"الهاكا" تحفظ ثلاث شكايات تقدمت بها فرق المعارضة البرلمانية ضد وصلة تلفزيونية بثتها القنوات العمومية اعتبرتها "دعاية سياسية مبطنة" للحكومة

في تطور جديد ضمن الجدل المحتدم حول حدود الحياد الإعلامي واستغلال الرموز الوطنية، أصدرت الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري (الهاكا) قرارا يقضي بحفظ ثلاث شكايات تقدمت بها فرق المعارضة البرلمانية ضد وصلة تلفزيونية بثتها القنوات العمومية بمناسبة تنظيم المغرب لكأس العالم 2030، اعتبرتها تلك الفرق بمثابة "دعاية سياسية مبطنة" توظف منجزا وطنيا جامعا لخدمة أجندة حزبية ضيقة.

الشكايات، التي جاءت من أحزاب التقدم والاشتراكية، والحركة الشعبية، والعدالة والتنمية، اتهمت الحكومة بالوقوف خلف هذه الوصلة التي تربط بين تنظيم المغرب للمونديال وعدد من الأوراش الاجتماعية، في ما اعتبرته المعارضة "تمريرا سياسويا غير مشروع عبر القنوات العمومية"، يستغل ما يفترض أن يكون مكسبا وطنيا مشتركا لصالح تيارات حكومية معينة.

في مقابل هذه الاتهامات، قررت الهيئة العليا حفظ الشكايات، بعد دراستها من خلال مستويين اثنين، الأول، يخص الطبيعة القانونية للمادة الإعلامية، حيث خلص المجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري إلى أن الوصلة المعنية "لا تتوفر فيها الخصائص المكوِّنة للإشهار كما حددها الفصل 2، الفقرة 1 من القانون رقم 77.03 المتعلق بالاتصال السمعي البصري"، وبالتالي فهي لا تدخل ضمن خانة الإشهار التجاري أو السياسي الممنوع.

وفي تعليله، أكد القرار أن الوصلة لا تتضمن أي مضمون أو رمز أو لغة بصرية أو صوتية تحيل بشكل مباشر أو غير مباشر إلى حكومة معينة أو تيار سياسي محدد، بل تم عرضها كرسالة موجهة إلى المواطن المغربي بهدف التوعية بأهمية الانخراط في أوراش اجتماعية ذات طابع وطني صرف.

وأضافت الهيئة، أن الوصلة اختُتمت برمز المملكة المغربية دون أي شعار حزبي أو حكومي، معتبرة ذلك عنصرا فاصلا يؤكد على الطابع الوطني للمادة وليس السياسي.

وفي المستوى الثاني من التحليل، ركّزت الهيئة على مضمون الرسالة الإعلامية ذاتها، حيث أظهرت نتائج المعاينة أن الوصلة تشير إلى عدد من الأوراش ذات الطابع الاجتماعي، لكنها – بحسب قرار الهيئة – لم تحتوِ على أي تمجيد صريح أو ضمني لمواقف حزبية أو لسياسات حكومية معينة.

كما نفت الهيئة ذاتها، وجود أي إشادة بعمل أو نتائج أحزاب بعينها، أو تلميحات لمصالح مجموعات سياسية أو اقتصادية أو إيديولوجية، وهو ما جعل مضمون المادة، في نظر المجلس، لا يُخِلّ بمقتضيات المواد 1.49، و1.52، و55 من دفتر تحملات شركة صورياد القناة الثانية، الجهة المنتجة للوصلة.

وبينما تصرّ المعارضة على أن الرسالة التلفزية تُوظف حدثا وطنيا جامعا لصالح خطاب سياسي موجه، ترى الهيئة العليا أن غياب كل مؤشرات الانحياز السياسي – شكلا ومضمونا – يُسقط عن المادة أي شبهة دعاية حزبية.

ويعيد هذا الجدل إلى الواجهة سؤالا قديما متجددا حول حدود التماس بين الرموز الوطنية والخطاب الحكومي داخل الإعلام العمومي، هل يكفي عدم ظهور شعار حزبي لتأكيد الحياد؟ وهل تستوجب حماية الفضاء العمومي تشديد التأويل أم توسيع التسامح عندما يتعلق الأمر بإنجازات وطنية؟

ورغم الحسم القانوني من طرف "الهاكا"، يبدو أن الجدل حول استغلال الإعلام العمومي لن يُغلق سياسيا بهذه السرعة، خاصة في ظل تنامي الاتهامات داخل المعارضة للحكومة باستباق الحملات الانتخابية عبر أدوات الدولة الرمزية والإعلامية.

ومع اقتراب مواعيد انتخابية واستحقاقات كبرى، تُطرح من جديد إشكالية الحياد الإعلامي، وتكافؤ الفرص في الفضاء العمومي، وحماية الرموز الوطنية من التأويل السياسوي، فقرار "الهاكا" قد يكون أغلق ملفا قانونيا، لكنه بالتأكيد فتح نقاشا أوسع حول العلاقة الملتبسة بين الدولة والسياسة في الخطاب التلفزي العمومي.

وفي هذا الإطار، قال ياسين المودن، أستاذ القانون الدستوري وخبير السياسات الإعلامية، في تصريح لـ"الصحيفة": إنه "يجب أن نُميز بدقة بين احترام النص القانوني وبين احترام روح الدستور والمبادئ المؤطرة للحياد الإعلامي، صحيح أن الوصلة موضوع الشكايات لا تتضمن شعارات حزبية أو أسماء تيارات سياسية، ولا تنطبق عليها من الناحية الشكلية مواصفات الإشهار السياسي، لكن المشكل يكمن في البنية الرمزية للمحتوى، وفي التوظيف غير المباشر للمنجز الوطني — في هذه الحالة تنظيم كأس العالم 2030 — لتمرير رسائل سياسية ناعمة، قد تُفهم في سياق داخلي مشحون على أنها جزء من استراتيجية تواصلية تهدف إلى تحسين صورة الحكومة وأغلبيتها السياسية."

وشدّد المودن، على أن الخطورة لا تكمن في خرق صريح للقانون بل في الالتباس المقصود بين الدولة والحكومة، بين ما هو ملك للجميع وما تحاول أطراف معينة نسبه لذاتها السياسية، موردا: "استخدام الرموز الوطنية ليس في ذاته خرقا، لكنه يصبح محط شبهة عندما يُدرج ضمن خطاب إعلامي يُركز على 'الأوراش الاجتماعية' في توقيت حساس سياسيا، ودون إعطاء مساحة مماثلة للتعددية أو للرأي الآخر، كما تقتضيه التزامات الإعلام العمومي."

وأردف المتحدث، أن ما نحتاجه اليوم ليس فقط رقابة قانونية تقنية، بل رقابة قيمية تستحضر السياق السياسي، وتُحصّن الفضاء العمومي من التوجيه غير المعلن للرأي العام، "خاصة حينما يتعلق الأمر بوسائل إعلام مُمولة من المال العام، فالمسألة ليست تقنية، بل مرتبطة بجوهر التنافس الديمقراطي ومبدأ تكافؤ الفرص بين الفاعلين السياسيين."