حسن ناجح
الجمعة 5 دجنبر 2025 - 21:56

المغرب والشرخ السيميائي.. "عندما تخفي الواجهة الحداثية ازدواجية الحكامة " 

مقدمة: المشهد الحالي للمغرب

لا يخفى على أي متتبع للشأن العام في المغرب أن البلاد تعيش منذ سنوات دينامية تنموية لافتة، تتجسد في مشاريع بنية تحتية كبرى، واستثمارات ضخمة، وحركية دبلوماسية كثيفة وإشعاع ثقافي متصاعد. هذه الصورة تُقدَّم في المحافل الدولية وتُروَّج في التقارير الرسمية كدليل على أن المغرب يسير بثبات نحو الانضمام إلى نادي الدول الصاعدة، حتى أن البعض يذهب إلى القول أن المملكة تعرف نهضة اقتصادية فعلية.

غير أن هذه الواجهة المصقولة بكل ما تحمله من رمزية الحداثة تُخفي واقعاً أكثر تعقيداً وإرباكاً، يتسم بتناقض صارخ بين سردية التحديث المؤسساتي التي تعد بالشفافية والنجاعة وربط المسؤولية بالمحاسبة، وبين ممارسات لا تزال تنتمي إلى منطق تدبيري قديم يقوم على تضارب المصالح والمحسوبية وتدوير المواقع داخل شبكات مغلقة من النفوذ. فهناك تباين ملحوظ بين النصوص القانونية والمؤسساتية المتطورة التي تعد بالحكامة، وبين بعض الممارسات التدبيرية التي لا تزال رهينة منطق تقليدي يقاوم التغيير ويتشبث بالمصلحية. 

هذا الوضع يخلق نوعاً من "التآكل في منسوب الثقة" عند المواطن، إذ تبدو سرعة تنفيذ المشاريع الإستراتيجية للدولة متناقضة مع بطء الإصلاح في آليات التدبير اليومي. كما يستشف المواطن، من خلال متابعة مشاريع التنمية، أنه باستثناء المشاريع الملكية ومبادرات عاهل البلاد والقطاعات التي يعين وزراؤها، تتخبط الحكومة في حلقة مفرغة بين محطات سوء التتبع والمراقبة والمشاكل الداخلية (Tracasseries administratives).

إن تمحيص الواقع يبرز الحاجة الملحة لتدقيق ضوابط الحكامة، خاصة في المشاريع الإستراتيجية. ففي ملفات حيوية مثل تحلية المياه أو قطاع الطاقة، أثار مؤخرا تداخل الفاعلين الاقتصاديين الكبار مع دوائر القرار السياسي تساؤلات مشروعة حول نجاعة آليات ضبط تضارب المصالح.

فالواقع الحالي يكشف أننا لا نعيش مجرد تعثر تدبيري عابر لبعض القطاعات الحكومية، بل نعيش تصادماً عنيفاً بين دلالتين متناقضتين: حداثة معلنة في واجهة الخطاب، وتقليدية عميقة في بنية الممارسة. وهو ما يُنتج شرخاً سيميائياً حاداً في سردية الثقة العمومية. وهكذا يتحول هذا التعايش المتناقض إلى ما يشبه " مسرحاً سيميائياً" كاملاً. فعلى الركح تُعرض صورة دولة عصرية، فيما تواصل في الكواليس، آلة قديمة اشتغالها بلا انقطاع، تحافظ على امتيازاتها وتقاوم كل تحول حقيقي يهدد توازنها.

النتيجة ليست مجرد فجوة بين القول والفعل، بل هي انشقاق دلالي وسياسي يهز أسس العلاقة بين الدولة والمواطن، ويتغذى باستمرار على رصيد الثقة العمومية حتى يكاد يستنزفه. وهذا التآكل في الثقة لم يعد مفهوماً مجرداً، بل صار معطى ملموساً في سلوك المواطنين، في تعاملهم اليومي مع الإدارة، وفي النبرة المشحونة بخيبة الأمل التي تطغى على النقاش العمومي. 

