المؤرخ الفرنسي بيير فيرمرن: الجزائر تقوم بمقامرة جيوسياسية محفوفة المخاطر.. والنظام أكثر قلقا بعد سقوط نظام بشار الأسد آخر حليف له في العالم العربي
في خضم تصاعد التوترات بين فرنسا والجزائر، على خلفية اتهام باريس للجزائر باتخاذ مواقف "عدائية" وتقييد العلاقات الاقتصادية، وصف المؤرخ الفرنسي بيير فيرمرن هذا التصعيد بأنه "غير مسبوق"، مشدّدا على أن هذا التوتر يعكس حالة من العزلة التي يعيشها النظام الجزائري في إفريقيا والشرق الأوسط، حيث يسعى إلى توجيه الأنظار بعيدًا عن أزماته الداخلية من خلال مزايدة قومية تستهدف حشد الشعب والجالية الجزائرية في فرنسا، ضمن استراتيجية غير محسوبة العواقب للنظام الجزائري تمثل مقامرة جيوسياسية محفوفة بالمخاطر.
ويرى بيير فيرمرن، وهو مؤرخ وأستاذ في جامعة باريس1 بانتيون-سوربون، من بين أبرز أعماله كتاب "تاريخ الجزائر المعاصر، من إيالة الجزائر إلى الحراك (القرنان التاسع عشر والحادي والعشرون)"، أن الأزمة الحالية غير المسبوقة بدأت تأخذ منحى حادًا منذ اعتراف فرنسا بسيادة المغرب على الصحراء قبل ستة أشهر، وهو موقف أثار غضب النظام الجزائري، معتبرا أن هذا التصعيد ليس بجديد في سجل العلاقات الفرنسية الجزائرية، فقد تكررت مثل هذه التوترات عبر العقود، بدءًا من حرب الصحراء في السبعينيات حينما دعمت فرنسا المغرب بشكل فوري لكنها عوضت ذلك بعقد اتفاقيات نفطية وغازية مع الجزائر، وصولاً إلى الخلافات حول قضايا الهجرة والطاقة.
وشدّد فيرمرن في حواره المطوّل مع صحيفة " ليكسبريس" الفرنسية، على أن كثير من المستجدات جرت من تحت جسر العلاقات الفرنسية الجزائرية من وقتها إلى الآن ومن بينها أن الأمور الجيوسياسية تغيّرت سيما في ما يتعلق بملف الصحراء المغربية، ذلك أنه اليوم وخلافا للسبيعينيات، لا تملك فرنسا سوى مواجهة العقوبات الاقتصادية والضغوط، فيما أنها "لن تتراجع عن موقفها بخصوص القضية المغربية، وهذا أمر محسوم".
ويقول بيير فيرمرن، إن أصل هذا التدهور يعكس بالأساس توترًا لنظام جزائري يشعر بالعزلة في إفريقيا والشرق الأوسط، ويحاول حشد شعبه والجالية الجزائرية في فرنسا من خلال مزايدة قومية تحمل نتائج غير مضمونة، مضيفا: "النظام الجزائري يخوض مقامرة جيوسياسية محفوفة بالمخاطر، ولكنه في الوقت ذاته يدرك أن استمرار الأزمة مع فرنسا حتى نهايتها ليس في مصلحته لأسباب أمنية واقتصادية.. الخطاب المعادي لفرنسا الموجه من الجزائر يستهدف الشعب الجزائري أولاً، ثم الجالية الجزائرية في فرنسا ثانيًا، وأخيرًا السلطات الفرنسية، وهذا هو العنصر الجديد في هذه الأزمة الدبلوماسية".
