الاستقرارُ لا يَقُومُ على مُستَنقَعات!

 الاستقرارُ لا يَقُومُ على مُستَنقَعات!
أحمد إفزارن
الجمعة 17 يناير 2020 - 8:12

الاستِقرارُ الإيجابي البنّاء.. هذا هو المَطلُوب.. وليس الاستِقرارُ في بُحَيراتِ الفسادِ الإداري الشامل.. ولا الاستِقرارُ السابحُ على مُستَنقَعاتٍ بالقطاعيْن: الخاصّ والعامّ.. ولا الاستِقرارُ السّلبي الجاثمُ على صدرِ كل المُجتَمع..
نعم.. حتى المُستَنقَعُ له استِقرارُه.. واستِقرارُه ليس استِقرارَنا.. استِقرارُنا الذي هو في قلوبِنا وأرواحِنا وضَمائرِنا، ليس من شاكلةِ المُستَنقَعات..
الاستِقرارُ المطلوبُ في بلدنا، هو من نوعِ الصّفاء.. النّقاء.. النّزاهة.. المسؤولية..
بَيْدَ أنهُ - في هذا الزمنِ الردئ - استقرارٌ في هَشاشَةٍ وأيّةِ هَشاشَة: عرقلةٌ لا تسمحُ بتحقيقِ الاستِقرارِ الإيجابي البنّاءِ الشامل.. ولا بتعميمِ الحُقوقِ السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصحّية والتّشغيلية، وفي مجالاتٍ أخرى منها العدالة، والحُرّية، والكرامةُ الإنسانيةُ وغيرُها...
وهل الفسادُ يُنتظَرُ منه أن يَصنعَ الاستقرارَ المنشُود؟
هل يأتِي الاستقرارُ مع الرشوة؟ ألم تكتَسِح الرشوةُ كلَّ بِقاعِ بلادِنا؟ لماذا هي مُستفحِلةٌ عندَنا بالطولِ والعرض؟ لماذا لم تتَحرّك الحكومة؟ والحكوماتُ السابقة؟
هل تسمَحُ الرّشوةُ - بكُلّ نَتانَتِها - بتحقيقِ الاستِقرارِ البنّاءِ المطلُوب؟ لماذا لم تتَحرّك الأحزابُ والنقاباتُ والجماعات، والبرلمانُ بغُرفتيْه، وبقيةُ المؤسساتِ المختصّة؟ ولماذا لم تتَحرّك نُخبتُنا السياسيةُ والاقتصادية والاجتماعية، من الاستقلال إلى الآن، لتقليصِ الفَجوات الفظِيعة بين مُجتمَعيْن مُتناقضيْن عندنا: الأغنياء (فوق) والفُقراء (تحت)؟ هل هذا التفاوُتُ الطّبقيّ الرّهيب يصنعُ الاستقرارَ الإيجابي البنّاء؟
وهذه الفَجواتُ وغيرُها، ألاَ تُشكّل قنابلَ مَوقُوتة؟
ألا يجِبُ الإسراعُ في إصلاحِ ما أنتَجَته عقودٌ مُتعاقِبةٌ من التّفاوُتِ الطّبقي؟ أقليةٌ تملكُ مُجمَلَ ثرواتِ البلد.. وأغلبيةٌ ما زالت تحتَ رَحمةِ أباطرةٍ وإقطاعيّين وجلاّدين.. وليست بحوزتِها أبسطُ الحقوقِ الإنسانية..
- إنها قُنبلةٌ اجتماعيةٌ قابلةٌ للانفجارِ في أيّ وقت.. وقابلةٌ لنَسفِ ما تَبَقّى من إيجابيّةٍ نفسانيةٍ في بلدِنا..
إن الاستِقرارَ الذي نُريدُه حقيقيّا، لا مُجرّدَ حُلم، هو اليومَ قائمٌ على أساسٍ غيرِ ثابِت..
- الأرضُ تهتزّ تحت أقدامِنا..
والحكومةُ ما زالت في سُباتٍ عميق..
حكومةٌ هي بالاسمِ فقطّ، لا بالفِعل..
ولا بالوَطنيّة.. ولا بالمسؤولية..
حكومةٌ لامَسؤولة..
والاستقرارُ الحقيقي المَطلوب لا يَنبنِي على فساد.. لا يَنبنِي على مُستَنقَع.. لا يَنبنِي على ترعيبٍ وتخويفٍ وزَجر..
الاستقرارُ البنّاءُ استِقرارٌ نفساني، سياسي، اقتِصادي، اجتماعي.. يُطَمئِنُ الناسَ إلى أنّ الحُكمَ قادرٌ على استيعابِ التناقُضاتِ والاختِلافات، على أساس تدابيرَ تُطَمئِنُ المُجتمعَ أنّ البلادَ لا تسِيرُ في اتّجاه سياسةٍ قمعيّة، وظُلمٍ قضائي، ونهبٍ رسمِي لعَرَقِ جبينِ الناس، وتهميشٍ لمناطقَ فقيرة، وتكريسٍ للجهل عبر سياسةٍ تعليميةٍ مُنحرِفة، واقتصادٍ لفائدةِ قِلّة من الانتِفاعيّين، على حِسابِ الأغلبيةِ الساحقة المُعرّضة للتّهميشِ والإقصاءِ والتّفقيرِ والتّجهيل..