ويمتد هذا النقاش إلى سياسة التعيينات في المناصب العليا. فتعيين مسؤولين قادمين مباشرة من القطاع الخاص لتدبير قطاعات اجتماعية حساسة، دون المرور بمرحلة انتقالية كافية (Période de viduité)، قد يعزز انطباعاً بتقديم "منطق الولاء والكراسي" على منطق الاستحقاق. المطلوب هنا ليس التشكيك في الكفاءات، بل مأسسة مساطر التعيين بما يضمن الشفافية المطلقة ويقطع الطريق أمام أي تأويلات سلبية حول "توزيع المناصب".

الفصل الأول: ملامح الأزمة في واقع الممارسات

لا نحتاج إلى نظريات أكاديمية معقدة لتشخيص هذا الشرخ؛ فالأمثلة الحية تتحدث عن نفسها وتكشف عن تطبيع خطير مع تضارب المصالح في أعلى هرم القرار. لنأخذ قضية مشروع محطة تحلية مياه الدار البيضاء، وهو مشروع استراتيجي بامتياز يتعلق بأمن مائي لملايين المواطنين. كيف يُفسَّر إسناد هذا المشروع الحيوي إلى تحالف تجاري ترتبط مصالحه، كما أفادت تقارير صحفية متعددة، بوجود تقاطعات اقتصادية مع دوائر مرتبطة بالقرار التنفيذي. وهذا السؤال يفتح نقاشاً عمومياً حول فعالية آليات الوقاية من تضارب المصالح.

هذا السؤال ليس موجهاً ضد شخص، بل هو استفهام مؤسساتي وجوهري يمس مبدأ فصل المصالح والشفافية في تدبير المال العام. إنه نموذج صارخ يوضح كيف يمكن أن تتحول الصفقات العمومية الكبرى إلى ساحة لتداخل العام والخاص، دون أن يكون هناك سقف واضح للمحاسبة أو تقييم مستقل حقيقي.

وهذا المنطق في حد ذاته ليس استثناءً، بل يبدو قاعدةًتتكرر. فتمركز القرار الاقتصادي في قطاع المحروقات داخل دوائر اقتصادية محدودة ومرتبطة بمراكز النفوذ تضع السلطة التنفيذية في وضعية" القاضي والطرف" في الآن نفسه. وهذا الوضع لا يخلق مجرد شبهة أخلاقية، بل يُنتج عطلاً بنيوياً في الإرادة الإصلاحية، ويحوّل التنظيم إلى واجهة شكلية تخفي جموداً عميقاً يحمي مصالح راسخة ذات جدوى خفية.

وتمتد هذه الثقافة لتشمل جوهر العمل السياسي: التعيينات ومساطرها.

فقضية تعيين وزير التعليم في أكتوبر 2024 ، على سبيل المثال لا للحصر، تقدم دليلاً آخر على الممارسات التي طفحت للسطح لتزكي المفهوم الشعبي المعروف ب"باك صاحبي" وتُعزز لدى المواطن قناعة خطيرة بأن الدولة تُدار بمنطق 'الشركة الخاصة' لا بمنطق المرفق العمومي، مما يعني تغلغل الشبكات المغلقة المتعلقة بالزبونية وبالمحسوبية داخل هياكل الحكومة.

فقدوم الوزراء مباشرة من القطاع الخاص، وخصوصا أولئك الذينترتبط شركاتهم بصفقات عمومية مع الدولة، يعيد إلى الواجهة نقاشاً مشروعا حول شروط الانتقال من القطاع الخاص إلى المناصب الحكومية، وحدود ضمان الفصل الفعلي بين المصالح. وبهذا، تتحول آلية التعيين من أداة لاستقطاب الكفاءات خدمةً للصالح العام، إلى آلية يُخشى أن تُفهمَ على أنهاإعادة تموقع لنفس الدوائر داخل أجهزة القرار، مما يعمق الهوة بين نخبة حاكمة تظهر منفصلة عن قواعد المساءلة، ومجتمع مدني يزداد شعوره بالإقصاء واللاتكافؤ في الفرص ورسّخ شعوراً جماعياً بالإحباط داخل المجتمع.