وجوابا على سؤال "ليكسبريس"، حول ما إذا كان تطور النظام الجزائري منذ الحراك ونهاية عهد عبد العزيز بوتفليقة في 2019، قد جعل منه أكثر جنونًا بالمؤامرات، قال بيير فيرمرن، أن داخل النظام الجزائري، هناك ما يمكن تسميته بـ"الروس" و"العرب" في مواجهة "الفرنسيين"، حيث يفترض أن النظام الجزائري يعاني ضغطًا من موسكو التي تسعى للاستفادة من هذا الوضع، سيما بعد سقوط نظام بشار الأسد الذي جعل النظام الجزائري أكثر قلقًا، لأن سوريا كانت آخر حليف كبير له في العالم العربي، وهو حليف تاريخي منذ الحرب الباردة.
وتابع الخبير في الشؤون المغاربية: "اليوم، باستثناء الجزائر، سقطت كل الجمهوريات الاشتراكية العربية الكبرى (مصر، سوريا، ليبيا، والعراق). وهكذا تجد الجزائر نفسها معزولة في العالم العربي، ولديها حلفاء مثل إيران وروسيا الذين لا يتمتعون بسمعة جيدة، والنظام الجزائري لا يحظى بدعم شعبي كبير، حيث إن نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة كانت أقل من 10%، وفي أوساط الجالية الجزائرية في فرنسا، انخفضت هذه النسبة إلى 3 أو 4%، والقومية المفرطة التي يتبناها النظام الآن هي محاولة لإعادة حشد السكان، من خلال اللعب على وتر الوطنية".
وأشار الخبير في هذا الصدد أيضا، إلى وجود مزايدة مع الإسلاميين، الذين يهاجمون فرنسا منذ فترة طويلة، مؤكدا أن تبون استعار خطاب أردوغان الذي اتهم فرنسا بارتكاب "إبادة جماعية" خلال فترة الاستعمار، فيما "لم يسبق لرئيس جزائري أن استخدم هذا المصطلح" مضيفا: "صحيح أن بوتفليقة تحدث عن "جرائم جماعية" أو "إبادة ثقافية"، لكنه لم يذهب إلى هذا الحد، وهكذا، اصطف تبون مع مواقف أردوغان، الذي يمكن اعتباره زعيم الإخوان المسلمين، وهذا يعني وجود نوع من المنافسة لمعرفة من سيكون الأكثر عداءً لفرنسا والأكثر قومية، ما يفسر هذا الهروب الإيديولوجي للنظام الجزائري".
وبالنسبة للجالية الجزائرية في فرنسا، يوضح فيرمرن أن هذا الخطاب لا يلقى تأييدًا واسعًا في صفوفها، موردا: "هناك شعور بالإحراج بين الجالية الجزائرية التي تخشى تداعيات هذه الأزمة عليها، خاصة في ظل تصاعد الخطاب اليميني الفرنسي ضد الهجرة الجزائرية"، كما أشار أيضًا إلى أن هذه الجالية تضم ملايين الأشخاص ذوي الأصول المتنوعة، وأن الخطاب العدائي لا ينعكس إيجابيًّا على اندماجهم في المجتمع الفرنسي.
أما داخل الجزائر، فيقول فيرمرن إنه من الصعب قياس تأثير هذا الخطاب بسبب غياب استطلاعات الرأي وحرية التعبير، ومع ذلك، يُلاحظ أن الخطابات المعادية لفرنسا أصبحت تفقد تأثيرها على الشباب، الذين ينشغلون أكثر بالتحديات اليومية بدلاً من إرث حرب الاستقلال، مضيفا في هذا الصدد: "الجزائريون يدركون أنهم تحت حكم نظام معادٍ لفرنسا منذ ولادتهم، ولا يحملونها مسؤولية الوضع الراهن".
ورغم حدة الخطابات المتبادلة، يؤكد فيرمرن أن للجانبين مصلحة مشتركة في احتواء الأزمة، فالتعاون الأمني والاقتصادي بين البلدين يجعل من الصعب استمرار التوتر لفترة طويلة دون خسائر فادحة، وفيما تستمر فرنسا في اتباع نهج ثابت بخصوص دعمها للمغرب، يبدو أن التحدي الأكبر أمام الجزائر هو إعادة صياغة دورها الإقليمي بعيدًا عن الشعارات القومية التقليدية.




