنها تَحدّياتٌ وطنيةٌ تَستَوجِبُ مُكافَحةَ العَقليةِ الإقصائيّة في بلادِ الحقّ والعَدل.. والحُريةِ والمُساواة.. والسّعادةِ لبَناتِ وأبناءِ المَملكة..