الدولُ الديمُقراطية لا تتقَدّم إلا بتحقيقِ الاستِقرارِ الفردي والأُسَرِي والاجتماعي المُتواصل، عبر عدالةٍ لا غُبارَ عليها، وطَمأنَةِ الناسِ أنّ الحُكمَ يَحظَى بثقةٍ عمومية، ولا يَسلُكُ سياساتٍ لاشَعبية، ويقومُ على احترامِ الحقوق، وفيها الأقلّياتُ السياسيةُ والدّينيةُ والثقافيةُ وغيرُها من التّنوّعات، على أساسِ أنّ القانونَ فوقَ الجميع..
كلُّ الاختلافات تجدُ نفسَها مُطمَئِنّةً في المسارِ الوطني المُتنوّعِ المُشترَك..
وحتى في أوقاتٍ مُتأزّمة، تَجنَحُ الحكومةُ إلى تدبيرٍ غيرِ مُتوتّر، فتزدادُ ثقةُ الناس في "دولةِ المؤسّسات"، وتمُرّ العاصفةُ الأُسَرِيةُ والاجتماعيةُ والاقتصاديةُ والسياسية، وتهدَأ النّفُوس، وينتهي أيّ مؤشّر سلبي، وأيّ التهابٍ سياسي مُحتمَل..
وتعودُ الأوضاعُ العامّةُ والخاصةُ إلى الحالة الطبيعيةِ التي تعنِي الاستقرارَ القائمَ على حُقوقٍ وواجبات، لا على اختِلالٍ سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي..
- إنه استقرارٌ سياسي بالأساس..
استقرارٌ سياسي يُعبّر عن وجودِ حُرّيّة في البلد، ومعها انتِصارٌ للدّيمُقراطية التي يجِدُ فيها الجميعُ مَكانَه ومَكانتَه، ويُساهمُ من خلالهما، مع بقيةِ التّنوّعات، في  الاستِقرارِ الإيجابي البنّاءِ المطلُوب..
وفي دولةِ الحُقوقِ والواجبات، لا تُقلِقُ الاعتِصاماتُ والمُظاهراتُ والاحتِجاجات، لأن الاحتِكامَ يكونُ لفائدةِ اعتبارِ الطريقِ الاحتِجاجي مُسالِمًا، ولا تدميرَ فيه ولا تَخريب، وهو طريقٌ ديمُوقراطي يحمِي حقَّ الاحتِجاج، ويَعتبرُه مَسلَكًا حضاريّا إلى تقويمِ الاعوِجاج، وتصحيحِ أخطاءٍ تدبيريّة وتسيِيريّة من قِبَلِ الحكومة، وأن هذا المَسلكَ ضرورةٌ للعودةِ إلى جادّةِ الصواب، كُلّما عجزَت الحكومةُ عن انتهاجِ سياسةٍ أكثرَ تَعقُّلاً وحِكمةً في مُواجهةِ العراقيل..
وعبرَ مُظاهراتٍ سِلمية، يستطيعُ المُجتمَعُ بمُختَلفِ تَلاوينِه أن يُسمِعَ صوتَه ومَطالبَه الشرعيةَ المعقُولة..
وهكذا تتَحوّلُ الأعاصيرُ إلى زوبعةٍ ظَرفيّة محدودةٍ عابِرة..
وتَستَأنفُ البلادُ مسِيرةَ التّعايُشِ البنّاء، تحت غطاءِ دولةِ الحقّ والعدل..
وهكذا أيضًا تنجحُ دولةُ الاستِقرار في امتصاصِ الغَضبِ الشعبي، واستيعابِ أنّ دورَها يكمُنُ في خدمةِ المُجتمَع، لا في التّسلّح بالعُنفِ والإكراهِ وأدواتِ الزّجر، مع الاستِمرارِ في سياسةِ الإقطاع..
لا أحسنَ من تهدئةِ الأعصابِ الاجتماعية، بنشرِ سلوكاتٍ حكوميةٍ غيرِ ظالمة..
الظّلمُ الحكومي لا يأتي بالاستِقرار..
دولةُ الاستِقرار هي دولةٌ مُتجانِسةٌ بين القِمّة والقاعدة، تصُونُ الحُقوق: الحرية، العدالة الاجتماعية، ولا فرقَ بين الناس أمام القانون، وفي التعليم، والصحّة، والعمل، والمعاشات، وفي شقّ الطريقِ إلى مُستقبلٍ مُشترَك يضمنُ حياةً آمِنةً لأيّ إنسان، وبيئةً طبيعية، وأساساتٍ أخلاقية، ومعرفةً تحمِي بالعقلِ والمسؤوليةِ الأجيالَ الصاعِدة..