الفصل الثاني: الإعلام والتحكم الرمزي في المجال العام

وبما أننا أمام جدل واسع هذه الأيام المتعلق بتسريبات لجنة الأخلاقيات للمجلس الوطني للصحافة، خصوصا على مواقع التواصل الاجتماعي، فلا بد من التطرق إلى المجال الإعلامي. إذ يمثل مسار محاكمة الصحفي حميد المهداوي علامة فارقة وخطيرة. فما كان نزاعاً مهنياً يمكن أن يُحسم في إطار قانون الصحافة (الذي يستثني العقوبات السالبة للحرية)، تحول إلى ملف تجريم جنائي كامل، انتهى بحكمين متتاليين (نونبر 2024 ثم يونيو 2025) بسجن نافذ مجموعه 18 شهراً وغرامات مالية ثقيلة، بتهمة "نشر أخبار كاذبة".

هذا التحول النوعي من "المسؤولية" إلى "التجريم" ومن تطبيق قانون الصحافة إلى تطبيق القانون الجنائي يبقى قرارا له دلالة سياسية واضحة. فهو، في نظر معظم المراقبين المحليين والدوليين، "رسالة " تم تأويلها، في جزء كبير من الرأي العام، باعتبارها تحمل أبعادا ردعية تجاه الإعلام المستقل والصحافة الاستقصائية وزرع الرقابة الذاتية لدى الصحفيين المحميين مبدئيا ببطاقتهم المهنية.

وفي هذا السياق، لابد من التوضيح أنه مهما اختلفنا أو اتفقنا مع آراء الصحفي حميد المهداوي أو مع منهجيته المهنية، يبقى الأمر الأساسي الذي لا يمكن المساومة عليه هو أنه مواطن مغربي، وتنطبق عليه كل الضمانات الدستورية والقانونية المتعلقة بالمحاكمة العادلة وحقوق الدفاع. وهذا ليس تأييداً لرأيه، بل هو دفاع عن مبدأ أعلى يتجسد في كون حقوق المواطن الأساسية يجب أن تُصان بغض النظر عن الخلفية الفكرية أو المهنية للشخص. وهذا المبدأ الحضاري هو ما يحول دون انتقال أي خلاف في الرأي إلى مسار عقابي يستهدف الشخص لا الفكرة.

هذه الحالة ليست معزولة، بل هي جزء من نمط أوسع. فقد تزايدت منذ صيف 2024 المتابعات القضائية ضد صحفيين ومنابر إلكترونية، بناء على شكايات من أحزاب سياسية بسبب منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، كلها مؤشرات تدل على بناء هيكل جديد للتحكم في المجال العمومي والهدف هو إعادة رسم حدود الخطاب المقبول، ليس عبر الرقابة المباشرة التي أصبحت مكلفة سيميائياً، بل عبر المتابعة القانونية، ما يُفسَّرفي النقاش العمومي على أنه توظيف للمسار القضائي في سياقات ذات خلفيات سياسية، مما يخلق مناخاً من الترهيب والتردد الذاتي لدى الصحفيين.

وإذ نتطرق لهذه القضية، فمن الجانب الحكامة فقط، وليس من الجانب المهني الخاص بالصحافة، فأصحاب السلطة الرابعة كفيلون بحل مشاكل منزلهم الداخلي. 

ربما كان من الأفضل أن يستخدم المعني بالأمر للدفاع عن نفسه وهو حق مشروع التسريبات التي تم إيصالها إليه لغاية في نفس يعقوب ، فمثلا كان من الأجدر إيفادها للجهات المختصة دون الخوض في التشهير، ربما أضحت العملية أكثر فعالية مما أقدم عليه الصحفي الذي أصبح لا يختلف نسبيا عن من يتهمهم بخرق القوانين، خاصة القانون رقم 08-09 المتعلق بحماية المعطيات الشخصية.