هذه أرضيةٌ لاستقرارٍ تتَوارثهُ أجيالٌ تِلوَ أجيال..
ومن يَحسبُ أنّ الاستِقرارَ ليس للجميع، وعلى قدمِ المُساواة، فهذا لا يَفهمُ أن الاستِقرارَ البنّاءَ إما أن يكونَ للجميعِ أو لا يكُون..
فدَعُونا نَستقِرّ مَعًا، ونحنُ جَنبٌ إلى جَنب، ويدٌ في يد، ولا فرقَ بين أحَدِنا وآخر، لا في الجنس، ولا العِرق، ولا الأعراف، ولا الأديان، ولا غيرِها...
دَعُونا نَختلِف ونعترفُ بحقّ كلّ واحدٍ منّا في الاختلاف.. الاختلافُ وحدَه يعنِي التنوّعَ الفكري، وتنوّعَ المَصادرِ والمَوارد.. ويعني أنّ بلادَنا قادرةٌ على إدارةِ الاختلافاتِ بمهارةٍ ونجاح، بعيدا عن أيّ عُنف..
العُنفُ السياسي مُضرّ بالشّرعية، ولا يدلُّ على الكفاءة.. ولا يعني القُدرةَ الرسميةَ على حُسنِ إدارةِ التّناقُضات، وأن الحكومةَ لها من المُؤهلات ما يُجنّبُ البلادَ صراعاتٍ وعَواقبَ سلبيةً وإكراهاتٍ وانفِجارات..
وكلّ حُكْمٍ قائمٍ على قُفّازاتِ حديدية، لا يقودُ إلى استقرارٍ وتنمية، تحت أضواءٍ قانونية..
الصراعاتُ لا تحُلّ المشاكلَ المطروحة..
الصراعاتُ لا تُنتِج إلا المزيدَ من الصّراعات..
وتَجَنُّبُ الصراعات هو الأسلوبُ الأمثَلُ والأنضَجُ للمرورِ إلى مرحلةٍ لاحِقةٍ قوامُها الجنُوحُ إلى الأسرةِ الاجتماعية، وهي البيئةُ الداخليةُ الطبيعية، لإقرارِ السّلمِ الاجتماعي، وبالتالي: الاستقرار السياسي الذي عليه أن يُجنّب المُجتمعَ "التّفاوُتَ الاقتصادِي"..
ولا استقرارَ في أيّ بلد، إلا بالاستقرارِ الاقتصادي..
كُبرياتُ الأزمات تبدأ من الخللِ الاقتصادي الذي تتضَرّرُ منه شريحةٌ واسعةٌ من المُجتمع..
 ويَستطيعُ الاقتصادُ أن يكُون عُنصُرًا رئيسيّا لاستقرارٍ سياسي، إذا ما كانت له حكومةٌ تسعَى بالفعلِ إلى تحقيقِ استقرارٍ شامِل..
التفاوُتُ الطّبَقي لا يصنعُ الاستِقرار.. وكذلك اللاعدالة، واللاديمُقراطية، واللاشفافية في التّدبير والتّسيير، وكذا غيابُ المُشارَكة السياسية..
ووحدَها الدولةُ الدّيمُقراطيةُ العادلة تتَجنّبُ الاختِلالات، بأشكالها وأنواعِها، وتَصنعُ الاستقرارَ الشامل..
وعلينا بالرُّقِي إلى مَصافّ الدّول الدّيمُوقراطية، لكي تقوم كلُّ فئات المجتَمع بالتعبير عن مواقفِها وآرائها واقتراحاتِها في مسار البلد، بعيدا عن أية إكراهات..
ولا نريدُ أن تُنعتَ بلادُنا بدولةِ اللاحُقوق..
وألاّ يُقال فيها: إنها دولةٌ هي نفسُها لا تحترمُ القانون..
- هذا غير مقبول..
ولا يُمكنُ أن يكون عندنا استقرارٌ غيرُ مُسيّجٍ بالقانون..
القانونُ يستطيعُ بناءَ الاستقرار..
والاستقرارُ هو يقودُ للتنمية..
والتنميةُ هي تنميات، تبدأ بتنمية الذات، وتصل إلى تنمية البلد، مرورا بتنميةِ الأسرة، وتنميةِ المُجتمع.. وتنميةِ المعرفة.. والوطنية.. والتنميةِ الإنسانية..
وفي هذا يكمُنُ استقرارُ التّنمية.. وتنميةُ الاستقرار!

[email protected]

هل الدولة الجزائرية عبارة عن "هجرة غير شرعية في التاريخ"؟

في حوار أجريناه في "الصحيفة" شهر غشت من سنة 2021 مع نور الدين بوكروح الذي يعتبر من السياسيين والمثقفين القلائل في الجزائر الذين ينتقدون "نظام الحكم" في البلاد المبني على ...