 فالوقائع التي هزت الرأي العام عبر تسريبات مقاطع فيديوهات مثيرة للجدل، كشفت أمراً أعمق بكثير من الجدل القانوني حول منهجية صحفي أو حدود حرية التعبير. لقد كشفت القناع عن خللين بنيويين متلازمين يضربان صميم الحكامة في بلدنا: الخلل المؤسساتي من ناحية، وفساد سياسة التعيينات وهدر مبدأ الجدارة(méritocratie) من ناحية أخرى.

فأولاً، على المستوى المؤسساتي: ماذا يمكن أن نصف به مشهد تفكيك المجلس الوطني للصحافة؟

حيث تعثّر تجديده، ثم تمديد ولايته استثنائياً، ثم تجريده الفعلي من صلاحياته لصالح "لجنة انتقالية" في أبريل 2023، وهي هيئة غير منتخبة يُنظر إليها كقريبة من السلطة التنفيذية. وقد هيج هذا المسار نقاشاً واسعاً حول مدى حفاظه على جوهر مبدأ التنظيم الذاتي واستقلالية المهنة والذي يُفترض أن يكون حجر الزاوية في استقلالية المهنة. وفي هذا الصدد، فقد أثار بعض المهنيين جدلا واسعا بشأن شرعية المجلس المؤقت.

بل وأكثر من ذلك، يتم حاليا نقاش مشروع القانون (أغسطس 2025) صيغ بشكل انفرادي ودون مقاربة تشاركية، مما دفع كثير من المنظمات المهنية والحقوقية إلى رفضه والتنديد به، معتبرين أنه شكلا من أشكال "العنف الرمزي المُؤسّساتي" الذي يُمارس على الجسم الصحافي باسم "التنظيم" و"الترتيب" و"الحداثة".

وثانياً، على مستوى سياسة التعيينات العليا عموماً: لقد أصبح الانطباع الراسخ لدى الرأي العام، مدعوماً بتجارب متكررة، هو أن "جغرافيا الولاء" قد حلت تماماً محل "جغرافيا الاستحقاق والجدارة. فالإدارة العمومية، في كثير من مفاصلها الحساسة، تحولت إلى "علبة سوداء" تُحتَكر فيها القرارات المصيرية وتُتَخذ في دوائر ضيقة، بعيداً عن النقاش العمومي الحر والمراقبة المستقلة.

وعلى الرغم من تكرار الخطاب الرسمي الذي يؤكد شفافية المساطر وطابعها الجماعي والتوازن بين البعد التقني والسياسي، فإن غياب أي هيئة وطنية مستقلة فعليا وذات صلاحيات رقابية حقيقية لتقييم نزاهة التعيينات، إضافة إلى الصورة الخارجية المتضمنة في التقارير الدورية لمنظمات دولية مثل هيومن رايتس ووتش (HRW) ومنظمة العفو الدولية (Amnesty)، كلها عوامل تثبت أننا لسنا أمام "هفوات" شكلية، بل أمام بنية كاملة تُنتج وتُعيد إنتاج امتيازات غير معلنة تتنافى مع ممارسات الحكامة الجيدة. إنها على ما يبدو هندسة خفية تُصنّف المواطنين، لا على أساس المواطنة المتساوية، بل ضمن "هرم غير رسمي للحقوق والفرص"، حيث يتحدد المرتبة بقرب الشخص من مراكز النفوذ ودرجة الولاء.

الفصل الثالث: الآلية الجامعة: انكماش فضاء المساءلة

في العمق، نحن أمام آلية جامعة واحدة تُفسّر كل هذا الانزلاق الذي يشكل انكماشا خطيرا في فضاء المساءلة. ففي اللحظة التي تحتاج فيها الدولة والمجتمع إلى توسيع دوائر الرقابة لمواجهة تحديات معقدة على المستوى الداخلي والخارجي، يجري تضييق هذا الفضاء بشكل منهجي. إذ تتراجع آليات التنظيم الذاتي وتُحاصر الصحافة الاستقصائية ويتم إضعاف الدور الرقابي للمجتمع المدني، وتُترك المؤسسات الدستورية الرقابية، في كثير من الأحيان، عاجزة أو غير راغبة في مواجهة شبكات النفوذ الاقتصادية والسياسية المتشابكة. وهنا تكمن الخطورة الجديدة: لم تعد السلطة تحتاج، في غالب الأحيان، إلى المنع المباشر أو القمع الصريح، الذي يكون مكلفاً على صعيد الصورة الدولية. بل يكفيها خلق مناخ عام من الغموض والترهيب الرمزي، حيث يختلط المباح بالمحظور، وتصبح الحدود بين النقد المشروع والتجريم غير واضحة ومعرّضة للتأويل الانتقائي. 

الفصل الرابع: النموذج الناتج: "المغرب بسرعتين" 

في هذا السياق المركب والمعقد، يتبلور مفهوم "المغرب بسرعتين" ببعد وجودي جديد، يتجاوز الفوارق الاقتصادية والاجتماعية التقليدية ليتغلغل في صميم الممارسة الحقوقية والسياسية اليومية.

ومن داخل هذا السياق يتكوّن نموذج "المغرب بسرعتين"، لا باعتباره توصيفاً اجتماعياً فقط، بل كمعطى وجودي سياسي. هناك مغرب النخب المحمية، حيث يُسمح بهامش من النقد المروض، وتُضمن الحماية المؤسساتية، وتُطبّق القوانين بمرونة انتقائية. وفي المقابل، هناك مغرب الهشاشة السياسية، حيث يتحول أي احتكاك بالسلطة إلى مخاطرة مهنية وقضائية ورمزية، وتُمارس العقوبات الصامتة عبر المنع الغير المعلن، والتهميش، والتشهير. إن هذه الهندسة المعقدة تنتج مفاضلة مزدوجة: مادية ورمزية في آن واحد. وهي التي تُغذّي ثقافة الإفلات من العقاب لدى الفئات المحمية، وثقافة الإحباط واللايقين لدى عموم المواطنين، مما يُقوّض الإحساس بالانتماء إلى جماعة مصير واحدة.

 وفي المقابل، يصوغ الواقعُ "مغرباً ثانياً" للذين يقفون خارج نطاق الحماية الممنوحة وشبكات العلاقات والولاء لدوائر النفوذ. ويتعرّض أفراد هذا الوسط لعقوبات رمزية وممنهجة كالإقصاء المهني الغير المُعلن، وتقييدٌ للتقدم الوظيفي، ومتابعات قضائية انتقائية تُصاحبها أحياناً حملات تشهير. هذه الآليات لا تعمل بنصوصٍ رسمية، بل بلغةٍ ضمنية للسلطة غير المرئية تُترجم عبر شبكات النفوذ والعلاقات.

خاتمة: نحو أية دولة للمستقبل؟

 مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية والتشريعية في 2026، يتحول النقاش من مجرد تحليل الأزمة إلى طرح سؤال مصيري: هل ستستمر الحكومة في تلميع الواجهة وإخفاء التشققات البنيوية، أم ستشرع أخيراً في تفكيك آلة الممارسات التقليدية وإطلاق إصلاح حقيقي وجذري؟

والإصلاح المطلوب ليس ترقيعياً، بل جذرياً، يبدأ بإعادة الاعتبار للمؤسسات على أسس جديدة:

إصدار قانون جديد للصحافة ينشأ من حوار وطني حقيقي، يحمي حرية التعبير والوصول إلى المعلومة، جنباً إلى جنب مع المسؤولية المهنية، بعيداً عن منطق التجريم والعقوبات السالبة للحرية.

ضمان انتخابات شفافة وديمقراطية لإعادة بعث هيئات التنظيم الذاتي للصحافة، وتحريرها من الوصاية الإدارية.

إنشاء هيئة وطنية مستقلة تماماً عن السلطة التنفيذية للإشراف على نزاهة وموضوعية التعيينات في جميع المناصب العليا، وتقييم الالتزام بفترات "التطهير" من تضارب المصالح.

تعزيز الرقابة البرلمانية والمؤسساتية المستقلة، مثل المجلس الأعلى للحسابات ومجلس المنافسة، على الصفقات العمومية الكبرى والقرارات الإستراتيجية، وتزويدها بوسائل التحقيق الفعلية لتكون سداً منيعاً أمام توغل المصالح الخاصة.

هذه الإصلاحات ليست رفاهية فكرية أو مطالب نخبوية؛ بل هي شروط أساسية لاستعادة رأس المال الاجتماعي غير الملموس المتمثل في الثقة، ولمنع تمزق العقد الاجتماعي.

الخطر الأعظم يكمن في أن "الشرخ السيميائي" بين الخطاب والممارسة، لم يعد شأناً داخلياً فحسب. في زمن التواصل والمعلومة، هذا الشرخ يهدر المصداقية الدولية للمغرب، ويضعف جاذبيته الاستثمارية، ويقوّض قدرته على مواجهة التحديات الداخلية، خصوصاً في قضايا مصيرية وحساسة مثل الوحدة الترابية، التي تتطلب مجتمعاً متماسكاً وواثقاً في عدالة مؤسساته.

فالشرخ السيميائي الداخلي لم يعد مسألة داخلية خالصة، بل أصبح مؤشراً يؤثر في صورة المغرب دولياً، وفي جاذبيته الاستثمارية، وفي صلابته الداخلية، ويولد ما يمكن تسميته بـ"سكيزوفرينيا الحكامة": سرعة قصوى في المشاريع الملكية والإستراتيجية، مقابل بطء وارتباك في التدبير الحكومي.

إن حماية صورة المغرب وجاذبيته للاستثمار، وتقوية الجبهة الداخلية في مواجهة التحديات الخارجية، تبدأ ببناء دولة الحق والقانون، لا دولة الامتيازات والتعليمات، وبإرساء حوار جاد وقبول الاختلاف.

السؤال الحقيقي لم يعد: ماذاتقولالدولة؟ بل أصبح: ماذاتفعل؟

فالجواب على مستقبل المغرب لا يُكتب في البلاغات الرسمية، بل في قرارات الحكومة، في نزاهة التعيينات، وفي جرأة غرف التحرير.

هناك فقط، وليس في أي مكان آخر، يتحدد ثمن الاستقرار الحقيقي ومصير الوطن المشترك.

الإجابة ليست مختبئة في الخطابات الرنانة، بل مطبوعة في الممارسة اليومية، أي في قرارات المحاكم والحكومة، وفي جرأة غرف التحرير، وفي نزاهة لجان التعيين.

هناك فقط، ستتحدد الإجابة الحقيقية لثمن استقرارنا ومصير وطننا المشترك وازدهاره.

الآراء الواردة في مقالات الرأي تعبر عن مواقف كاتبيها وليس على الخط التحريري لمؤسسة الصحيفة

ما يجب قوله للإسبان في مدريد؟

في الوقت الذي تعقد فيه الحكومة الإسبانية ونظيرتها المغربية، اليوم الخميس، بمدريد الدورة الثالثة عشرة من الاجتماع الرفيع المستوى، مع ما يعكس ذلك من تطور كبير في العلاقات الثنائية بين ...

استطلاع رأي

مع قُرب انطلاق نهائيات كأس إفريقيا للأمم "المغرب2025".. من تتوقع أن يفوز باللقب من منتخبات شمال إفريقيا؟

Loading...